قرآن 2015.. أخبار سعيدة
قد يكون النبأ الآتي، مؤخراً، من جامعة برمنغهام البريطانية، بمثابة حدث العام 2015 بامتياز؛ في ميدان المخطوطات العربية والإسلامية القديمة عموماً، والمخطوطات القرآنية بصفة خاصة: صحائف القرآن، التي عُثر عليها في الجامعة صيف هذا العام، قد تكون إحدى نسخ القرآن الأقدم، ولعلها جُمعت في عهد الخليفة أبو بكر الصديق. ومما له دلالة خاصة أنّ الصحائف وصلت إلى بريطانيا عبر قسّ عراقي كلداني يُدعى هرمز منغنا، كان يقيم في قرية قرب دهوك؛ وقد جمعها، وسواها، لصالح الجامعة، بتمويل من صناعيّ في برمنغهام أراد توطيد مكانة الجامعة وإثراء مكتبتها بالمخطوطات. وفي سنة 1913 هاجر منغنا إلى بريطانيا، وامتهن تدريس اللاهوت، ونقل معه مجموعة من أثمن المخطوطات الإسلامية، تُصنّف اليوم تحت اسم «مجموعة منغنا».
بداية الخبر السعيد كانت في (يوليو) الماضي، حين تنبّه باحثون في الجامعة إلى وجود الصحائف القرآنية، المكتوبة على جلد ماعز أو غنم، في أحد أقبية الجامعة، فأخضعوها لفحص بتقنية الكربون المشعّ. وهكذا، اتضح أنّ عمرها يبلغ 1370 عاماً، بل ذهبت تقنية الفحص أبعد، فحدّدت التاريخ في الفترة بين 568 و645م. وهذا التفصيل، الحاسم، دفع البروفيسور دافيد توماس، أستاذ الدراسات المسيحية ـ الإسلامية المقارنة، إلى ترجيح كتابة الصحائف في السنوات الأولى من نزول الوحي على النبي، أي بين 610 وحتى تاريخ وفاته في 632 م.
ذلك، من جانب آخر، لا يوفّر إجماع أخصائيي المخطوطات القرآنية، بأنّ صحائف برمنغهام هي في عداد النسخ الأقدم؛ وهناك، في المقابل، رأي آخر مكين وموثّق، ما زال يساجل بأنّ نسخة الجامع الكبير في العاصمة اليمنية صنعاء هي الأقدم. وكانت أمطار غزيرة قد ألحقت الضرر بسقف مكتبة الجامع، وخلال عمليات الترميم عُثر على عدد كبير من الصحائف القرآنية، قام بفحصها المستشرق الألماني غيرد بوين (صاحب الآراء الإشكالية حول أصول القرآن)، فجزم بأنها لا تزيد عن 90 سنة بعد وفاة الرسول، فاعتبرها نسخة القرآن الأقدم. وفي كلّ حال، ينبغي أن يكون الخبر السعيد الأحدث، الآتي من الجامعة البريطانية، حافزاً للتذكير بضرورة الحفاظ على مخطوط صنعاء، واتخاذ كل الإجراءات الكفيلة بتأمين سلامته في ظلّ الاحتراب الداخلي الذي يشهده اليمن.
أخبار المخطوطات القرآنية تردّني، شخصياً، إلى ذكرى عزيزة تعود إلى 13 سنة خلت؛ في مدينة المنامة، عاصمة البحرين، وتحديداً في «متحف بيت القرآن»، ذلك المَعْلَم الحضاري الذي لا تكتمل معرفة البحرين المعاصرة من دون زيارته. والمهندس الدكتور عبد اللطيف جاسم كانو، صاحب فكرة إنشاء هذا المتحف العصري، أراد له أن يكون مركزاً جامعاً وشاملاً وحافظاً للقرآن، على هدي الآية الكريمة: «إنّا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون»؛ الأمر الذي يعني أنّ «الحفظ» هنا يتعدّى المحافظة والتخزين وحتى العرض المتحفي، كما يقول الدكتور كانو. وفي أرجاء هذا الصرح الحضاري ثمة، أوّلاً، خصوصية المبنى الآسر، الذي يجمع بين عناصر العمارة الإسلامية الأصيلة وأحدث معطيات وتقنيات العمارة المعاصرة. هنالك زخارف ومشربيات وقباب ذات زجاج معشّق ونافورة ماء، وثمة مسجد صغير يتسع لحوالي 250 مصليّاً، تتوسط سقفه قبّة بديعة أخاذة.
وقاعات المتحف تسعٌ، تحتوي الأولى على معلومات عن تاريخ القرآن، ونزوله، وأسماء كتّاب الوحي، ومعلومات تاريخية عن كيفية جمع الآيات في عهد الرسول، ثمّ الجمع الثاني في عهد الخليفة الأوّل أبي بكر الصديق، والجمع الثالث في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان. القاعة الثانية تحتوي على مخطوطات القرآن التي كُتبت على الرقّ، بالخطّ الكوفي، في أماكن مثل المدينة المنوّرة والعراق وشمال أفريقيا والأندلس، حين كانت الكتابة بدون تنقيط. القاعة الثالثة مخصصة لأنماط الخطوط العربية المستخدمة في نسخ القرآن، وأنساق الزخارف التي تزيّن صفحاته، وتفاصيل الطباعة الأخرى. القاعة الرابعة تعرض نفائس المخطوطات القرآنية القادمة من أصقاع إسلامية بعيدة مثل الهند وموريتانيا، وجزءاً كاملاً محفوراً في الخشب، بالإضافة إلى مخطوط صغير الحجم بطول 4 سم وعرض 2.5 سم. القاعات الأخرى تحتوي على نماذج نادرة من المصاحف وأنواع الورق المستعمل لأوّل مرّة في كتابة القرآن، وأدوات الكتابة التي استُخدمت على مرّ العصور، ونماذج القرآن بعد دخول آلات الطباعة إلى البلاد الإسلامية، فضلاً عن القاعة الثامنة المخصصة لعرض أولى تراجم القرآن إلى اللغات الأجنبية الأوروبية والآسيوية، والقاعة التاسعة التي تضمّ طائفة بديعة من الأعمال التشكيلية الحديثة المرتبطة بالآيات.
ومن صنعاء إلى برمنغهام، ليس دون المرور بالمنامة، لا يكفّ ميدان المخطوطات القرآنية عن زفّ الأخبار السعيدة؛ وسط هذا الخراب العميم، وصعود جاهليات التطرّف المعاصرة.