قراءة حصرية في مذكرات مولاي المهدي العلوي
سنوات الرصاص وأسرار العمل بجانب الحسن الثاني
«الأكيد أن مهمة الصحافي سعيد منتسب، وهو يكتب مذكرات مولاي المهدي العلوي، لم تكن سهلة. فالرجل مشى حرفيا فوق حقل من الألغام، وعاش في قلب الملفات الساخنة، أبرزها اختفاء المهدي بن بركة، وأقساها مرارة الاعتقال والتعذيب الذي تعرض له عدد من رموز الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. حمل حقيبته التي حافظ بها على هويته السياسية، وترنح بها بين المطبات التي فرضها الواقع السياسي، خصوصا في ظل وجود أشخاص من أمثال الجنرال أوفقير والدليمي وصولا إلى إدريس البصري.
مولاي المهدي العلوي العارف بملفات تتعلق بالنضال السياسي والنقابي خلال سنوات الرصاص، استعان بمحمد بن مبارك، واتكأ عليه في لعبة الرجوع إلى أغوار الذاكرة، وألقى صخورا في برك متجمدة أهمها علاقة عمر بنجلون بالنقابة ونشر رسالة من الأخير إلى المحجوب بن الصديق، الزعيم النقابي، يحكي فيها عن التعذيب الذي تعرض له على يد رجاله.
سيكون من المجحف أن نجعل هذا الملف اختصارا لمسار حياة مولاي المهدي العلوي السياسي والدبلوماسي، الذي جمعه بين دفتي الكتاب، لكن يمكن أن نسميه هنا قراءة حصرية في أبرز ما جاء في هذه «المباراة»..
يونس جنوحي
+++++++++++++++++
ذكريات من مولاي عبد العزيز إلى الحسن الثاني
لنكن صرحاء، ربما قلة فقط كانوا ينتظرون من مولاي المهدي العلوي أن يفرج عن مذكراته، ويلعب لعبة الذاكرة، إذ إن العادة لدى أغلبية من عاشوا بعض ما عاشه، اقتضت أن يمارسوا ما يسمونه «فضيلة الصمت»، لكن مولاي المهدي العلوي كان له رأي آخر.
هو القادم من دروب سلا وتجاعيد منازلها الشعبية خلال فترة عصيبة من تاريخ المغرب. جاء في مذكراته، التي صاغها الصحافي سعيد منتسب بمساهمة من محمد بن مبارك الذي يعرف بعض دروب حياة مولاي المهدي العلوي جيدا، ما يلي: «كنت بكر أسرتي المكونة من عشرة أبناء، خمسة منهم فارقوا الحياة صغارا. فقد رأيت النور يوم 10 دجنبر من عام 1929 في الدار رقم 8 بزنقة حركات في حي السور بالقرب من مدرسة «أبناء الأعيان»، وهو البيت الذي سيقيم فيه والدي بعد زواجه من أمي في العام 1927، بعد بضع سنوات من التحاقه بأخيه «مولاي لحسن» بسلا من دوار «الكبابة» ببلدة «آقا»، وعمره ستة عشر عاما.
التحقت في بداية الموسم الدراسي 1936 و1937 بمدرسة أبناء الأعيان التي لا تبعد عن بيتنا إلا ببضعة أمتار، رفقة أحد أقاربي الذي كان يكبرني بأربع سنوات، وكان يقيم معي في البيت نفسه».
