شوف تشوف

الرئيسيةسياسيةملف التاريخ

قتلة مأجورون جاؤوا إلى المغرب لاغتيال الزعماء الوطنيين

كشفتها مذكرات ابنة زعيمهم واستهدفوا علال الفاسي وبنجلون والشرقاوي

«جماعة اليد الحمراء كان يترأسها الفرنسي «أفيفال»، وكان يملك خمارة في حي «لاجيروند».

مقالات ذات صلة

وهذا الرجل هو الذي قاد عمليات اغتيال الوطنيين، وقد بلغ به الأمر أيضا محاولة اغتيال المحامي الشوري المعروف، عبد القادر بنجلون، الذي كان نائبا في الأمانة العامة عن محمد بن الحسن الوزاني في حزب الشورى.

هذا المحامي كان يترافع عن الوطنيين في السجون، رفقة محام فرنسي اسمه «شارل لوكران»، حيث كانا معا يترافعان لصالح الوطنيين في المحاكم العسكرية»، هذه الشهادة التاريخية النادرة التي سوف نأتي إلى تفاصيلها في هذا الملف، لم تكن سوى جزء من المخطط الكبير لاغتيال وطنيين مغاربة، كان من بينهم علال الفاسي، والذي كانت تفاصيل محاولة اغتياله فصلا يصلح لأفلام العصابات.

يونس جنوحي

ابنة أحد المتورطين اعترفت بأن والدها أراد اغتيال علال الفاسي

 

اسمها نيكول آتيا، وهي ابنة الرجل الفرنسي المثير للجدل «جواتيا». وعندما أصدرت كتابها عن حياة والدها السرية والعمليات التي تورط فيها، قالت إنه كُلف من طرف جهاز الـ«سديك»، عن طريق منظمة فرعية تابعة للجهاز وتحظى بميزانية خاصة ومستقلة، باغتيال الزعيم علال الفاسي.

الابنة تقول إن والدها كان معه رجلان آخران، هما «أنطوان نوتيني» و«جان باليس».

نعم، الاسمان معا مألوفان، خصوصا للذين تابعوا قضية المهدي بن بركة. لأنهما ببساطة على رأس قائمة الاتهام، وهما معا كانا مطلوبين من طرف الأمن الفرنسي للتحقيق معهما في قضية اختفاء المهدي بن بركة في أكتوبر 1965.

لكن لنعد إلى خمسينيات القرن الماضي، لماذا كان الهدف اغتيال علال الفاسي؟

لم يكن هذا الزعيم الوطني هو الوحيد على القائمة، فقد اتضح أن وطنيين آخرين كانوا ضمنها أيضا، من بينهم عبد القادر بنجلون، ومحمد الشرقاوي، برادة، وآخرون.

بحسب أرشيف تقارير جهاز الـ«سديك»، والتي أكدتها ابنته في كتابها عن والدها، فإن جواتيا جاء إلى المغرب ونزل في مدينة طنجة أولا، ومنها توجه إلى تطوان.

كان يبحث عن علال الفاسي، والمعلومات التي زوده بها الفرنسيون تقول إن علال الفاسي كان قد توجه إلى تطوان، وهي المدينة التي كانت وقتها ما بين 1953 و1955 ملجأ للمبحوث عنهم من طرف البوليس الفرنسي، بحكم أنها تقع تحت حكم السلطات الإسبانية.

في تطوان، سوف يتوصل جواتيا برسالة سرية مضمونها أن علال الفاسي لا يوجد في تطوان، وأنه غادرها إلى منطقة كتالونيا الإسبانية.

ولتنفيذ الاغتيال، كان لا بد أن يتوجه إلى إسبانيا، لكنه عاد أدراجه في آخر لحظة، ولم يسع وراء علال الفاسي، مخافة أن يقع تشنج في العلاقات الفرنسية الإسبانية، إن تم اغتيال علال الفاسي فوق التراب الإسباني.

لم يكن «جواتيا» وحيدا في العملية، فقد كان يستعين كثيرا برفيقه «نوتيني»، الذي تعرف عليه خلال الحرب العالمية الثانية، وعاشا فظاعاتها معا. حتى أن «نوتيني» فقد رجله في الحرب، وصار يستعين بساق خشبية.

