قانون المصادفة من الاعتبار أمام فكرة الخلق المصمم
بقلم: خالص جلبي
كل ما في الكون ابتداء من بناء الذرة حتى أعقد أشكال الحياة، يشير إلى التصميم والقصد في بناء الكون والحياة، ولكن مع هذا فهناك شبهة تدور في ذهن البعض في رد كل شيء إلى «الصدفة». ولكن ما هي فكرة المصادفة؟ أما قانون المصادفة فصيغته الحرفية:
«إن حظ المصادفة من الاعتبار يزداد وينقص بنسبة معكوسة مع عدد الإمكانيات المتكافئة المتزاحمة».
وحتى يمكن فهم هذه المسألة المعقدة، فسوف نضطر إلى ذكر بعض أمثلة تحدد هذا القانون، ونبدأ بالبسيط حتى نصل إلى الصعب المعقد.
المثل الأول: هو دور المصادفة في المثل الأول لو كان معنا كيس فيه عشرة أرقام 1-10 وأردنا أن نسحب ورقة واحدة؛ فإن احتمال أن يكون الرقم 1 هو الأول هو احتمال واحد من عشرة، لأنه كما ذكرنا كل رقم قد يكون له الحظ في أن يكون هو المسحوب، ولكن المثل يتعقد بشدة أكثر عندما نريد أن نسحب رقمين متتابعين؛ فإن احتمال أن يكون الرقم 1 ثم يتبعه الرقم 2 هو احتمال واحد ضد مائة، لأننا لو فكرنا كيف سيتم الأمر فإن احتمال رقم 1 ثم نتبعه الأرقام الباقية بشكل غير محدد، مثل 1 يتلوه 7 أو 1 يتلوه 3 حتى يكتمل نصاب عشر مرات، ثم بقية الأرقام بالطريقة نفسها فيكون المجموع 100 مرة، وهو احتمال أن نسحب رقمين متتاليين، ويكون الرقم الأول 1 والثاني 2، ثم ينعقد المثل أكثر عندما نريد أن نسحب ثلاثة أرقام متتالية بحيث تخرجُ الأرقام 1، 2، 3 متتابعة؛ فيكون احتمال ذلك هو واحدا ضد ألف، وهكذا نتدرج في التعقيد والصعوبة حتى نصل إلى حد عجيب وهو إذا أردنا أن نسحب الأرقام العشرة مرتبة بعضها تلو بعض بحيث تخرج الأرقام من 1 إلى 10 متتابعة، فإن احتمال أن تخرج الأرقام مرتبة بعضها تلو بعض بشكل متدرج من (1-10) هو مرة واحدة، قد تكون المرة الأولى هي التي ستكون المطلوبة، ولكننا لا ننتظر معجزة، لأن الطبيعة شريفة غير مخادعة، ولأن احتمال 10 مليارات هو الذي يرد إلى الذهن قبل المرة الواحدة! وهذا مثل بسيط جدا وهو سحب أرقام، وسننتقل إلى ضرب أمثلة معقدة أخرى، بحيث إننا سنصل إلى أن نعطي للمصادفة احتمال الصفر وهي الاستحالة وستأتي معنا!
والآن إلى مثل آخر وهو من عالم الأدوية والصيدلة:
لنفرض أن لدينا صيدلية مليئة بأنواع مختلفة من المعاجين والأحماض والأسس والمراهم المنوعة والأدوية العديدة، ثم فجأة حدث اهتزاز أرضي، بحيث إن هذه الرفوف التي تحمل هذه الأدوية والمعاجين طرحت كل ما عليها وسالت الأدوية على الأرض واختلطت ببعضها، وامتزجت المراهم والمعاجين والمساحيق والسوائل، ولما مضت الهزة الأرضية رجعنا إلى هذه الصيدلية، فإذا بنا أمام خليط غير متجانس من الأدوية، إن هذا الفرض هو الأقرب للمعقول، ولكن كيف الحال لو وجدنا أن هذا الخليط قد حقق دواء جديدا ليس في البال؟
بالطبع إن هذا مستغرب جدا، لأن تركيب الدواء يحتاج إلى نسب معينة محددة، وإلى تفاعلات معينة محددة، ولكن مع ذلك قد يصدق.
ولكن كيف الحال لو أن اختلاط هذه الأدوية والمساحيق والسوائل والمراهم قد أوجد دواء جديدا فذاً يعالج مرضا مستعصيا على الأطباء حتى الآن، كما في الصدفية أو الصلع وهما مرضان جلديان غير مميتين، أو يشفي أمراضا مخيفة كالسل والسرطان، أو مرضا معديا كما في كورونا الذي ضرب الصين عام 2019، ثم عم الأرض.
إن هذا في عالم المستحيل، لأن تكون الدواء بنسبة معينة وبكيفة معينة ليشفي مرضا مخيفا له حساب احتمالات فوق التصور. بل كيف لو أن هذا المزيج ركب خلية أو كائنا حيا، سواء أكان نباتا أم حيوانا؟ بالطبع إن هذا لا يدخل ولا يندرج في البحث أصلا، لأن إمكانيات المصادفة تقف دون هذه العتبة وهي انبثاق الحياة.
ومثل آخر يلقي نورا في هذا البحث وهو مثل المطبعة..
لو فرضنا أنه لدينا مطبعة وفيها نصف مليون حرف، ثم حدثت هزة أرضية ألقت الحروف بعضها فوق بعض، حتى اختلطت إلى حد كبير وتراكمت فوق الأرض، ثم عدنا بعد ذلك إلى المطبعة بعد أن انتهت الهزة الأرضية، لنرى خليطا غير متجانس من الحروف والكلمات. إن هذا هو الأقرب للمعقول، ولكن كيف الحال لو رأينا جملة أو جملتين مفيدتين، فيهما معنى جميل، أو مثل نافع، أو بيت من الشعر؟
بالطبع إن هذا بعيد جدا، وحتى لو حدث سيثير دهشة واستغرابا عميقين عند من يرى هذا الشيء، وبالطبع إن هذا يعود إلى قانون الاحتمالات، وهو هنا تزاحم الحروف حتى تشكل الكلمات، ولقد مر معنا أن سحب عشرة أرقام متتالية، واحتمال خروجها مرتبة بعضها خلف بعض بالترتيب، هو احتمال واحد من عشرة مليارات، ولكن هنا المثل معقد جدا، فهو ليس تزاحم عشرة أرقام، بل خمسمائة ألف حرف.
فالمثل يبلغ حدا من التعقيد، بحيث إن قانون الاحتمالات يصل إلى درجة المستحيل؛ في ما إذا رجعنا إلى المطبعة لنجد قصيدة مؤلفة من ألف بيت من الشعر الموزون الجميل ذي المعنى العميق والوزن المتناسق، ولا يوجد فيها أي خلل لغوي.
بالطبع إن هذا في عالم المستحيل، لأنه في عالم الرياضيات – وهو عالم دقيق- توجد حسابات دقيقة محددة، ومعلوم فيها أن أي عدد أو زاوية أو رقم تناهى في الصفر فإنه يصل إلى الصفر، وهو يعتمد القانون المعروف ( أي لا نهاية).(عدد أو رقم مقسوم على اللانهاية يساوي صفرا).
وهنا أمامنا في قانون الاحتمالات إمكانية واحتمال حدوث هذا الشيء أن يبلغ رقما لا يمكن تصوره، بحيث إنه يملأ من الأصفار صفحات، وبحيث إنه لا يقرأ بشكل علمي، أي يصل إلى اللانهاية، وبالتالي فهو في عالم المستحيل، أي يستحيل حدوثه. وهكذا يمكن نسف فكرة المصادفة بشكل جذري ونهائي، حتى في عالم المادة قبل عالم الأحياء الذي وقفت عنده فكرة المصادفة.
وهناك أمثلة أخرى متعددة في هذا الباب، ولكنا سنختم الأمثلة بمثل أخير قام به عالم رياضي سويسري هو (تشارلز يوجين جاي) على مركب واحد من العضويات، والتي يمكن أن يشترك في تركيب خلية واحدة من خلايا الكائنات التي تعمر هذا الوجود..
ومع أن الوزن الذري لأبسط الآحيات هو 34.500 وهو آح البيض (بروتين)، ومع ذلك قام بتبسيط أول؛ فاعتبر الذرات 2000 (ألفي ذرة)، وقام بتبسيط آخر؛ فاعتبر أن الذرات هي نوعان فقط، بينما هي في الحالة العادية أربعة على الأقل، وهي الفحم والهيدروجين والأكسجين والآزوت، بالإضافة إلى الكبريت والنحاس والفوسفور وغيرها من العناصر، وقام بتبسيط ثالث وهو اعتبار الوزن الذري عشرة وسطيا، مع العلم أن الفحم 12 والأكسجين 16، فكانت نتيجة الحسابات التي وصل إليها هي أقرب للخيال منها إلى الحقيقة، فوجد أن احتمال ولادة هذه الذرة يحتاج إلى ثلاثة عناصر هي بالتتالي:
أولا: الاحتمال النظري لحدوث هذه الذرة. وثانيا: المادة وحجمها التي بإمكانها أن تعين رقم الاحتمال. وثالثا: الزمن الذي تحتاج إليه نظرية الاحتمالات حتى يمكن تشكيل هذه الذرة الواحدة فقط. فكان احتمال المصادفة تقريباً 2 × 10 3210، أي مسبوق
بـ3210 أصفار إلى يمين الرقم!
وأما حجم المادة الذي نحتاج إليه، حتى تتحقق مثل هذه المصادفة، فهو بحجم كرة ضخمة يحتاج الضوء لكي يقطع قدرها إلى 10 164 سنة، أي رقم واحد أمامه 164 صفرا، ونتيجة قراءة هذا الرقم تكون بالسنين الضوئية، وهو ما يعادل المسافة التي لو سار الضوء سنة زمنية كاملة يستطع أن يقطعها، والسنة الضوئية هي مسافة ستة ملايين مليون ميل، أي 6 × 10 12 ميل، حيث إن الضوء يقطع في الثانية الواحدة 300 ألف كيلومتر، أو 186 ألف ميل، وهو ما يقطع في الدقيقة الواحدة 11 مليون ميل و160 ألف ميل، أو كما ذكرنا في السنة الواحدة 6 ملايين مليون ميل على وجه التقريب، حيث وصلنا إلى هذا الرقم بضربه عدة مرات حتى نصل إلى رقم السنة، فهذه الكرة المادية التي نحتاج إليها لحدوث احتمال تكون ذرة بسيطة مكونة من ألفين من الذرات، وذات نوعين فقط من الجواهر، وذات وزن ذري وسطيا يبلغ العشرة (كما ذكرنا ثلاثة تبسيطات لهذه الذرة الوحيدة)، هي ذات قطر يبلغ بالسنين الضوئية 10 164 سنة.
وهذا الرقم يبلغ في علم الفلك أكبر من الكون الذي تخيله آينتشاين بسكستيليون سكستيليون سكستيليون مرة (تشارلز يوجين جاي). وبقي علينا الشيء الثالث وهو الزمن، بالإضافة إلى الاحتمال والكون المادي، فلو فرضنا أن عامل الخض الحروري هو الذي يعمل ويقدر، فهو يبلغ 500 مليون تريليون هزة في الثانية الواحدة، أي 5 × 10 14/ثانية، والتي هي من رتبة ذبذبة الضوء، فإن الزمن الذي نحتاج إليه مع كل هذا هو 10 234 بليون سنة.
ولكن يجب أن لا ننسى مع ذلك أن الأرض على رأي الجيولوجيين لم توجد إلا منذ 4,6 بلايين سنة، كما أن الحياة لم توجد إلا منذ حوالي 530 مليون سنة، والخلية الأولى منذ 3.8 مليارات سنة، وهكذا فإننا نجد أنفسنا أن الإمكانية الزمنية والحجم المادي لا يسعفنا في تحقيق تكوين مركب بسيط فقط، مصمم على نسق عجيب وتكوين غريب.
وهكذا فتكوين الذرة مدهش محير، وتركيب الفلك مدهش محير أكثر، وتركيب الخلية مدهش محير، وتركيب الأنسجة أكثر دهشة وحيرة، وتركيب الأعضاء مدهش محير، كما أن تركيب الكائن الحي مدهش محير، وأما النفس فهي ذلك العالم الغامض المجهول الذي تستشف البشرية بعض مكنوناته الآن.
وهكذا نرى أن هذه الفكرة مستحيلة، وذلك في مستويات بسيطة، وهي كما ذكرنا أمثلة منها بناء جزيء البروتين البسيط، ولكن الكون للناظر فيه يحوي من الأعاجيب وأشكال الحياة المعقدة ما يصيب الإنسان بالدوار؛ بل إن تركيب الخلية بالذات يبلغ من التعقيد ما يذكر بآية الذباب.
وهكذا نصل إلى تقرير قاعدة أساسية في مستهل أبحاثنا أردناها في هذا الكتاب، وهي أن كل هذه الدقة والتعقيد والجمال والروعة في بناء الكائن الإنساني، إنما هي من إرادة الله عز وجل الذي خلق هذا الإنسان لهدف مرسوم وغاية محددة..
(أفحسبتم إنما خلقناكم عبثا وإنكم إلينا لا ترجعون، فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم) المؤمنون.