الأكثر من هذا أن الطفولة المبكرة لمولاي المهدي العلوي، أي في بداية الثلاثينيات، عاش فيها لحظات مفصلية شكلت وعيه التاريخي والنضالي أيضا. كيف لا وقد حظي بفرصة لقاء المولى عبد العزيز بعد مغادرته العرش. حدث هذا سنة 1936 ويحكي عنه مولاي المهدي العلوي في هذه المذكرات: «في عام 1936، كانت قد مرت بضع سنوات على استقرار الأمور التجارية والعائلية لوالدي، فقرر أداء فريضة الحج عبر ميناء طنجة، وكانت الرحلة، آنئذ، تستمر شهورا، فأخذ معه «لالة زهور»، التي انتقلت لتعيش معنا في بيتنا الجديد، اعترافا من والدي بجميلها عند استقبالها له لأول مرة قبل ذلك بسنوات، وعنايتها الكبيرة به. وعند عودة والدي رحمه الله من الديار المقدسة، اصطحبني أحد أصدقائه المقربين، عبدالله زنیبر، لاستقباله بمدينة البوغاز، وقد أثار انتباهي ما كان من أمر جنود الاحتلال عند منطقة «عرباوة»، حيث كان لزاما علينا أن نستصدر تصريحا بالدخول إلى المنطقة الخليفية، التي كانت ترزح تحت الاستعمار الإسباني، ومنها إلى مدينة طنجة، التي كانت تتمتع بوضع المنطقة الدولية، وفق ما شرحه لي السيد «زنيبر». ولذلك اكتشفت، في عمر السبع سنوات، أن المغرب مقسم إلى ثلاث مناطق هي: منطقة النفوذ الفرنسي في الوسط، ومنطقة النفوذ الإسباني في الشمال والجنوب، والمنطقة الدولية في طنجة. (..) في اليوم الموالي لوجودنا في طنجة، ونحن نتجول في الشارع الرئيسي لمحت شخصا تبدو عليه علامات الوقار، يرتدي جلبابا تقليديا أنيقا ويحمل في يده صولجانا، فبادر مرافقي بالسلام على الرجل بما يليق من احترام، وأشار بالسبابة نحوي قائلا:
-هذا ابن عمك!
فما كان من أمر الرجل الوقور إلا أن وضع يده على رأسي قائلا:
-الله يصلحك.
وبعد انصراف الرجل، سألت سي زنيبر عمن يكون، فقال لي إنه السلطان مولاي عبد العزيز، ساعتها عرفت أن البلاد تعاقب على حكمها ملوك وسلاطين آخرون غير الذي كان يحكمها في ذلك الوقت، وهو السلطان سيدي محمد بن يوسف».
الأكثر من هذا أن عائلة مولاي المهدي العلوي كانت من العائلات العريقة في سلا، وقد تأكد له هذا الأمر عندما أصبح سفيرا للمملكة وممثلا للملك الراحل الحسن الثاني، إذ أتيح له تمثيل المغرب في أوربا وأتيحت له فرصة الاطلاع على أرشيف العلاقات الدبلوماسية مع عدد من الدول، والتي وثقت لمراسلات قديمة بين البلدين شهدت على ما أسماه عظمة تاريخ مدينة سلا، حيث اطلع في الأرشيف على اتفاقيات مكتوبة بماء الذهب تشهد على أن مدينة سلا تحفظ تاريخا ضاربا في القدم.
أوراق من مسار مثير لمعارض ودبلوماسي
من الوسط الوطني الذي انطلق منه مولاي المهدي العلوي في سلا، وهو الذي يحمل جينات من منطقة آقا التي يشهد لها التاريخ بصناعة أصلب رموز الحركة الوطنية وجيش التحرير المغربي، اتجه الشاب رأسا نحو ممارسة العمل السياسي. جيله كانوا من المعجبين بحزب الاستقلال خصوصا بوجود قامة مثل الراحل عبد الرحيم بوعبيد. وكغيره من الشباب الذين أتيحت لهم فرصة إتمام دراستهم العليا والانفتاح على العالم، كان مولاي المهدي العلوي من طليعة الشباب الذين اتجهوا نحو تجربة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، حيث كانوا معجبين بتجربة المهدي بن بركة ومساره الدبلوماسي، ولم يكن استقطابهم للحزب يحتاج تأثيرا من أحد ما دام وعيهم السياسي قد تشكل على إثر خطابات بن بركة وتوجيهاته.
سيكون مولاي المهدي العلوي، منذ سنة 1963، من المغضوب عليهم، إذ تعرض للاعتقال وعاش مرارة مؤامرة يوليوز لتلك السنة، ولأنه سبق له الترشح للبرلمان، فقد أصبح مرافعا عن المعتقلين من رفاقه الذين تجرعوا ويلات التعذيب في المعتقلات السرية بسبب أنشطتهم السياسية. وهكذا وجد المهدي العلوي نفسه أمام آلة القمع وجها لوجه، خصوصا وأنه أثار موضوع الوضعية النفسية والصحية للمعتقلين في السجون أمام الجنرال أوفقير، وهو الأمر الذي لم يكن سهلا أبدا وقتها.