لكن المثير أن «جواتيا» كان يستغل «إعاقة» صديقه «نوتيني»، إذ عمد إلى تعديل الساق الخشبية لصديقه واستعملها لتهريب السلاح أثناء السفر. وهكذا استطاع «جواتيا» تأمين نقل المسدس معه إلى إسبانيا، بدون مشاكل تذكر مع الجمارك.

لم تقف الأحداث عند هذا الحد، بل صمم «جواتيا» على تنفيذ مخطط علال الفاسي ومن معه. إذ إن هذا السياسي الوطني المغربي لم يكن يتحرك وحيدا أبدا، بل كان دائما محاطا بعدد من المرافقين، بينهم أعضاء في الحزب وآخرون من الأسماء الوطنية والعلماء الذين لديهم اتصال به.

وهكذا تلقى «جواتيا» رسالة مفادها أنه يتعين عليه اغتيال علال الفاسي بعد تأكد عودته إلى تطوان، قادما إليها من إسبانيا، ومن معه، لضمان نجاح العملية، وعدم وقوع مفاجآت.

استعان «جواتيا» برجلين آخرين، وقاموا بوضع قنبلة في السيارة التي كان يستعملها علال الفاسي ومن معه في التنقل.

لكن ما وقع أن السيارة انفجرت، ولم يكن علال الفاسي على متنها، بل كان في غرفته في الفندق بمدينة تطوان. وخلف الانفجار وفاة رفيقين من مرافقي علال الفاسي ركبا السيارة.

عندما علم المنفذون أن علال الفاسي لم يكن أحد الراكبين الاثنين في السيارة، قرروا الصعود إلى الفندق واقتحام الغرفة وإطلاق النار.

لكنهم لم يستهدفوا الغرفة التي ينام فيها علال الفاسي، وأطلقوا النار على رجلين كانا نائمين في الغرفة.

وفي المحاولة الثالثة، وضع «جواتيا» ومرافقاه قنبلة في قاعة اجتماعات كانت في الفندق، وكان مقررا أن ينظم علال الفاسي كلمة خطابية يحضرها وطنيون مغاربة من تطوان.

وفعلا نجح في وضع القنبلة في القاعة، لكن نباهة عمال الفندق الذين كانوا مغاربة جعلتهم ينتبهوا إلى وجود الحقيبة التي كانت تحتوي على القنبلة، وأخبروا مرافقي علال الفاسي، وتم إبطال مفعولها.

التفاصيل التي تذكرها ابنة «جواتيا» كما حكاها لها بنفسه، تتطابق مع تسلسل الأحداث، وتقارير الـ«SDEC»، إذ إن علال الفاسي نجا، لكن عددا من مرافقيه أصيبوا في تلك المحاولات التي استهدفته ما بين إسبانيا وتطوان.

وقعت فرنسا في إحراج كبير، عندما حاول «جواتيا» ومن معه مغادرة المغرب من مدينة طنجة.

إذ بعد انكشاف أمرهم، قرروا الهروب من تطوان قبل أن تصل إليهم أيادي المقاومين المغاربة الذين كانوا يقطنون في المدينة باعتبارهم لاجئين.

وهكذا، عند وصولهم إلى مطار طنجة، المنطقة الدولية، لم يكن لدى عملاء «SDEC» أي سلطة على أمن المطار لتسهيل خروجهم منه فورا. وبسبب التصرفات التي أقدم عليها أحد مرافقي «جواتيا»، ودخوله في شجار مع بعض مرتادي المطار، جرى إيقاف الثلاثة، وأسفر تفتيش أمتعتهم عن وجود أسلحة مخبأة بعناية في الحقائب، اتضح لاحقا أنها الأسلحة التي أرادوا بها اغتيال علال الفاسي وعدد من الوطنيين المغاربة.

فر أحد مرافقي «جواتيا»، لكن الأخير اعتُقل على يد أفراد الشرطة الدولية، واقتيد مع مرافق له اسمه «لوبيز»، وهو الآخر سوف يكون له دور كبير في عملية اختطاف المهدي بن بركة، واقتيد الاثنان إلى السجن في مدينة طنجة.

لكن الاستخبارات الفرنسية لم تقف مكتوفة اليدين، وعملت على ضمان تهريب رجليها من السجن، بتنفيذ مخطط محكم سهر على تنفيذه رئيس فرع للاستخبارات الفرنسية في طنجة الدولية.

