شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرملف التاريخ

قراءة في مذكرات الصحافي المطلوب رقم 1 لدى جنرالات الجزائر

هل تريد مافيا الجزائر محو أثر الصحافي هشام عبود فاضح جرائم العُشرية السوداء؟

يونس جنوحي

مقالات ذات صلة

 

هل فبرك هشام عبود قصة اختطافه، فوق التراب الأوروبي، على يد المخابرات الجزائرية؟ حتى لو كان الرجل مبالغا في تفاصيل تتعلق باختطافه، أخيرا، خارج التراب الجزائري، فإن رصيده من معارضة الجنرالات أيام كانت الكلمة تكلف صاحبها حياته، داخل الجزائر وخارجها أيضا، يُضفي مصداقية كبيرة على فرضية رغبة جنرالات الجزائر، أو من تبقى منهم على قيد الحياة، في وضع حد لحياة هذا الصحافي.

في هذا الملف نقترح عليكم مضامين مثيرة من مذكراته التي صدرت في باريس سنة 2002،La Mafia des »

«Generaux، والتي يحكي فيها كيف انتقل من العمل في المؤسسة العسكرية، إلى صحافي مزعج للجنرالات، إلى أن قرر الهرب بجلده حتى لا يتم اغتياله، مع نهاية التسعينيات، وينشر المذكرات التي تسببت في زوبعة سياسية في فرنسا، لهول الجرائم والفظاعات التي فضحها عبود.

++++++++++++++++++++++++++++++++

 

بعد فترة «هدنة» باردة بينه وبين الجنرالات، فاقت عقدين من الزمن، ها هي الملاحقة تعود من جديد لتلاحق الصحافي الجزائري المثير للجدل، هشام عبود.

هذا الصحافي الذي خرج ليقول إن أفراد من الأجهزة السرية الجزائرية اختطفوه وعذبوه واستنطقوه، قبل أن يخرج ليفضح ما جرى له من تضييق تآلف معه، منذ تسعينيات القرن الماضي.

نسبة من الجزائريين شككت في رواية هشام عبود، بينما أغلبية ساحقة تعاطفت معه، بحكم ماضيه «غير السعيد» مع جنرالات بلاده.

في هذا الملف، نعود إلى أقوى مضامين مذكرات هذا الصحافي، والتي نشرها سنة 2002 بعنوان La Mafia des » «Generaux.

انفردنا في «الأخبار» بنشر أقوى مضامين هذه المذكرات التي نُشرت باللغة الفرنسية، وترجمنا مقتطفات صادمة منها إلى العربية.

وهنا، نورد مثالا على الطريقة التي فضح بها هشام عبود أحد عشر جنرالا، الذين حوّلوا، حسب روايته، الجزائر إلى بركة من الدماء.

يقول هنا متحدثا عن محمد التواتي، أحد أشهر العسكريين في الجزائر، والذي كان الجزائريون يُلقبونه «المخ»، نظرا إلى المسؤوليات التي شغلها في الجيش الجزائري، منذ استقلال البلاد عن الاستعمار الفرنسي:

«إنه متعلم آخر داخل نادي الـ11 عسكريا، لقد انضم هو الآخر بدوره إلى جيش التحرير الوطني سنة 1961، حيث تحرك داخل القاعدة المشهورة بـ«FLN» في المغرب. مصادر متطابقة تؤكد أنه كان عنصرا ممتازا سنتي 1957 و1958، في حين أنه وقتها كان مجندا في الجيش الاستعماري الفرنسي، وارتكب مجازر وحشية ودموية ضد المواطنين العزل في «تادميت»، حسب شهادات سكان المنطقة المحليين».

هذا نموذج فقط على الطريقة التي كُتبت بها هذه المذكرات، والتي شرّح فيها هشام عبود العلاقات بين الجنرالات، والأدوار التي تقاسموها بينهم أيضا.

ومن بين الذين فضحهم أيضا، نجد العسكري «غزيل».

لقد كان «غزيل» أحد مهندسي عملية سيطرة العصابة على منابع الثروة الوطنية في الجزائر، وتحويلها إلى حسابهم، حسب الولاءات.