سار خط النضال السياسي لدى مولاي المهدي العلوي الذي كان يعرف عن قرب كواليس مؤتمرات نقابة الاتحاد المغربي للشغل، ونضال عمر بنجلون ومساره، إلى أن وصلت مرحلة نهاية السبعينيات وما حملته من توجه جديد للحزب، حيث تبع أنصار عبد الرحيم بوعبيد توجهه وأصبح الحزب يحمل اسم «الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية»، ليعيش العلوي كواليس تزوير انتخابات 1977 وصعود نجم إدريس البصري الذي أصبح وزيرا للداخلية «فوق العادة» بعد تلك الانتخابات بسنتين فقط.
انسحب الحزب احتجاجا على تزوير الانتخابات، وعبد الرحمن اليوسفي كان في المنفى، لكن مولاي المهدي العلوي كان يعيش الأزمة بطريقته من خلال مساره والسنوات التي قضاها في الخارج. إلى أن جاء منتصف ثمانينيات القرن الماضي، حيث وقع الاختيار على مولاي المهدي العلوي لكي يصبح ممثلا دائما للمغرب لدى الأمم المتحدة بأمر واقتراح من الملك الراحل الحسن الثاني الذي تمسك به رغم معارضة بعض الأطراف داخل الحزب على اسمه. ومع ذلك فقد بصم مولاي المهدي العلوي على تجربة طويلة في العمل الدبلوماسي، واشتغل مع الملك الراحل الحسن الثاني على عدد من الملفات.
ومع الملك محمد السادس، بقي مولاي المهدي العلوي من أهم الأسماء التي ساهمت في ترسيخ العلاقات الدبلوماسية للمغرب بعدد من الدول الشقيقة. إذ كان سفيرا للمغرب في الأردن وجال كثيرا في الشرق الأوسط. يقول بخصوص العدوان الأمريكي على العراق سنة 2003: «ظل العراق منذ زيارتي الأولى إلى بغداد حاضرا في صلب اهتماماتي السياسية وحين عينت سفيرا في الأردن استمر هذا الاهتمام نظرا لكون العراق بلدا مجاورا للأردن ويشكل المنفذ الوحيد للعراقيين لكسر الحصار المفروض عليهم منذ صيف 1990، وأيضا لأهمية وحجم العلاقات الأردنية العراقية السياسية والاقتصادية والتجارية والمالية بين البلدين».
تجربة البرلمان ومواجهات مع الدليمي وأوفقير
كان مولاي المهدي العلوي من شباب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وأحد أشهر الأسماء في الرباط التي وصلت إلى البرلمان. كما أنه كان أيضا من الذين عاشوا «جحيم» أحداث يوليوز 1963، حيث تم اعتقال الاتحاديين الذين حضروا من كافة أنحاء المغرب لمتابعة مؤتمر الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. ورغم أن مولاي المهدي العلوي كان برلمانيا، إلا أن الأمر لم يشفع له، مثل آخرين، لكي يبقى بعيدا عن الاعتقال، فعاش بدوره تلك التجربة قبل أن يطلق سراحه ويرافع باسم رفاقه المعتقلين، وهو الأمر الذي جعله يجد نفسه وجها لوجه أمام الجنرال الدليمي وأوفقير، اللذين كانا العقل الأمني المدبر للعملية برمتها. يقول: «في الوقت الذي كنا في السجون والأقبية السرية والعلنية، كان بعضنا ما يزال يتحمل مسؤولية الدفاع عن مصالح الشعب التي جرد منها، بعد انتخابه ممثلا للسكان في البرلمان، إثر تحقيق «الاتحاد الوطني» لانتصاره الكبير في الانتخابات التشريعية التي سبقت الكشف عن «المؤامرة» المزعومة. وحيث أني كنت من الفائزين بمقعد في البرلمان عن دائرة «سلا»، فقد كان علي أن أنجز عددا من المعاملات الإدارية، قبل الالتحاق بالمجلس النيابي، بعد خروجي من السجن وأباشر مهامي ضمن فريق الحزب، بعد جلسة التعارف مع الأعضاء، وكذا الشخصيات الممثلة للاتجاهات السياسية الأخرى.
كان المجلس، آنذاك، يعج بأسماء مميزة لشخصيات من عيار ثقيل بصمت تاريخ المغرب، من بينها، على سبيل المثال الزعماء «علال الفاسي» و«محمد بلحسن الوزاني» و«عبد الخالق
الطريس» و«عبد الرحيم بوعبيد» و«محمد منصور» و«عبد اللطيف بن جلون» وغيرهم.. ونظرا لحداثة عهدي بجلسات المجلس، فقد كنت، في أيامي الأولى، أكتفي بالإنصات للمداخلات المبرمجة في الجلسة العامة وفي جلسات اللجان، لاستيعاب ما يجري حولي من أحداث واستقراء الاتجاهات، التي تعبر عن رؤية كل فصيل للمشهد السياسي ووضعية البلد، بعد الفترة التي كنا مغيبين فيها قسرا عن تتبع مجريات الأمور.