عند عودة المتورطين إلى فرنسا، اشتغلوا جميعا في عمليات مشبوهة، وبعد استقلال المغرب، عملوا في التهريب ومجالات مشبوهة، إلى أن شاركوا في عملية اختطاف المهدي بن بركة في أكتوبر 1965. وبين الفترتين، حاول هؤلاء القتلة المأجورون تنفيذ عمليات للنيل من الوطنيين المغاربة واغتيالهم، سيما بعد أن دخلت منظمة اليد الحمراء على الخط، وصرفت بسخاء لمكافأة القتلة المأجورين على تنفيذ عمليات لإسقاط أسماء وطنية مغربية.

 

 

الاستخبارات الفرنسية أمطرت المغاربة بالرصاص

 

التقارير التي ما زال أرشيف المخابرات الفرنسية «SDEC» يحفظها، تؤكد أن الإقامة العامة الفرنسية كانت مستاءة جدا من الأحداث المتسارعة سنة 1954 و1955، بل وطالبت الأمنيين بتطويق السياسيين، لأنها كانت تتوفر على تقارير تؤكد الصلة بين الوطنيين وأعضاء المنظمات السرية التي نفذت عمليات اغتيال استهدفت فرنسيين وجنسيات أجنبية أخرى في المغرب، وأيضا مغاربة عُرفوا بالتعاون مع فرنسا أو العمل لدى الفرنسيين ولو من باب السخرة في المنازل.

كان حزب الاستقلال، في بؤرة الغضب الفرنسي، إذ إن بعض الوطنيين المنتمين للحزب كانوا يوزعون منشورات باسم حزب الاستقلال، والأمر نفسه انطبق على حزب الشورى والاستقلال. بالإضافة إلى تيارات أخرى لم يُكتب لها تأسيس حزب سياسي، لكنها كانت تحاول رسم رقعة لها في الساحة وكانت على صلة وطيدة بالتنظيمات السرية.

ولهذه الأسباب كلها شرعت فرنسا في التخطيط لتنفيذ عمليات للنيل من رموز المقاومة المغربية والحركة الوطنية، التي لها نشاط سياسي.

كل التقارير الفرنسية تشير إلى وجود اتصال وعلاقة وثيقة بين السياسيين وأعضاء الخلايا السرية للمقاومة، ولهذا السبب تحديدا وضع مخطط للنيل من رموز الحركة الوطنية الذين كانوا يمارسون أنشطة سياسية ميدانية، ويشجعون المغاربة على رفض السياسات الفرنسية وينشرون الوعي الوطني في صفوف المواطنين المغاربة.

لقد كان الإعلام الفرنسي بدوره يشن حملة كبيرة ضد الوطنيين، ويصور «الفدائيين» على أنهم مخربون. وأمام الجرائد التي تدعمها الإدارة الفرنسية، والتي تصدر حصريا في المغرب، كان هناك عدد هائل من المنشورات باللغتين العربية والفرنسية تدعو المغاربة إلى تقديم يد العون لعدد من الوطنيين الذين يوجدون في حالة ملاحقة أمنية. وكانت هذه المنشورات تقدم توعية مجانية للمغاربة بضرورة تقديم المساعدة لمنفذي الاغتيالات التي تطال الفرنسيين والخونة، في مقابل منشورات أخرى، بالعربية دائما، صورتهم على أنهم مجموعة من المخربين. وهكذا ضمنت فرنسا تعاطفا كبيرا لمواطنيها المقيمين في المغرب، خصوصا في الدار البيضاء، مع سياستها التي تقوم على اغتيال وطنيين مغاربة، بذريعة أنهم يروجون أفكار مناهضة لفرنسا.

وفي هذا المناخ «المُكهرب»، وُلدت «اليد الحمراء».

 

 

 

الحرب العالمية الثانية عرت عمليات «سرية» دموية

استغل الفرنسيون ظروف الحرب العالمية الثانية جيدا، إذ إن عددا من المدانين في فرنسا من طرف القضاء الفرنسي، في جرائم خطيرة، صار بإمكانهم الانتقال صوب المغرب.

هؤلاء المجرمون الفرنسيون، من بينهم من قضى عقوبات سجن طويلة، بسبب الانضمام إلى عصابات خطيرة وتنفيذ سرقات وقتل مواطنين فرنسيين.