ظهر دور «غزيل»، كما يقول هشام عبود، في أكتوبر سنة 1980 في عملية حصار مدينة الشلف.

وقبل أن نتفصل في الممارسات التي تورط فيها، يكفي أن نعلم أنه غادر الحياة السياسية والعامة سنة 1999، بعد أن كان يشغل منصب قيادة الدرك الوطني، وهو منصب غاية في الأهمية والحساسية. وتحدث الجزائريون عن مصير غامض لهذا الرجل، الذي كان مؤثرا جدا في المشهد السياسي والأمني والعسكري. وقبل أن يتمادى المتحمسون في نشر إشاعات عن انتقام النظام منه، عاد من جديد ليظهر سنة 2001 إلى جانب محمد العماري، وبعدها تم تعيينه مستشارا لعبد العزيز بوتفليقة، ليتأكد للجميع أن العصابة لم تكن لتضعف نهائيا، وأن رؤوسها لا تذهب إلى الظل، إلا لكي تعود أكثر قوة إلى الواجهة.

قصة «غزيل» مثيرة للغاية، وبدا واضحا أن هشام عبود في هذه المذكرات أراد تسليط الضوء عليه بشكل خاص، وبصورة مركزة، نظرا إلى الأهمية التي كان يشغلها خلال أحداث الثمانينيات، والتي لا يزال الجزائريون يحملون آثار ندوبها وجراحها إلى اليوم.

ولكي يقربنا هشام عبود من شخصية «غزيل»، يقول: «في أحد الأيام، بعد أن قضى أزيد من ساعتين جالسا إلى طاولة، كان يحتاج إلى مشاهدة التلفزيون. وهكذا توجه بالخطاب إلى ليوتنان شاب في المفوضية السياسية، وهو سويدة عيسى، وخاطبه بصوته الصخري الأجش: «هيه! أنت، اذهب وأحضر لي جهاز تلفزيون»».

كانت تلك طريقته في الحديث مع عسكري برتبة «ليوتنان»، فما بالك بعامة الشعب.

 

 

عندما يقرر صحافي فضح مؤامرات عسكريين على البلاد

لفهم هذه العلاقات بين رجال الجيش جيدا، بحكم أنهم كانوا يتبادلون بينهم الاتهامات بالتورط في جرائم إبادة جماعية للمواطنين، في أكثر من مناسبة، فقد شرّح عبود هذه العلاقات المتشابكة بالقول: «كان هناك ضجيج وتوتر كبير في العلاقات بين قادة الجيش. فريق من الجنرالات، وهم ثلة من قدماء الضباط المعزولين اجتمعوا عند الجنرال عياد لكحل، في منطقة «ديلي إبراهيم». في الوقت الذي تردد فيه أن رجال ثقة الرئيس الشاذلي، وبينهم الجنرال نزار وبتشين، مجتمعون في الوقت نفسه، في مقر الأركان العامة في منطقة عين نعجة.

اتفق الرجلان على أن يضعا خلافاتهما جانبا، ويقوما بإنقاذ النظام».

من بين النقاط التي لم يكن فيها عبود محايدا، أو اتُهم بأنه لم يكن منصفا في تناول تجاوزات أفراد من الجيش، ما يتعلق بأدوار بعض أصدقائه القدامى، قبل أن يستقيل من المؤسسة العسكرية.

ومن بين العسكريين الذين دافع عنهم، عسكري اسمه البشير.

حاول ممارسة النقد في حق المؤسسة العسكرية التي اشتغل بها لسنوات، والتقى داخلها مع شخصيات من المُعسكرين، أي من الذين كان لديهم ضمير مهني ودخلوا الجيش من بوابة محاربة الاستعمار وتأسيس جزائر جديدة، ثم أصحاب المعكسر الثاني، وهم الأغلبية، حيث حاولوا السيطرة على مفاصل الدولة، واستغلوا الحرب على الإرهاب لشن حرب على الجماعات الإسلامية، وخططوا لعمليات إرهابية حقيقية فاقت محاولات الإسلاميين في حربهم ضد الجيش.

يقول عبود بخصوص صديقه البشير، إنه كان وجها بارزا بين العسكريين السامين كلما ذكر موضوع العسكريين المعنيين بمكافحة الإرهاب، رغم أن المتورطين الحقيقيين في نظره كانوا في الظل، وبعيدين تماما عن منطقة «بن عكنون».

مضى عبود بعيدا، محاولا تبرئة ساحة صديقه، حيث قال إنه يستبعد تماما أن يكون البشير متورطا في استغلال النفوذ، أو مراكمة الثروة من وراء سلطته العسكرية.

ولم يفته أيضا أن يؤكد وجود حالات داخل كبار شخصيات الجيش الجزائري خلال مرحلة «العُشرية السوداء»، كانت تشتغل بجد لاستعادة الأمن في بعض المناطق التي عرفت عمليات مواجهات مسلحة بين المتطرفين والجيش، ولم تسعى وراء الترقيات أو الاختلاسات.

لكن بالمقابل، كانت الغابة الكثيفة من الأسماء التي استغلت البذلة والرتبة العسكرية شاسعة جدا ومُظلمة.

من بين الملفات التي فضحها عبود في مذكراته، واقعة تتعلق بتورط المؤسسة العسكرية والأمنية في اختفاء أحد الشبان الجزائريين، وعمل الجيش لاحقا على وضع اسمه في لائحة الإرهابيين!

هذه الواقعة يقدمها هشام عبود دليلا على فبركة الجنرالات للأحداث الإرهابية والوقوف وراءها، ونسبها لاحقا إلى جهات أخرى. هذا الشاب غادر منزل أبناء عمه، في حي شعبي وسط الجزائر، وكان في طريقه إلى بيته يوم 30 أكتوبر، مباشرة بعد خطاب رئيس الجمهورية بمناسبة ذكرى انطلاق حركة تحرير الجزائر.

قامت فرقة من الجيش باعتقال الشاب، رغم أنه لم يخرق حالة الطوارئ وحظر التجوال، وقضى ساعات عصيبة في محجز الثكنة العسكرية، قبل أن يُسلم إلى الكوميسارية، وهناك تم إخبار أسرته أنه سوف يتم إطلاق سراحه، بعد توقيع محضر بالواقعة. بل وأكد لهم الشرطي المناوب أن الشاب موجود عنده وناداه، وسمعت الأسرة صوتا يرد بالإيجاب. لكن الأسرة فوجئت بعد ثلاثة أيام طويلة من الانتظار، بتغير موقف الشرطة، حيث أنكر شرطيو الكوميسارية وجود الشاب عندهم طيلة تلك المدة.

الواقعة كلها كانت محيرة، وبدا واضحا أن نهاية الشاب كانت في تلك الكوميسارية، ولا بد أنه أيضا تعرض للتعذيب.

لكن المثير أن أبناء عم المناضل الديموقراطي، لم يهضموا تلك الإهانة التي تلقوها من عنصر شرطة على باب الكوميسارية، ودخلوا معه في مشادة كلامية، حيث كانوا يصيحون ويخبرونه أن الكوميسارية نفسها كانت تؤكد لهم طيلة ثلاثة أيام بلياليها، أن الشاب محتجز لديها، وأنها سوف تطلق سراحه فور إنجاز محضر بالواقعة وتوقيعه، ليفاجؤوا بانقلاب موقف الشرطي المناوب. وبينما كانوا في غمرة النقاش الحاد والتهديد، حيث تعرضوا لإهانات كما لو أنهم مجرمون، تدخل شرطي بالزي المدني، بدا واضحا أنه من مصالح المخابرات، وصاح في الإخوة، كما يحكي هشام عبود هنا:

-هيا، اذهبوا وابحثوا عنه في مستودع الأموات «بولوغين»، إن كان هناك.

لم يصدق أفراد الأسرة آذانهم، فهموا بسرعة أن الأمر لم يعد يتعلق أبدا باحتجاز غير قانوني، أو تهمة ثقيلة قد تتعلق بتقديم المساعدة للمتطرفين، أو إيوائهم. الأمر أصبح يتعلق بوفاة قد تكون تحت التعذيب.