ومما أثار انتباهي في هذه الفترة ضعف التنسيق بين أحزاب الصف الوطني، مما حدّ من نجاعة المواجهة التي كان يتعين أن نقوم بها متحدين ضد الأغلبية «المصنوعة» من «جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية» FDIC، التي ينشط أعضاؤها لتمرير السياسات الرسمية، التي كنا نعتبر أن أغلبها لا يخدم مصالح الوطن والمواطنين. في افتتاح دورة أكتوبر عام 1964، توزع النواب على اللجن البرلمانية، فاخترت الانضمام للجنة الخارجية، بحكم مساري واهتماماتي وعلاقاتي بعدد من الجهات بالخارج. (..)
حضرت الاجتماع الأول لهذه اللجنة وشاركتُ بحماس في مناقشة عرض وزير الداخلية، بحضور كل من الجنرال «أوفقير» و«الدليمي»، وبدأت المناقشة حول سؤال طرحه أحد نواب «الجبهة» عن وضعية السجون في المغرب، وتحديدا نوعية الطعام الذي يقدم للسجناء، فكانت إجابة «الدليمي»، المسؤول عن إدارة السجون وقتها، أنه في العموم يتم احترام جدول تغذية متوازن يفي بحاجيات النزلاء.
وقال «الدليمي» إن هذا لا يعني أن اللحوم تقدم للسجناء في كل يوم، بل تجتهد الإدارة، حسب الإمكانيات المتاحة، لتقديم أنواع من الحساء والخبز والقطاني، إضافة إلى قطع من اللحوم في بعض الأحيان، فضلا عن وجبة «الكسكس» كل يوم جمعة.
استفزني هذا الكلام وأنا الخارج لتوي من المعتقلات والسجون وأماكن الاحتجاز، فعقبت على كلام المسؤول بكلام واضح، مفاده أن ما يقدم من وجبات للسجناء لا يليق ببني آدم، فالحساء (الشربة) عبارة عن ماء ملون تسبح فيه الحشرات (الما والزغاريت کما يقول المغاربة بلهجتهم المحلية)، بينما الخبز مجرد قطع من الدقيق الرخيص، الذي مرت أيام على طهيه (خبز كارم تهرس بيه راسك)، أما وجبة «الكسكس» الذي يقدم أيام الجمعة، فيستحسن أن لا أذكرها.
ولما ارتفعت نبرات صوتي، قام «أوفقير» من مكانه، فأحدث الكرسي صريرا يعكس حالة الغضب التي استبدت بالجنرال، في حين بقي الحاضرون صامتين، في حالة اندهاش وذهول، وكأن على رؤوسهم الطير، يتوقعون ردة فعل المسؤول ورفيقه «الدليمي». وقبل أن يغادر القاعة، مر من خلفي «أوفقير» وربت على كتفي، ووجه لي كلاما باللغة الفرنسية قائلا:
– من دون ضغينة Sans rancune.
فأجبته:
– طبعا، من دون ضغينة Evidamment sans rancune».
ازداد الوضع سوءا بوجود مواجهات أخرى وجد مولاي المهدي العلوي ورفاقه أنفسهم أمامها. ويتعلق الأمر بمواجهات مع الماريشال أمزيان وبعض الوزراء. والنتيجة نعرفها جميعا. ولم يفت المهدي العلوي أن يعلن عنها صراحة، وهي توجه المغرب إلى حالة الاستثناء التي حل فيها الملك الراحل الحسن الثاني البرلمان، لأن المواجهات تحت قبته أصبحت غير مسبوقة بسبب تشنجات ملف مؤامرة يوليوز 1963 وتبادل الاتهامات بين وزراء وبرلمانيي الاتحاد. إذ كانت هذه النقطة جزءا فقط من قتامة الوضع السياسي الذي أدى إلى تلك الحالة.