لكن في ظل ظروف الحرب العالمية الثانية، سيما بعد سنة 1942، عندما كانت فرنسا تتجه نحو هزيمة كبرى في الحرب على يد الألمان، استغل هؤلاء المجرمون الفرنسيون الظرفية، واشتغلوا لصالح الأجهزة الفرنسية.

لكن المشكل أن المخابرات الألمانية في عهد النازية كانت أقوى بكثير من تحركات الفرنسيين، وسرعان ما توصلت إلى هويتهم الحقيقية بعد العمليات التي استهدفوا بتنفيذها الجنود الألمان في مدن فرنسا.

وهكذا أصبح هؤلاء المجرمون السابقون مبحوثا عنهم من طرف الأجهزة الاستخباراتية الألمانية. ولم يكن أمامهم حل سوى التوجه إلى مدن شمال إفريقيا، خصوصا الجزائر والمغرب.

عندما حل هؤلاء الفرنسيون بكل من ميناء الدار البيضاء وميناء طنجة، كانت أجهزة المخابرات التابعة لأكثر من دولة تشتبه في كل الوافدين الجدد على المغرب أيام الحرب، والسبب أن السياق الدولي وقتها كان ملغوما.

هؤلاء الفرنسيون دخلوا إلى المغرب بجوازات حقيقية وأخرى مزورة سبق لهم الحصول عليها عندما كانوا يعملون على اغتيال الضباط الألمان، خصوصا في باريس.

وهذه الجوازات كانت تُستعمل حتى لا تصل إليهم أيادي المخابرات الألمانية. إذ إن بعض التقارير تؤكد وجود أنشطة استخباراتية ألمانية في المغرب إلى حدود سنة 1944، تاريخ نهاية الحرب وسقوط النظام النازي.

الألمان كانوا مهتمين بالفرنسيين الذين يفدون إلى المغرب، ويتولون التجسس عليهم والتدقيق في الجوازات التي كانوا يُدلون بها أثناء وصولهم إلى ميناءي «طنجة» أو «الدار البيضاء»، أو أثناء النزول في الفنادق.

المخابرات الألمانية كانت تبحث عن الفرنسيين الذين تورطوا في اغتيال شخصيات ألمانية في فرنسا، ولم يكن ضباطها مكترثين للمهام السرية التي جاء هؤلاء الفرنسيون لتنفيذها في المغرب، ما دام الألمان غير مُستهدفين.

الخطورة تكمن في أن هؤلاء الفرنسيين تحولوا بسرعة إلى قتلة مأجورين، واستغلوا الظرفية السياسية المغربية لتحقيق الربح، سيما وأن بعض المتطرفين الفرنسيين كانوا وقتها قد بدؤوا الاشتغال على تنظيم سري لاغتيال الوطنيين المغاربة.

بالنسبة إلى هؤلاء المجرمين السابقين في فرنسا، فإن الظرفية كانت مواتية جدا لربح المال. إذ لم تكن لديهم أي خلفية سياسية تجعلهم يمارسون أنشطة مسلحة في المغرب لأغراض سياسية. ليبقى الدافع المادي المحرك الوحيد للعمليات التي نفذوها في المغرب ضد شخصيات وطنية وتجار مغاربة.

وصول هؤلاء المجرمين السابقين إلى المغرب، شكل فعلا انفلاتا أمنيا، خصوصا وأنهم كانوا ينشطون في الحانات التي كان يملكها فرنسيون، وحولوا بعض النقاط في الدار البيضاء إلى بؤر حقيقية لدور الدعارة والأنشطة المشبوهة، ونفذوا سرقات ضد الفرنسيين. وهو ما جعل المقيم العام «كرنفال»، يضع نهاية لذلك التسيب الذي صنعته فرنسا بيدها، ويقرر وقف أنشطة الفرنسيين أصحاب السوابق، لوقف نزيف الانفلات الأمني الذي عرفه المغرب ما بين 1953 و1955.

 

مطلوبون «خطر» حلوا في المغرب

في نهاية سنة 1943، بعد مرور قرابة سنة على وصول القوات الأمريكية إلى المغرب، انتبه الضباط الأمريكيون إلى وجود جواسيس من أجهزة استخباراتية أوروبية في المغرب يمارسون أنشطة مشبوهة، أو لديهم سجل مشبوه جرى التلاعب به لإخفاء ماضيهم لدى عدالة بلادهم.