ناضلت الأسرة كثيرا لكي تحصل على جواب، لكن تم إخبارها بأن الشاب مات، لأنه «إرهابي». ودخلت في معركة حامية للحصول على براءة الشاب من تهمة الإرهاب، وكان الأمر صادما للعائلة وأصدقاء الراحل، لأنهم كانوا يعرفون جيدا أنه لم يكن مرتبطا نهائيا بأي جماعة متطرفة، لا من قريب ولا من بعيد.

كما أن عبود تحدث عن وجود جناح في مستودع الأموات يحمل اسم «الجزائري X»، لكثرة حالات الاغتيال التي سُجل أصحابها مجهولي الهوية، ولم يتردد الجيش في وضع أسمائهم في لوائح الإرهابيين، لتعزيز المؤامرة.

 

 

 

++++++++++++++++++++++++++++++++++++

 

 

 

قصة مغادرة الجيش و«معانقة» الصحافة

أحد أقوى أسباب الحملة الشعواء التي شُنت ضد الصحافي هشام عبود، تحكم فيها ماضيه العسكري. إذ إنه كان في سلك الجيش، قبل أن يعتنق الصحافة التي تسببت له في كثير من المتاعب مع رؤسائه السابقين، وجرّت عليه اتهامات بالعمالة والولاء لجناح في المخابرات، بسبب الصداقة التي كانت تجمعه أيام الانتساب إلى الجيش، مع عدد من الشخصيات، بعضها صارت أساسية في المشهد السياسي خلال التسعينيات.

في مذكراته، استحضر هشام عبود فترة البدايات، أيام اختلط عليه حلم ممارسة الصحافة مع الخِدمة العسكرية والانتساب إلى الجيش.

يقول هشام عبود إنه سنة 1978 عندما تخرج من المعهد العالي للعلوم السياسية والإعلام، التحق مباشرة في شهر أكتوبر من تلك السنة بمدرسة تكوين الضباط الاحتياطيين، والتي كانت تقع في البلدية، حيث استغرق منه التكوين تسعة أشهر، «وُلد» بعدها رسميا في عالم الجيش. وهناك تعرف على «عالم» آخر، كان فقط يسمع عنه عندما كان طالبا، وصحافيا تنشر له مقالات في الرياضة والسياسة في عدد من الصحف المعروفة في الجزائر. ويحكي في مذكراته عن هذه اللحظات:

«أتذكر الحقبة التي قررت فيها الانخراط والمشاركة في الجيش كضابط صف، كنا في يونيو 1975، لم يكن الأمر لا من أجل صناعة مسار مهني – كنت بصدد إنهاء سنتي الأولى في المدرسة الوطنية العليا للصحافة، والتي أصبح يطلق عليها في السنة المقبلة، بشراكة مع معهد الدراسات السياسية، اسم المعهد العالي للعلوم السياسية والإعلام- ولا من باب الاهتمام، لأني كنت متعاونا من قبل مع أسبوعية «حركة الشباب» براتب شهري قدره 600 دينار، والذي كان ينضاف إلى منحتي الدراسية التي كانت قيمتها 360 دينارا. كان الوضع مثاليا».

ولكي نختصر المسار، فإن هشام عبود أصيب بالصدمة لهول ما رأى وسمع أثناء عمله في الجيش، خصوصا عندما تعرف على المسؤولين الكبار في المؤسسة العسكرية، وحضر اللقاءات الدبلوماسية مع مسؤولين في المخابرات من الجزائر، ومن دول أخرى، وخرج بخلاصة مفادها أنه يتعين عليه أن يهرب سريعا من المستنقع الذي وجد فيه نفسه، وفهم أيضا أن حُلم تقديم إضافة مهنية إلى الجيش من باب الصحافة والإعلام العسكري، لم يكن كما كان يتصوره، خصوصا في فترة التسعينيات التي غرقت فيها البلاد في حمام دم. يحكي هشام عبود هنا عن فترة اقتناعه بضرورة الاستقالة من الجيش والتفرغ للصحافة المستقلة:

« (..) في تلك الأثناء، قمت بطلب الكومندان عاشوري حمودة، والذي كان على وشك الحصول على التقاعد، مساعدتي للانسحاب من الجيش. لقد أصابني الوضع بالاشمئزاز. أجاب الكومندان:

– أنت لا تزال شابا. في الجيش، لديك مستقبل أمامك. حاول أن تعمل بهدوء، وسوف تنتهي ملتزما بالنظام.

– أنتم، «مون كوموندان»، ماذا ربحتم؟ أنتم من قدماء المجاهدين. ورجل جامعي محترم وصادق. بقيتم لعشر سنوات في رتبة «كوموندان»، قبل أن تتم إحالتكم على التقاعد. نحن الشباب، الذين نرى في أمثالكم قدوة لنا، ليس لدينا أي مستقبل في الجيش.

بعد أيام، سوف ألتقيه في بن عكنون، حيث توجد ثكنات أمنية عسكرية. استقبلني بمعية الكوموندان محمد الطاهر عبد السلام، والذي التقيته للمرة الأولى.

أصبت بدهشة كبيرة، عندما دعاني الرجلان إلى ترك المصلحة السياسية والالتحاق بالأمن العسكري. عارضتهما، ورفضت بشكل قاطع.

  • لدي حساسية من اللباس الموحد، كل ما أريده مغادرة الجيش.

الكوموندان محمد طاهر كان رجلا يتقن المجاملة والإقناع، أجابني:

– أنت ترى جيدا أنني لا أرتدي البذلة العسكرية، إنها مجرد تفاصيل. الكوموندان حمودة أخبرني أنك كنت مُسيسا جدا. إذن أقترح عليك أن تُمارس السياسة. أنا مكلف بالشرق الأوسط، عملي ليس عملا بوليسيا، أقترح عليك القيام بالأمر نفسه.

حاولت أن أقاوم، لكن الكوموندان محمد طاهر لم يستسلم:

  • صحيح أنك «شاوي»، رأسك صلب. أحب الرجال أمثالك. معا، أنا متأكد أننا سوف نشكل فريقا جيدا. فكر في الأمر، وسوف نلتقي بعد أسبوع».

 

 

أكثر من 30 سنة من المضايقات بسبب نشر أخبار عن «الجنرالات»

عندما غادر هشام عبود الحياة العسكرية سنة 1992، وارتمى في أحضان صاحبة الجلالة، بحثا عن فضاء أرحب، سرعان ما اكتشف أن الصحافة في الجزائر كان يُمارس عليها تضييق عسكري أكثر مما يُمارس على الثكنات.

أول تجربة صحافية في حياة عبود، بعد مغادرة الجيش، كان اسمها «الأصيل». صحيفة ورقية، أراد من خلالها نشر ما لم يكن يُعجب الجنرالات أن يُنشر عنهم.

استمرت تجربة صحيفة «الأصيل» 11 شهرا فقط لتتوقف، يقول هشام عبود إن مافيا الجيش الجزائري هي التي كانت وراء إيقاف أسبوعيته.

يحاول هذا الصحافي في الفقرات والفصول الأولى للكتاب، أن يلخص لنا مساره بكل المنعرجات الخطيرة.

بعد ذلك اتجه صوب تجربة أخرى، «LE LIBRE»، جرّت عليه هي الأخرى مشاكل لا حصر لها.

كانت الأخبار التي نشرها هشام عبود في جريدة «LE LIBRE» وراء إيقاف صحيفته. إذ كان من الطبيعي أن يكون على اتصال ببعض مصادره داخل مؤسسة الجيش، وهكذا نشر بعض الأخبار التي اعتبرت وقتها سبقا صحافيا حقيقيا، منها أخبار عن تعيينات وإعفاءات في الجيش. وهذا الأمر أزعج الجنرالات كثيرا، وتبين لهم أن هشام عبود رغم مغادرته المؤسسة العسكرية، إلا أنه لا يزال يتوفر على مصادر قوية داخل دواليب «المافيا»، كما يحلو له أن يسميها.

لم تنكتم أنفاس الصحيفة كليا، فبسبب المضايقات التي مورست عليه، قرر أن يحول الصحيفة بعد أشهر من العمل اليومي، إلى أسبوعية يتناول فيها مواضيع اعتبرت وقتها «جريئة». وانفرد وقتها بنشر خبر تعيين الجنرال بتشين وزيرا ومستشارا لرئيس الجمهورية.

ويحكي هشام عبود في هذا المقطع عن جانب من معاناته مع الاستدعاءات للتحقيق، وفي مقاطع أخرى من مذكراته، نشر معطيات عن تعرضه للمساومات من مخبرين ومرسولين من طرف مسؤولين في الأجهزة السرية.

يقول: ««بداية نونبر 1994 تحولت «LE LIBRE» إلى أسبوعية، بعد أن استطعت سحبها من مطبعة في الجزائر العاصمة، كانت تحسب عليّ ضعف التكاليف التي تحسبها على الصحف الأخرى. خمسة عشر يوما بعد صدور أول عدد أسبوعي، تم احتجازي داخل مكتب مدير المطبعة من طرف ثلاثة عناصر من الاستعلامات العامة. هذا ثاني اختطاف أتعرض له خلال السنة، بعد محاولة أخرى في أبريل، حيث وعدني رجال الجنرال توفيق برصاصة في الرأس.

هذه المرة، كان ظهري مستندا إلى الجدار. في صلواتي اليومية الخمس، ما زلت دائما أدعو الله أن يخرجني سالما من هذه المحنة.

في الكوميسارية المركزية بالعاصمة، استُقبلت من طرف المحقق محمد سنتودجي وفريقه، وتم التعامل معي جيدا.

التعامل الذي خصني به هؤلاء الشباب، كان دليلا على أن الشرطة الجزائرية لا تضم الأغبياء فقط».

هذه الوقائع كلها، التي جرت ما بين سنة 1992، تاريخ مغادرته للجيش، وسنة 2002 التي أصدر فيها مذكراته باللغة الفرنسية، من فرنسا، جعلت هشام عبود يستمر في معركته ضد الجنرالات في الجزائر أولا، ثم من باريس. ونشر معطيات تفضح كيف اغتنى جنرالات الجزائر، وتتبع مسارات بعضهم من سنوات الثورة الجزائرية فتأسيس الجزائر، إلى أن صاروا من كبار أثرياء البلاد.

 

 

كيف تحول العسكريون من ضباط بسطاء إلى جنرالات يمتلكون ثروات الدولة

 

ربط هشام عبود علاقات إنسانية مع عدد من الجنرالات والضباط، ولم يفته هنا أن يشير إليهم، ويشرح كيف أنهم أنفسهم عانوا من بطش الجنرالات، أعضاء العصابة التي حكمت الجزائر في فترة العُشرية السوداء، ويحملها عبود وآخرون مسؤولية المذابح التي حاولوا إلصاقها في الإسلاميين.

يتحدث عبود هنا عن علاقته بالكوموندان الطاهر الذي حاول ثنيه عن قرار الاستقالة من الجيش سنة 1992، يقول: «أمام إصراره، انتهيت إلى الاقتناع بحججه. بدأت مستشارا، ثم مسؤولا عن ملف الشرق الأوسط، فرئيسا لمكتب قسم الأمن الخارجي، ثم في مكتب التقييم والتحليل، وأخيرا مديرا للديوان. المناصب التي شغلتها سمحت لي بقياس الضرر الذي تسبب فيه هذا الأخطبوط المتشعب إلى ما لا نهاية.

بعد أربع سنوات في الأمن العسكري، لم أعد قادرا نهائيا على تحمل نظام مماثل. في سنة 1990 غادرت مكتبي وكتبت أول استقالة لي، استغرق الأمر مني سنتين وثلاث محاولات أخريات».

الفصل الذي يحمل عنوان «المجرى الذي تم تحويله عن مساره» حافل بالأحداث والوقائع. بدايته بدا واضحا أن هشام عبود وجهها إلى غير الجزائريين، بحكم أنه سرد ما يشبه «كرونولوجيا» لنشأة الجيش الجزائري وبعض الشخصيات التي ارتبط وجوده بها، وصولا إلى المرحلة التي صرنا نعرفها جميعا.

وهو فعلا جيش جرى تغييره عن مساره كما يتضح. إذ إن الغاية التي تأسس من أجلها تناقض واقع حال المؤسسة العسكرية التي صارت تحتكر كل شيء في الجزائر، وتطغى على المدنيين وتفرض على الساسة ما يفعلونه.

يقول هشام عبود: «الجنرال الشلوفي، الأمين العام السابق لمكتب وزارة الدفاع، كان من هذا النوع. لم يكن راضيا عن إقامة «بوركو» الموروثة عن الاستعمار في منطقة بوشاوي، وبنى أخرى أجمل وأكثر تكلفة على بُعد كيلومترات فقط. لكن، بما أنه احتفظ بعقلية استعمارية، فإنه توجه إلى ألمانيا لكي يطلب مساعدات اجتماعية، ويلعب دور المتسول عند الممثلين الدبلوماسيين المعتمدين في «بون». شخص آخر، يسمى «بن الأحرش»، كان كوميسيرا في «مصلية»، فضل أن يضع الفيلا الخاصة به للكراء رهن إشارة الأجانب، وليس للجزائريين».

يقول هشام عبود إن نخبة من رموز الجيش الجزائري في سبعينيات القرن الماضي راكموا ممتلكات بصورة غير مفهومة، لكنها كانت واضحة. لم يكن هناك أي شك أبدا في أن الذمة المالية لهؤلاء المسؤولين العسكريين، الذين أمسكوا أيضا بزمام الأمن، ملوثة. إذ بدا واضحا أن رواتبهم في الجيش، وحتى العلاوات التي يمكن أن يراكموها طيلة مدة خدمتهم، لا تغطي أبدا نفقاتهم المرتفعة، ولا ممتلكاتهم التي يجاهرون بالتوفر عليها.

ما يريد هشام عبود قوله هنا، إن الصف الأمامي والذي يليه من مسؤولي الجيش في الجزائر كانوا فاسدين، ولم يكن لديهم أي مشكل في إظهار الأموال والثروة التي راكموها من وراء مناصبهم. وهكذا كان موظفو الأمن والجيش يعلمون أن بعض الأسماء تتوفر على فيلات فخمة وسيارات فارهة جدا في مختلف ربوع البلاد ويترددون عليها، بل هناك من وضع عناصر من الجيش لحراستها وبعلم الإدارة، وهو ما كان يعني أن القيادة كانت فاسدة تماما. وكان مثيرا للانتباه أن المُشترك بين هؤلاء الناس جميعا أنهم كانوا ينحدرون من أوساط عائلية و«تاريخية» متواضعة جدا، ولم يكن النعيم الذي يعيشون فيه إرثا عائليا ما، أو استثمارا في أملاك تلك الأسر. يتعلق الأمر بأناس جاؤوا من الهامش وانطلقوا من الصفر وراكموا الأموال، بفضل سلطاتهم في الجيش.

 

 

المحادثات الساخنة بين الرئيس بن جديد وكبار المسؤولين بعد تورط الجيش في مجزرة 1988

يعود بنا هشام عبود في هذه المذكرات إلى سنوات الثمانينيات، والتي كان خلالها يعمل في الجيش، وعاش بحكم قربه من كبار المسؤولين، وقائع فظيعة تُثبت تورط الجيش في مجازر جماعية في حق المواطنين الجزائريين.

وما أن نشر في مذكراته مضامين ما وقع، خصوصا خلال أحداث سنة 1988 الأليمة، وفضح جرائم الجنرالات أمام الرأي العام الفرنسي والدولي سنة 2002، حتى أراد الجنرالات المسؤولون عما وقع، وكانوا لا يزالون في السلطة، اغتياله، وعلى الفور.

من بين أقوى المقاطع في مذكرات هشام عبود:

«أحد الضباط الصغار من فرق الشرطة اعترف بأنه خلال قمع المظاهرات في ساحة فاتح ماي، قد سمع الجنرال نزار يعطي الأمر لأحد العسكريين لكي يطلق النار فوق حشود المتظاهرين، يوم 5 أكتوبر 1988. الجنرال بتشين عارضه بسرعة، وأمر عناصر الجيش بإطلاق النار على الأرض من فوهات أسلحة الكلاشينكوف. هذه الشهادة أكدها لي الجنرال بتشين بنفسه، بعد خمس سنوات على الأحداث، أي سنة 1993 وشرحها قائلا:

  • لم أرد أن تكون هناك مجازر، أعطيتُ الأمر للعسكريين لكي يطلقوا طلقات تحذيرية في الهواء وعلى الأرض.

مهما كانت شروحاته، فإننا انتهينا إلى مصرع أزيد من خمسمائة مواطن في الجزائر العاصمة».

يقول هشام عبود، متحدثا عن الطريقة التي جرت بها لملمة الأحداث:

«عقب أعمال الشغب، عادت الأمور إلى طبيعتها المعتادة. مع فرق أن الشارع واصل الضغط على السلطة في مظاهرات، احتجاجا على الاعتداءات والتعذيب التي كان يذهب ضحيتها المتظاهرون.

كانت الفرصة مناسبة جدا ومثالية لإبعاد الجنرال لكحل عياط، وتحويله إلى كبش فداء. رغم ذلك، كان هناك الآلاف الذين استنكروا التعذيب الذي مورس في مخافر الشرطة. وكان بوزبيد، المدير العام للأمن الوطني، ومعه الخضيري، وزير الداخلية، محميين جدا وبعيدين عن الانتقاد.

أما الجنرال بتشين، الذي حمى نفسه جيدا، فقد كان غير مكترث على الإطلاق بما يقع.

أطيح بمزيد من الرؤوس لاحتواء الغضب الشعبي. رؤوس بعض المسؤولين في عضوية الكتابة العامة الدائمة لجيش التحرير الوطني، مثل محمد شريف مسعادية. قال له الرئيس الشاذلي:

  • سي محمد شريف، هذه الأوقات التي نمر بها عصيبة، وأنت متعب، يجب عليك أن تذهب.

فأجابه شريف بالطريقة نفسها:

-لا يا سيدي الرئيس، أنا دائما بجانبك. لن أتركك لوحدك في هذه الفترة العصيبة. أنا دائما مستعد للتضحية من أجل الثورة».

نشر عبود أيضا في مذكراته مقطعا غاية في الخطورة، يتحدث فيه عن الطريقة السوريالية التي أريد بها لملمة الأحداث:

«لم يُقنع محمد شريف الرئيس الشاذلي الذي كان قد اتخذ القرار سابقا للتضحية بهذا الرمز الذي يمثل المسؤولين الذين تم تجريدهم من رتبهم، وانتهى بتسريحه:

  • سي محمد شريف، الشعب لا يحبك، عليك أن تختبئ لبعض الوقت.

وقام محمد شريف بالاختباء إلى يومنا هذا في سنة 2001، حيث تذكره قريبه وابن منطقته، الجنرال عبد المالك كنيزية، وعهد إليه برئاسة منطقة «صنّات». بعد 12 سنة على أحداث أكتوبر، أصبح محمد شريف الرجل الثاني في النظام».

يستحق فعلا محمد شريف لقب المنبعث من رماده. إذ بعد أن أقاله الشاذلي بن جديد، بحجة أن الشعب لا يحبه وأنه يجب التضحية به لامتصاص غضب الشارع، راح محمد شريف يتجرع المرارة، لأنه كان من بين الأقل سوءا، ولم يكن من متخذي القرار في الأحداث الأليمة. وشاهد بعينيه كيف أن المتورطين الفعليين بقوا في السلطة، بل وحصلوا على الترقيات. إذ إن هشام عبود أكد أكثر من مرة، أن الذين أعطوا الأوامر المباشرة بإطلاق الرصاص على المتظاهرين، حصلوا على ترقيات أمنية وعسكرية مهمة جدا، في سياق تعزيز الأمن في الشوارع.

لم يكن هذا الاسم سوى واحد فقط من الأسماء التي ارتبطت بقضايا دموية، لا يزال الجرح الذي تسببت فيه للأسر الجزائرية طريا، رغم مرور ما يقارب الآن أربعة عقود على هذه الأحداث. مذكرات هشام عبود، رغم أنها نُشرت منذ 2020، لكنها ما زالت إلى اليوم مرجعا مهما لفهم كيف يُصنع القرار في الجزائر الحالية، وكيف أن الذين تحدث عنهم، ولا يزالون على قيد الحياة، لا يزالون في الحقيقة يقودون البلاد.. لكن إلى أين؟

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى