* كاتب ومؤرخ مغربي
بعد أن قرأت هذا الفصل، تمكنت أولا، من الوقوف على شخصيتك، والغوص في أعماقك، وتفحص التمثلات التي كانت تراودك وأنت طفلة صغيرة. كما تمكنت أيضا من فهم تحليلك وتقييمك للمجتمع المصغر الذي عشت فيه، مجتمع درب الرومي وما جاوره من الأزقة في مدينة فاس. وفي هذا الصدد، روي عن الفيلسوف الشهير سقراط، المتوفي سنة 399 ق.م،أنه لاحظ ذات مرة أن كل تلاميذه قد أجابوا، إلا واحدا، فالتفت إليه قائلا: تحدث لأراك. الآن تكلمت، أي كتبت، فرأيتك. وبعد ذلك، نقل عن عمر ابن الخطاب أنه قال: أظل أهب الرجل حتى يتكلم، فإن تكلم سقط من عيني أو رفع في عيني. أنت لم تسقطي من عيني بل رفعت في عيني وزاد تقديري لك، بعد أن قرأت أيضا الكثير من تدويناتك المنشورة على حسابك على «الفيسبوك».
وأنا أقرأ لك، تذكرت أيضا ما قاله الأديب والفيلسوف بفون Buffon Le style c’est l’homme ou la femme dans le contexte actuel.
أنت من خلال ما كتبت، امرأة متوثبة، جريئة، وبركان من الحيوية والنشاط، منذ طفولتك الأولى. ودليلي في ذلك أنك كنت تريدين أن تسبقي زمانك وتحصلي، باكرا، على المساواة بين الذكور والإناث، بين الرجل والمرأة في الحقوق. ويتضح ذلك من مغامراتك في تسلق الجدران والقفز فوق السطوح، على غرار الذكور واقتحام مجالس الكبار، والاطلاع خفية على جلسات النساء أثناء إقامة الحفلات والولائم. ويفهم من هذا أنك كنت تريدين التحرر من رتابة المجتمع المحافظ الذي كنت تنتمين إليه. وهذه الصفات مكنتك، في ما بعد، من التعلم والوصول إلى الجامعة والترقي في سلم الوظيفة التي أشرت إليها، في القطاع البنكي كمسؤولة عن المراقبة وتدبير الموارد البشرية. ألم يقل المربي والفيلسوف بياجي:
la personalité de l’homme ou de la femme se forme avant 12 ans?
أنت، وصفت درب الرومي وما جاوره من الأزقة، حومة تجمع الأرستقراطية في فاس، بدليل وجود قصرين للسلطانين مولاي سليمان ومولاي عبد العزيز. أنت تنتمين إلى أسر الطبقة البرجوازية التاجرة في فاس، أو ما كان يصطلح عليهم في ذلك الوقت، بتجار السلطان. ودليلي في ذلك، أن أحد أقاربك، الحاج محمد بن أحمد برادة، كان أمينا بطنجة، ومحمد بن العربي برادة، كان يتاجر مع دول الأجناس( Commerçant opéran à l’étranger) وعبد القادر برادة كان أمينا بفندق البركة، والفاتحي بن أحمد برادة، صنفته إحدى الوثائق المخزنية، ضمن الفئة الثالثة من تجار فاس الذين كانت ثرواتهم تقدر بالملايير من الدراهم.
هذا الفصل، في نظري المتواضع، شهادة حية وصفت فيها، من خلال مذكراتك الشخصية، بدقة متناهية، جوانب مهمة من الحياة الاقتصادية والاجتماعية لمدينة فاس، لكنها تبقى محصورة في مكان درب الرومي وما جاوره من الأزقة، والزمان الذي حددته في الفترة الممتدة من نهاية الاستعمار إلى بداية الاستقلال، ولا ينطبق هذا الوصف على جميع أحياء مدينة فاس، (فاس الجديد، المدينة العتيقة، الأحياء الهامشية، في كرواوة، قصبة فيلالة، قصبة النوار، إلخ… فوصفك يصدق أكثر على سكان الأحياء الأرستقراطية الذين كانوا يعيشون في بحبوحة من العيش والترف. ويتبين ذلك من خلال وصفك لطقوس العراسات والعراضات والولائم الفاخرة التي كانت تخصص للضيوف الذين كانوا ينتمون إلى الخاصة من القوم. ودليلي في ذلك، كما ذكرت، أن الحفلات كانت تستغرق من ثلاثة أيام إلى سبعة أيام، وأن النساء المدعوات كن يغيرن ملابسهن الفاخرة ثلاث مرات في اليوم طيلة فترة الحفل. ونحن في انتظار مذكرات أخرى عن حومات وجهات أخرى أقل ثراء لتكتمل الصورة.
وفي هذا السياق، أسهبت أكثر في وصف العلاقات الاجتماعية وجو السكينة والهدوء الذي كان يسود المدينة، وأرجعت ذلك إلى قيم التضامن والتآزر واختفاء الصراعات الطبقية. لكن أشرت في المقابل، إلى المتسولين وتزايد عددهم في ذلك التاريخ. وفي هذا السياق أشير، كدارس وباحث في تاريخ فاس، أن المدينة في الفترة التي تتحدثين عنها، قد سبقتها أزمات اقتصادية وسياسبة متلاحقة. يمكن التذكير هنا، بالأزمة الاقتصادية العالمية لسنة 1929التي أدت إلى قيام الحرب العالمية الثانية 1939- 1945، ثم تلاها عام البون أو الجوع سنة 1945, 1946، شمل فاس وباقي أنحاء المغرب. وهذه الظروف الصعبة أدت إلى إفلاس الطبقة العاملة، من حرفيين وصناع تقليديين، وتجار صغار والعامة بصفة خاصة. ولا غرو إن كانت الحركة الوطنية، كما تعلمين، انطلقت من فاس. فالحزب الوطني الذي تأسس في فاس سنة1934، كان من بين مطالبه المرفوعة إلى سلطات الحماية سنة 1936، القيام بالإصلاحات لتحسين مستوى عيش السكان. في خضم أيام العسر هاته، طالب أيضا في مذكرة له إلى نفس السلطات، بضرورة حصول المغرب على الاستقلال في11 يناير1944، لتعود الأمور إلى مجراها الطبيعي.
في مذكراتك الشخصية، وصفت أيضا جوانب من حياة فاس الاقتصادية، في إطار حومتك، فتحدثت عن الطاحونات المائية ووسائل النقل المعتمدة في ذلك الوقت، والباعة المتجولين الذين كانوا يلبون حاجيات الأطفال من الحلويات والمشروبات المثلجة. وهذا مهم. مثل هذه الجزئيات لا نجدها في التاريخ الرسمي، في كتب الحوليات التاريخية وكتب التراجم والمناقب والأنساب وغيرها. كما أشرت إلى أكلة الخليع المصنوع من اللحم المجفف والمصبر وأن أسرتك كانت تذبح رأسا أو رؤوس كاملة من الماشية تخصص لهذه الغاية. وهذه العادة كانت من خاصية الناس المترفين، وأنت منهم، في المدن والبوادي. هناك مثال متداول بين العامة يقول: (وش فلان كيفطر بالخليع). مذكراتك الشخصية عن طفولتك، مليئة بحكايات قد تفيد الأنتروبلوجيين ودارسي الحضارات وعلماء الاجتماع وغيرهم. وهو نص جميل توفق الأستاذ الدكتور خالد فتحي كثيرا في ترجمته إلينا من الفرنسية إلى العربية.
لا يفوتني هنا، قبل أن أنهي قراءة هذا الفصل، أن أقف عند قولك: كان الناس القادمين من البادية إلى فاس، من القرى والبوادي، لأجل الاستقرار بها، يختارون ألقابا عائلية تشير إلى مجتمعهم الأصلي: الحياني، الريفي، الجبلي، الصحراوي، الفكيكي، الصنهاجي، المرنيسي.. وهنا قد نختلف أو نتفق، فقد كان اندماج العناصر الآفاقية في المجتمع الفاسي، يتطلب عشرات السنين. فقد اتصلت بي، في السنة الماضية سيدة تعيش في بريطانيا، قالت لي إنها تسمى برادة التولي. ولما هاجرت عائلتها إلى فاس، غيروا اسمهم من التولي إلى برادة التولي، ليسهل عليهم الاندماج بسهولة في فاس. وهي تبحث الآن عن أصلها الحقيقي قبيلة التول، وبصفتي كمؤرخ، التمست مني أن أفيدها في شيء عن أصلها. وإلى جانب هذا أعرف شخصيا، رجلا من سلك التعليم، تزوج بفاسية من أسرة الحلو، فتخلى هذا الأخير، على الفور، عن اسمه الأصلي الحياني، واستبدله بالحلو ليحصل على شهادة «الإدماج».
كتابي يعتمد على تأملات لمرحلة تاريخية من خلال شهادات شفهية لأشخاص يتمتعون بالأمانة والصدق
لا أعرف حقيقة كيف أثني على تحليلكم الرصين الذي سرني كثيرا، كونه ينخرط في مشروع أكبر قد أعلنتم عنه متعلق باعتزامكم القيام بقراءة نقدية شاملة لكتابي «لو تكلمت حيطان فاس». لذلك أعلمكم أنني سعيدة جدا أن أثار هذا الكتاب كل هذا التفاعل والاهتمام من قبل باحث ومفكر من طينتكم، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، أنبئكم أن ردكم هذا جاء في حينه، إذ خفف من رتابة وقيظ هذا الصيف المختلف عما كانت تعرفه بلادنا من فصول صيف، وأخذني في رحلة ممتعة أتلمس من خلالها تقاسيم فكركم وغنى ثقافتكم التي لا أخالها إلا خصبة وثرية.
إن ما كتبتموه سيدي ليشكل بالنسبة إلي فرصة أنتهزها لكي أعرف وأجمع معلومات إضافية تهم عملي هذا وشخصي الضعيف، وبالتالي فأنتم قد أفرجتم عن جزء مما أتطلع اليه من أهداف من وراء كل هذا العمل المضني والممتع، الذي هو الكتابة عن فاس، مهد الطفولة ومهوى القلب والروح إلى الآن. لذلك استقبلت نقدكم كهدية ثمينة قمتم بالأريحية المعهودة فيكم بتخصيصها لي، فألف شكر لكم مرة أخرى.
بشكل عام، يهمني بداية أن أعلن لكم أنني واثقة أشد ما يكون الوثوق أنكم كلما ستتقدمون في قراءة فصول هذا الكتاب، كلما ستعثرون ولاشك على أجوبة شافية لكل الملاحظات والأسئلة التي تتطارحونها بداخلكم، فالكتاب يضم 36 فصلا، عدا المقدمة والخاتمة، ويستغرق ما يقارب 500 صفحة. وهو كتاب يجدر بنا أن نتفق بأنه أبعد من أن يكون كتاب تاريخ بالشكل الذي تكون عليه عادة كتب التاريخ. وأنتم خليقون أن تعرفوا هذا غاية المعرفة. طبعا لقد تعرضت لأحداث ووقائع جرت منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لأن هذه المرحلة لم تكن ضرورية لسرديتي ولاستطراداتي فقط، بل هي أيضا تمثل تلك الفترة التي سبقت مباشرة الحقبة الاستعمارية. هذل الاستعمار الذي عاش في خضمه المغرب لما يقرب من نصف قرن، والذي لم نفلح في منع استيلائه على خيراتنا ومقدراتنا، رغم الإصلاحات والمجهودات الحثيثة التي بذلها السلطان مولاي الحسن الأول لتجنيب بلادنا مصيرا مماثلا لباقي الدول المغاربية التي كانت قد فقدت استقلالها قبلنا بزمن، فذاك الملك الهمام اليقظ كما تعرفون أيضا كان قد أراد إدخال المغرب عهد الحداثة، من خلال إرسال بعثات علمية إلى الغرب، وحاول ما أمكنه نشر السلم والسكينة في كل ربوع المملكة، وسعى بالخصوص إلى تحقيق نوع من اعتماد الدولة المغربية على ذاتها، لكي لا تقع في فخ الديون التي كانت طريقا سيارا للوقوع في فخ الاحتلال، لكن دون جدوى. إن دراستي أو بحثي كما وصفتموه بكل حيادية وموضوعية هو بحث سوسيولوجي، أنثروبولوجي وتاريخي دون شك. فهو لم يكن إذن ليقتصر على حي درب الروم الذي كان مسقطا لرأسي، ولكنه شمل عددا من الأحياء التي تبعد عن بعضها البعض بمسافات كبيرة جدا بما في ذلك الأحياء الجانبية أو الهامشية، وهذا دون أن أذكر لك فاس الجديد، الملاح، إيموزار، مولاي يعقوب…إلخ.
ولربما لاحظت أستاذنا العزيز أيضا أنني لم أتوقف طويلا عند المعطيات التاريخية المتعلقة بالأمراض والأوبئة، ولا أفضت في تشريح الأزمات الاقتصادية التي كانت لا تنفك تتعاقب على المغرب آنذاك، وكان لها بالتالي تداعياتها ومضاعفاتها الوخيمة على الساكنة. لم أتطرق إلى هذه التفاصيل، لأنها أولا متاحة للكل من خلال نقرة واحدة على محركات البحث بالإنترنت، ومشروحة بإسهاب في كتب التاريخ الكلاسيكية التي أطمئنكم أنني اطلعت على أغلبها، بما ذلك كتابكم الهام جدا، ولأنني ثانيا قررت أن لا أحاكي هذه الكتب ما دمت قد اخترت عن قصد وبينة لكتابي خطا موجها من صنف آخر، يعتمد أساسا على القيام بتأملات وتحليلات جديدة للمرحلة التاريخية التي حددتها من خلال شهادات شفهية، آليت أن أستقيها من لدن أشخاص يتمتعون بالأمانة والصدق، خصوصا وأنني كنت قد انتبهت إلى أن بعض التمثلات والكليشيهات المغرضة التي كان بعض المستشرقين قد أسبغوها علينا كانت مختزلة، بل وحاطة من قدر الشخصية المغربية في الكثير من الأحيان.
لقد أوردت مثلا من خلال ما كتبته بأن المجاعة التي حاقت بنا، إنما حدثت لأن المستعمر الغاشم كان يصدر إلى بلاده حبوبنا ومنتجاتنا الفلاحية، ولأن مداخيلنا الجمركية كانت أيضا مستحوذا عليها من طرف الإدارة الفرنسية. وهذا الأمر تثبته إعلانات إشهارية للمحتل نفسه، وتزكيه وتتقاطع معه شهادات استوفيتها بكل الدقة والشفافية اللازمة.
أقول لكم هذا لأنني مقتنعة بأنكم ما زلتم إلى الآن تؤمنون بأن الروايات الشفهية تمثل مصدرا من مصادر التاريخ بالنسبة إليكم. لكني ورغم كل هذا، أبوح لكم بأن منهجية عملي مختلفة تماما عن منهجية المؤرخين، باعتبار أنني أنطلق من حكايات صغيرة لأنفذ عبرها إلى التاريخ الوطني الواسع الرحب. ولكي أجذب القارئ أكثر، لا أخفيكم أنني كنت أمعن إمعانا في استثمار حاسة وفن الحكي لدي، متوخية ما أمكن أن أظل عفوية وتلقائية في طريقة قصي للأحداث، فتلك سجيتي، وذاك ملمح من ملامح شخصيتي يأبيان أن يفارقاني إلى الآن، بل لست أظنهما يفعلان ذلك أبدا ما حييت. لقد كنت يا صديقي العزيز أطرح أسئلة موجهة حتى أحصل على أجوبة موضوعية من لدن من أحاورهم.
لقد شكل ذلك كله مناسبة أتاحتها لي هذه الكتابة، ومكنني منها هذا المؤلف كي ألفت الانتباه إلى مشاغلي واهتماماتي ومشاغل واهتمامات كل المجايلين لي من رجال ونساء تلك الفترة، كالمكانة الاعتبارية للمرأة، والظلم الاجتماعي المسلط على بعض الفئات، ومآسي العبيد والمعاقين، ووضع الأقليات من حيث العدد وليس من حيث القيمة الإنسانية، ومنها كذلك (حالة اليهود المغاربة وقصة الفراق الأليم بيننا وبينهم عند هجرتهم إلى إسرائيل)، وكذلك عرجت على المنظومة التعليمية وتطورها التدريجي، بالإضافة إلى نبشي في بعض الخرافات والأساطير والسلوكيات المنتشرة آنذاك في أوساط المجتمع المغربي.
لقد استأثرت باهتمامي أيضا الحياة داخل الحريم ووضع المحظيات في الإقامات البرجوازية والمتواضعة، بالإضافة إلى بعض الممارسات التي شهدتها وظلت عالقة بذهني، رغم صغر سني آنذاك، للمحتل الفرنسي وجنوده، وما تبعها من كفاح ونضال وطني أدى ثمنه المغاربة والمغربيات غاليا، هكذا تطرقت بطريقتي الخاصة إلى بعض المحطات القوية، وما أكثرها في تلك المرحلة الصاخبة من حياة المغرب الضاجة بالأحداث والتطلعات والأماني العظيمة.
سيدي، إنني أعتبر نفسي محظوظة برواتي الذين أتاحت لهم تقلباتهم في الحياة أن يعرفوا الكثير، بل كانوا شهودا على أحداث صغيرة، لكنها كانت أحداثا حمالة تزخر بمعاني كبيرة تهم الوطن. من ضمن مراجعي التي أعتز وأعتد بها، يبرز جد والدتي الذي كان أمين المرسى بالرباط وطنجة، قبل أن يتم إنشاء مرفأ الدار البيضاء. لقد كان وسيلتي أو شاهدي كي أسلط الأضواء على مهنة أمين المرسى.. تلك المهنة الممتازة والفخمة التي كان يختص بالتعيين فيها السلطان المغربي، والتي كان صاحبها يتمتع بالاستقلالية التامة عن كل السلطات الأخرى للدولة.
أن تقوموا سيدي بتصنيف عائلتي ضمن الفئة البرجوازية وتنعتوا هذه البرجوازية بتجار المخزن، أمر يمنحني الفرصة كي أوضح أنه خلال طفولتي الأولى وقبل ذلك أيضا، كنا نجهل مفهوم الطبقات الاجتماعية، وهذا ما حرصت أشد الحرص على تبيانه طيلة صفحات كتابي، كما أني لا أعرف بتاتا هذا المصطلح الذي أوردتموه والذي سميتموه تجار المخزن. وأعتقد أن هذا قد كان حال كل أغلبية الحرفيين المهرة، من خياطين وصانعي أحذية ونجارين وصائغي مجوهرات…. قد كانوا كلهم مسلمين ويهودا يتعاملون ويتجاورون على نفس القدر من المساواة، بل أحيانا كان بعض اليهود أكثر قربا للقصر الملكي، نظرا إلى مهاراتهم الفائقة، بل كان منهم من هم خريجو الأخوية الإسرائيلية العالمية التي كان قد تم افتتاحها سنة 1882، وهو ما مكنهم من تكوين صلب واطلاع وإتقان لثلاث لغات. باختصار سيدي، لقد كان المخزن زبونا من العيار الثقيل خلال تلك الفترة، وكان مراقبا ممتازا لجودة المنتجات بفضل تنظيم محكم وممأسس. لقد كنا دولة وأمة ضاربة بجذورها في التاريخ ومنظمة عشية الحماية. بل إن المخاطر التي كنا نتعرض لها آنذاك، إنما كانت مخاطر خاصة بتلك الفترة من التاريخ لا غير. ففي المجمل كنا نعيش في نوع من السكينة والبحبوحة من العيش، بفضل التضامن والتماسك والتعايش السلمي بين كل فئات المجتمع، والذي كانت تدعمه وما زالت إلى الآن ديانة وسطية سمحة تتسم بالتسامح والرفق، وقصر ملكي يصون ويدافع عن الوحدة ويضمن الالتحام والانصهار بين الجميع، ولذلك أؤكد لك أنه لم تكن لتطرح على المجتمع الفاسي مشكلة اندماج الأشخاص القادمين من البوادي، فلقد كان ذلك يتم بكل يسر وسهولة. بل لقد كان الفاسيون يصاهرون ويزوجون بناتهم وأبناءهم لكل من ينجحون في حياتهم ويحترمون قيم العائلة، فتلك كانت هي المعايير والمواصفات المطلوبة آنذاك، لأن الزواج كان يتم حينها بين العائلات، وليس بين الخاطب والمخطوبة فقط، وهو ما كان يضمن استمرارية وفلاح هذه المؤسسة، مؤسسة الزواج والأسرة. كان المصعد الاجتماعي والمهني شغالا وفعالا، بل كثيرة هي المواهب والعبقريات التي انبثقت ونشأت في ظل هذا الانفتاح والإدماج الناجح.
أخيرا، أنا على يقين تام بأن تفاعلكم يدل على أنكم تتعهدون بالعناية اللازمة بهذه العلاقة الثقافية الرائقة القائمة بيننا، ولذلك سأظل في اشتياق دائم لباقي تعليقاتكم على هذا الكتاب الذي يؤرخ بأسلوبه لفترة قصيرة حقا، لكنها مفصلية بكل تأكيد من تاريخ هذه المدينة الغراء فاس، التي تنسمنا هواءها جميعا وأحببناها كلنا الحب الجميل.