عملاء من فرنسا وبريطانيا، كانوا يتنافسون مع عملاء ألمان على العمليات السرية، ومنها عمليات نُفذت لاغتيال أثرياء فرنسيين ومن جنسيات أخرى، وجرى إلصاق التهمة بالمغاربة.

وليس هذا وحسب، بل لاحظ الأمريكيون أن الحكومة الفرنسية كانت تتساهل مع هؤلاء العملاء، وتضعهم خارج دائرة المحاسبة.

لماذا توجس الأمريكيون من هؤلاء العملاء الفرنسيين؟ السبب تنقله وثيقة أمريكية تعود إلى فترة نشاط القاعدة الأمريكية في القنيطرة، وتغطي حدثين وقعا ما بين 24 و28 يوليوز 1943. جاء فيها: «إن المصالح العسكرية لاحظت تردد خمسة أشخاص فرنسيين على أماكن يتردد عليها جنود أمريكيون، وأنهم لاحقوا جنودا أمريكيين بسيارات يغيرونها باستمرار، أثناء جولتهم في مدينة الرباط وظلوا يلاحقونهم إلى أن عادوا إلى محيط القاعدة في «بور ليوطي».

الضباط أحسوا بوجود من يلاحقهم، ونبهوا مصالح القاعدة، وفُتح تحقيق في الموضوع».

المثير أن التقرير يذكر أن مصالح القاعدة نسقت مع ضباط أمريكيين كانوا تابعين لجهاز الاستخبارات، وفي غضون أيام قليلة وصلوا إلى أن المُشتبه فيهم حاملون للجنسية الفرنسية، لكن جوازاتهم مزورة. وبعد التحقيق مع واحد منهم، اتضح أنه قاتل مأجور يتلقى عمولة مقابل إطلاق الرصاص على أشخاص، ثم يختفي.

واعترف للأمريكيين بأنه نفذ خمس عمليات في المغرب، اثنتان منها ضد مواطنين فرنسيين، أحدهما يمتلك مخزنا للسلع في الدار البيضاء.

اغتيالات من هذا النوع كانت تُنسب إلى أبرياء مغاربة أو إلى المقاومة. وهذا لا يعني أن المقاومة كانت تنسب إلى الفدائيين تنفيذ عمليات نفذها قتلة مأجورون فرنسيون، ولكن الفرنسيين أنفسهم ركبوا على هذه الوقائع، وبرروا بها سلسلة اعتقالات واسعة في أوساط الشبان المغاربة، خصوصا في حي المدينة القديمة بالدار البيضاء.

بالعودة إلى التقرير الأمريكي، نجد: «لم يشكل أولئك الفرنسيون أي خطورة على السلامة الجسدية للضباط الأمريكيين. وباعتراف المشتبه فيه الذي جرى استجوابه، فإنهم كانوا يلاحقون الضباط الأمريكيين طمعا في الوصول إلى معلومات عن طريقة للحصول على السلع الأمريكية التي يجري تهريبها خارج القاعدة الأمريكية، خصوصا المشروبات الكحولية، لكن يقظة الضباط حالت دون وصولهم إلى هدفهم».

ما بين 24 يوليوز و28 منه، وُجد واحد من الفرنسيين الخمسة مقتولا بسلاح ناري، وسط بهو فندق في الرباط. تقرير البوليس الفرنسي يقول إن الضحية قُتل على يد زملائه، بعد شجار على طاولة القمار. لكن الأمريكيين عندما سألوا فرد العصابة الذي سبق لهم استجوابه، أجاب أن الأمر لم يكن يتعلق بالقمار، وإنما بمحاولة اغتيال أحد القادة الوطنيين المغاربة. يقول الفرنسي الذي تحول إلى مخبر لدى المصالح الاستخباراتية في القاعدة الأمريكية، حسب ما جاء في الوثيقة: «كان الهدف اغتيال شخصيات مغربية من الوطنيين، أثناء عودتهم ليلا من لقاء للترتيب لمظاهرات ضد اعتقالات واسعة ما بين سلا والدار البيضاء.