أجواء محاكمة 1966 وقصة الحل الوحيد لقضية بن بركة
يقول مولاي المهدي العلوي، متحدثا عن أجواء وكواليس محاكمة الأسماء التي أثيرت في ملف اختفاء المهدي بن بركة في باريس، والتي جرت أطوارها سنة 1966: «وأتذكر أنه أثناء هذه الفترة، جمعنا غذاء بأحد مطاعم «سان جرمان دو بري».S.G des hi مع «هيبر بوف ميري» Herbert Beuve – Mery، مؤسس يومية «لوموند» Le Monde ، وهو رجل يقدر الجميع أخلاقه ومبادئه، وقد كان من بين المدافعين عن مبدأ عدم تأخير المحاكمة، وذلك بهدف إقناعه بمنح الدفاع فرصة لإعداد المرافعات – لم يتمكن «عبد الرحيم» من إقناع «بوف ميري»، إذ أبدى كل منهما تشبثه بموقفه، مما دفعنا إلى اتخاذ القرار بعدم المشاركة في المحاكمة بعد استئنافها، حيث كنت أحضر بمفردي لمتابعة أطوارها، باتفاق مع قادة الحزب. استأنفت المحاكمة كما أرادتها السلطات الفرنسية، وذلك بما يخدم مصالحها، فلم نكن نسمع سوى أصوات الإشادة بشخص «الدليمي، وبشجاعته للمثول أمام هيأة المحكمة وبمواقفه، في ذلك المشهد الفرجوي، قبل أن تنطق الهيأة بأحكام، لم تخرج، في نظري، عن الإطار الذي حددته المفاوضات المسبقة بين الإدارة المغربية والسلطات الفرنسية، وأهمها إعلان براءة «الدليمي، وإطلاق سراحه. في نهاية المرحلة الأولى من المحاكمة، وقبل انسحاب فريق الدفاع قدم المحامي «موريس بينان» Maurice Buttin ، وهو المحامي المنتدب عن والدة «المهدي» عرضا عن الوضع السياسي في المغرب آنذاك، وما يميزه من قمع وتضييق على الحريات وغياب الديمقراطية وحقوق الإنسان. ولابد هنا أن أشيد بصمود هذا المحامي المتميز، وبمواقفه الثابتة من هذه القضية، وهو الذي كرس جهده ووقته من أجل معرفة الحقيقة، فخصص باكورة أبحاثه على مدى عشر سنوات لتسليط الضوء على جوانب عملية الاختطاف، باعتبارها قضية توزعت فصولها بين المغرب وفرنسا اللتين تقع على كاهليهما مسؤولية الكشف عن الحقيقة، مع اعتبار أن المغرب يبقى المسؤول الأول عن ذلك».
ويوصل مولاي المهدي العلوي، لينقل لنا موقفه الخاص، والصريح، بخصوص الطريقة الوحيدة لطي الملف. حيث ذكر في مذكراته: «لم نكن دائما على اتفاق مع مواقف السيد «بیتان» Buttin، ولكننا نحتفظ له بمشاعر الامتنان لمواقفه الرافضة لكل تجاوز يمكن أن يعرض قضية «المهدي» للنسيان. ذلك أن الحقيقة المؤلمة هي أن العائلة والرفاق ما زالوا يبحثون، بعد خمسين سنة، عن حقيقة الاختطاف وعن مکان دفن جثة المختطف.
انتهت قضية المهدي أمام المحكمة بالنتائج التي لا ترضي أحدا وبالخصوص ذويه وحزبه.
ولمعرفة الحقيقة، وبالخصوص مصير المهدي وموضع جثته إذا صح أنه قتل ودفن، وتفاصيل ما وقع، فإننا ما زلنا ننتظر رفع السرية الكاملة عن المعلومات والوثائق التي تتعلق بقضية المهدي، والتي ما تزال محفوظة بعناية ضمن أرشيف المخابرات الفرنسية. كلنا ننتظر بشغف هذا القرار الذي بوسعه ملء الفراغات التي اعترت محاولات معرفة الحقيقة: أسرته الصغيرة أولا، وحزبه ثانيا، وعموم الشعب المغربي. كل هؤلاء يتعطشون لمعرفة الحقيقة كاملة.
وکما نعلم جميعا، فمحاكمة خاطفي المهدي وكافة المشاركين في العملية انتهت يوم فوجئ العالم العربي برمته بما أصبح يعرف بهزيمة حزيران / يونيو 67 ، والتي كانت نتائجها ضربة لفكر الأنظمة القومية التي كانت تحكم الشرق الأوسط من ناصريين وبعثيين. هكذا أسدل الستار على نمط من الحكم كان الشعب العربي يعلق عليه آمالا كبيرة للتحرر والانعتاق. إذ بسقوط نظام عبد الناصر منهزما استيقظت الشعوب العربية على هول ما وقع. تحمل عبد الناصر مسؤوليته بشجاعة وعزم على تقديم استقالته. غير أن الشعب المصري برمته رفض هذا الأمر وطالبه بمواصلة المعركة تحت قيادته لاسترجاع ما نهب، والعمل على تحقيق كافة المبادئ التي تعبأ لها الشعب المصري وكافة الشعوب العربية لتحقيق النمو والتقدم والحرية».
رسالة عمر بنجلون حول تعذيبه على يد أتباع بن الصديق
قبل أقل من عشر سنوات فقط على رحيل عمر بنجلون متأثرا بالطعنة الغادرة التي تعرض لها، كان شهيد الاتحاديين والحركة النقابية، سنة 1963، على موعد مع تجربة مريرة بعد مشاركته في مظاهرات نقابية لقطاع البريد والمواصلات جاءت بعد منع أنصار المحجوب بن الصديق لرفاق عمر بن جلون العاملين في البريد والمواصلات من دخول القاعة التي خصصت لمؤتمر النقابة سنة 1963.
مولاي المهدي العلوي ألقى حجرة كبيرة في بركة الأحداث الأليمة والمسكوت عنها، وتحدث عن «عصابة» المحجوب بن الصديق. وقد سبق لعدد من النقابيين تكذيب الاتهامات التي وجهت لقيادات نقابية داخل الاتحاد المغربي للشغل، تتهمها بتعذيب نقابيين معارضين لتيار المحجوب بن الصديق الذي وصفه مولاي المهدي العلوي بالرئيس الأبدي.
ومما جاء في رسالة عمر بن جلون للمحجوب بن الصديق: « (..)ولم تكتف عصابة المحجوب بمنع عمر بنجلون من الدخول كمؤتمِر إلى قاعة المؤتمر، بل اعتقلته واعتدت عليه ذلك اليوم. وهو ما تبينه الرسالة التي وجهها عمر بنجلون إلى المحجوب بن الصديق:
«الأخ المحجوب، الكاتب العام للاتحاد المغربي للشغل،
للمرة الثانية، يتم اختطافي وتعذيبي في أحد الأقبية. الأولى وقعت يوم 20 دجنبر 1961 على الساعة الواحدة والنصف صباحا. كان ذلك بمناسبة الإضراب العام الذي قررته فيدراليتنا الوطنية للبريد، إضرابا كان ناجحا باهرا للاتحاد المغربي للشغل، كما عنونت جريدة «الطليعة».
اختطفت من طرف عصابة خاصة تابعة للسلطة الفيودالية. وهذه الأخيرة قررت العملية عندما اقتنعت بأن الإضراب فعلي، وكان لابد لها من مسؤول، رأس ثعبان تمارس عليه انتقامها الأخرق. وكان لي شرف هذا الاختيار. أقول شرف، لأن قناعتي الراسخة هي أن الطبقة العاملة تشكل الطليعة الطبيعية في الكفاح الفعلي والملموس، الذي يجب أن يخاض ضد الفيودالية والبورجوازية والامبريالية. وهذه المرة، لا أستطيع للأسف، أن أتحدث (تماما) عن شرف. فباسم الطبقة العاملة تعرضت في واضحة النهار للاستفزاز من طرف مسؤولين في الاتحاد المغربي للشغل، أمام أنظار حراس الاتحاد المغربي للشغل وحياد متواطئ من طرف الشرطة. وتعرضت للضرب واللكم ونقلت إلى القبو. تعرضت في ظرف 12 ساعة لثلاث حصص من التعذيب تجاوزت وحشية كثيرا مما تعرضت له في السنة الماضية، لأن الأمر في المرة الأولى كان مجرد تهديد».
حكى عمر بن جلون في هذه الرسالة بالتفصيل كيف عاش تطورات الوقائع من أمام القاعة المخصصة للمؤتمر في شارع الجيش الملكي بالدار البيضاء. إذ جاء في رسالته أنه مُنع من دخول الاجتماع الذي كان مبرمجا في الفترة الصباحية. ويقول إنه أوقف سيارته على مقربة من المكان على تمام الساعة الثامنة وعشرين دقيقة صباحا استعدادا للدخول، لكنه فوجئ باستفزاز من طرف أحد رفاقه في نقابة البريد، واتهمه بالتآمر والتشويش، قبل أن يصفع مرافقه بلمليح. وكان رد فعل عمر بنجلون أنه أخذ رفيقه إلى السيارة لحمايته من أي اعتداء آخر، إلى أن تطورت الأمور إلى مشادات أدت إلى اختطافه من أمام المقر ليتعرض للتعذيب، حيث استمر اعتقاله في القبو من الصباح إلى ما بعد الثامنة ليلا حيث بدأت حصص الضرب واللكم والرفس من طرف نقابيين اتهموه بتسييس العمل النقابي.
أسرار سنوات بجوار الحسن الثاني وطلب غريب لليازغي
رغم السنوات العصيبة التي قضاها مولاي المهدي العلوي معارضا ومدافعا عن المعارضة، إلا أنه كان من بين الأسماء التي مثلت الاتحاد عندما جاءت فرصة إشراك الحزب في العمل السياسي في عهد الراحل عبد الرحيم بوعبيد. إذ توج المسار النضالي لعدد من الأسماء التي عانت ويلات الاعتقال وتكميم الأفواه، بتمثيل الحزب في مواقع المسؤولية حتى قبل مجيء مرحلة التناوب التي قادها عبد الرحمن اليوسفي.
مولاي المهدي العلوي اشتغل في مواقع المسؤولية، ممثلا للمغرب لدى الأمم المتحدة وسفيرا للمملكة حيث كلفه الملك الراحل الحسن الثاني بعدد من المهام التي كانت محطات مفصلية في ملف الوحدة الترابية.
يقول متحدثا عن لحظة تعيينه ممثلا دائما للمغرب لدى الأمم المتحدة إن عبد الرحيم بوعبيد كان أول من علم بالأمر من الملك الحسن الثاني، حيث رد بوعبيد على الملك بأن مولاي المهدي العلوي لم يتمرس بعدُ بالشكل الكافي في الحياة السياسية بعد سنين قضاها خارج البلد. لكن الملك كان له رأي آخر. يقول: «لم يقتنع الحسن الثاني، رحمه الله، بموقف السي عبد الرحيم بوعبيد، لأن الأمر كان يتعلق في نظر جلالته بقضية الوحدة الترابية، وهي قضية أسمى من كل الاعتبارات، مما حذا بالكاتب الأول إلى طرح الأمر على المكتب السياسي الذي لم يكن أعضاؤه متحمسين إطلاقا للموضوع، باستثناء السي عبد الرحيم نفسه الذي رأيته مصرا على طرح الموضوع بإلحاح من منظور المصلحة الوطنية التي تتقاطع مع مبادئ الحزب وأهدافه في هذه القضية بالذات.
انتهت اجتماعات المكتب السياسي، التي كنت أحضرها من دون أن أنبس ببنت شفة، إلى قرار وضع المهدي العلوي رهن تصرف جلالة الملك، الذي سيقرر تعييني في وقت لاحق من ذلك العام مندوبا دائما للمغرب لدى الأمم المتحدة مع سفيرين مساعدين مكلفين بالشؤون القانونية والإدارية، هما محمد بنونة وخليل الحداوي.
في يوم 25 يناير 1985، كنت أحضر حفل عقيقة ابني إبراهيم، فاتصل بي السي عبد الرحيم بوعبيد، وأخبرني بأن علي الاتصال بالسيد أحمد رضا اكديرة لترتيب لقائي بجلالة الملك. في اليوم الموالي زارني في البيت سي محمد اليازغي وقال لي بما أن الأمر استقر على قبولي تولي منصب السفير، فإن علي تقديم استقالتي من المكتب السياسي للحزب. استغربت للأمر وقلت للسيد اليازغي إن مسألة اختياري لمنصب ممثل المغرب في نيويورك لم تكن لـ«سواد عيوني»، بل هو مساهمة من الحزب في ملف القضية الوطنية والدفاع عن الوحدة الترابية، وأن شخص السفير ليس هو المهم في هذه الحالة. ولذلك فإن قبول القيادة بالتكليف هو قرار سياسي لا يتعارض مع مواقف الحزب من القضايا الداخلية التي له رأي فيها. وهكذا رفضت تقديم استقالتي من المكتب السياسي».