لاحقنا سيارة كان على متنها أربعة أشخاص قياديين، ولما رفضوا التوقف أطلقنا عليهم النار، وانقلبت السيارة بعد مقتل السائق. وسُجل الحادث على أنه حادث سير.

واختلفنا حول طريقة تقسيم المال بعد التنفيذ، لذلك تلقى زميلنا رصاصة، لأنه اعترض على طريقة توزيع المال».

هذه الواقعة، تكشف كيف أن مجرمين فرنسيين جاؤوا إلى المغرب بحماية من الإدارة الفرنسية في الرباط، وشرعوا في تنفيذ اغتيالات لصالح فرنسا، دون أن تظهر أي علاقة للبوليس الفرنسي مع تلك الوقائع.

لكن الأمريكيين كانوا على درجة كبيرة من اليقظة الاستخباراتية، وهو ما سوف يتأكد مع توالي الأحداث، خصوصا بعد 1953.

«أفيفال».. الفرنسي الذي قاد «اليد الحمراء» من قلب خمارته في الدار البيضاء

كُتب الكثير عن منظمة اليد الحمراء، التي لم تكن سرية في الحقيقة، إذ إن أفرادها كانوا مشهورين في المغرب بعدائهم للمغاربة، وارتكابهم جرائم ضد المغاربة.

انتسب إلى اليد الحمراء مُدانون سابقون في فرنسا وقدموا خدماتهم إلى عائلات فرنسية في المغرب، سبق لأفرادها أن فقدوا أحباءهم في عمليات المقاومة.

رغبة بعض العائلات في الانتقام، التقطها متزعمو اليد الحمراء، التي كانت امتدادا لليمين المتطرف الفرنسي في باريس، واستثمروها.

إذ كان على العائلات أن يقدموا إتاوات لأعضاء المنظمة، مقابل اغتيال شخصيات مغربية.

أحد قدماء الوطنيين المغاربة الذين اشتغلوا في العمل السياسي الوطني خلال الخمسينيات، قبل الحصول على الاستقلال، هو حمزة الأمين، أحد قياديي حزب الشورى والاستقلال في الدار البيضاء، وقد كان شاهدا على وجود عصابة «اليد الحمراء» ونشاطها في المدينة، وقد قال في حوار سابق مع «الأخبار»:

«جماعة اليد الحمراء كان يترأسها الفرنسي «أفيفال»، وكان يملك خمارة في حي «لاجيروند».

وهذا الرجل هو الذي قاد عمليات اغتيال الوطنيين، وقد بلغ به الأمر أيضا محاولة اغتيال المحامي الشوري المعروف، عبد القادر بنجلون، الذي كان نائبا في الأمانة العامة عن محمد بن الحسن الوزاني في حزب الشورى.

هذا المحامي كان يترافع عن الوطنيين في السجون، رفقة محام فرنسي اسمه «شارل لوكران»، حيث كانا معا يترافعان لصالح الوطنيين في المحاكم العسكرية.

وهكذا خططت جماعة اليد الحمراء لاغتياله، لكن «نجاه الله».

أرادوا تفجير «الفيلا» التي كان يستقر بها عبد القادر بنجلون، وكانت تقع أمام مستشفى ابن رشد. وعندما فشلوا في تفعيل القنبلة، انكشف مخططهم.

وقررنا أن نحرس الفيلا حراسة شديدة بالليل والنهار حيث كنا، أعضاء حزب الشورى بالدار البيضاء، نتناوب على الحراسة على شكل أفواج بالليل والنهار حتى لا يتكرر السيناريو».

وفي شهادته المطولة، يضيف ذ. حمزة الأمين متحدثا عن الأسماء التي استهدفتها اليد الحمراء: «.. المحامي عبد القادر برادة الذي كان من مسؤولي حزب الشورى والاستقلال، كانت إقامته سوف تتعرض لانفجار بقنبلة زرعها له أعضاء اليد الحمراء لاغتياله، لكن المخطط فشل وتم إبطال مخططهم، ومن يومها عقد اجتماع على مستوى الدار البيضاء، وتقرر أن نقوم بمناوبات حراسة لمنازل الأعضاء النشيطين سياسيا وكل الشخصيات المؤثرة عندنا في حزب الشورى، لكي نضمن سلامتهم من التعرض للاغتيال. وبقي الأمر على حاله، إلى أن تم التوصل لحل سياسي لذلك الاحتقان.

لكن الدور الذي لعبه سي محمد الشرقاوي في هذا الجانب كان كبيرا جدا، وقد كان بدوره من الشخصيات المستهدفة من طرف قادة جماعة اليد الحمراء».

جل قدماء المقاومة المغربية فقدوا زملاءهم على يد إرهابيي اليد الحمراء. وقد حذر الحزبيون المغاربة من الأنشطة الإجرامية لهذه الجماعة، وجرت فعلا محاولات كثيرة لاستهداف أفرادها. إذ رغم الاحتياطات الكثيرة التي كانوا يبذلونها، والحماية القصوى التي كانوا يستفيدون منها من طرف الإقامة العامة، إلا أن مقاومين نجحوا في تنفيذ عمليات في الدار البيضاء، نالت من قياديي اليد الحمراء واغتالوا عددا منهم.

 

الـ«سديك».. الجهاز التي تلوث بدماء الوطنيين

هل كانت هناك علاقة بين جهاز الاستخبارات الفرنسية «SDEC»، وبين عناصر وحدات الجيش الفرنسي في المغرب؟

تقول بعض التقارير الفرنسية إن مجندين سابقين في فرنسا، التحقوا بالجهاز بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. رغبة من الدولة الفرنسية في استغلال مؤهلاتهم العسكرية وخبرتهم في الميدان أثناء الحرب، واستعمالها في المغرب بعد نهاية الحرب.

وهكذا جاء بعض هؤلاء المجندين السابقين إلى المغرب، وبدؤوا في الاشتغال لصالح مصالح الـ«سديك»، ونسقوا مع أمنيين فرنسيين في المدن المغربية، لجمع معلومات وتنفيذ عمليات ترعاها المصالح الفرنسية.

ولكي نكون أكثر دقة، فإن كل مصالح هذا الجهاز كانت تهتم بتأمين حياة رجال الأعمال والسياسيين الفرنسيين في المغرب.

وهكذا، عندما يُقتل معمر فرنسي عادي يعيش حياة هادئة في المغرب، فإن الشرطة الفرنسية تفتح تحقيقا في الموضوع وتُغلقه باعتقال أعداد واسعة من الشبان، لامتصاص غضب الرعايا الفرنسيين في المغرب، وتطلق حملة اعتقالات بين الفينة والأخرى.

لكن عندما يتعلق الأمر بمصالح رجال أعمال فرنسيين، وحياة كبار المسؤولين الفرنسيين في الإدارات داخل المغرب، فإن الجهاز يجمع التقارير ويجعل تأمين سلامة المعنيين أولى أولوياته.

هذا الكيل بمكيالين جعل أعدادا من الفرنسيين يصبون غضبهم على أفراد الجهاز.

لكن ما كان يهم الإدارة الأمنية الفرنسية وقتها، استعمال مخبري الجهاز، مغاربة وفرنسيين، للتخلص من المعارضين المغاربة.

عندما فشل مخطط نفي شخصيات وطنية على رأسها محمد بن الحسن الوزاني، المهدي بن بركة، والفقيه المختار السوسي، والحاج معنينو وآخرون غيرهم بالعشرات، كانت الغلبة للمدافعين عن طرح تنفيذ اغتيالات في الشارع العام لاستهداف حياة هؤلاء القادة الوطنيين، سيما وأنهم كانوا مسؤولين عن نشر أفكار الحركة الوطنية في التجمعات الخطابية والمدارس والأسواق والمساجد، ولم تفلح مساعي الأمن الفرنسي في ثنيهم عن هذا الأمر.

كانت جماعة اليد الحمراء الهدية التي تلقاها جهاز الـ«سديك»، ورغم أن هناك طرحا تاريخيا يؤكد وجود علاقة بين الطرفين، إلا أنه في ظل غياب وثائق رسمية تؤكد هذا الطرح، فإن المجال يبقى مفتوحا أمام التأويلات، خصوصا وأن الأنشطة التي نفذتها اليد الحمراء في المغرب، أو عمليات الاغتيال التي شُرع فيها ولم تنجح، كانت في أغلبها تستهدف وطنيين مغاربة، يتمنى عملاء الـ«SDEC» زوالهم!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى