شوف تشوف

الرأيالرئيسيةثقافة وفن

قانون الانتخاب الطبيعي ونظرية التصميم الذكي

 

 

خالص جلبي

 

نظرية التطور التي طرحها داروين في كتابين بين عامي 1859 و1871 م، كانت بمثابة زلزال حول فهم وجود الإنسان في الأرض بثلاثة محاور؛ أنه لم يهبط من كوكب آخر، بل نبت من أرض نباتا، وأن وجوده قديم جدا وليس قبل أربعة آلاف عام، والأهم أنه تطور من كائنات أخرى اشتقاقا. هذا الزلزال ما زال يرج الأرض رجا، وآخر الموجات كانت حول نظرية التصميم الذكي، حيث احتشد الجو بتظاهرة عالمية مضادة لنظرية التطور، تحت اسم علمي جذاب هو «التصميم الذكي»، حيث يذهب أهل هذا الفريق إلى تدخل عقل ذكي في توجيه الخليقة، وليس حسب قوانين التطور الصماء، بكلمة أدق إدخال المنهج الإلهي في خلق الكائنات، وهذا التوجه يبدو أنه لم يفهم تماما أن داروين لم يكن منكرا لملكوت الله. جل تصوره أن الكائنات اشتقت من بعضها البعض وخلقت أطوارا، وفي النهاية فالعلم سيكون هو الحكم الذي يقول صدقا وعدلا، وحتى نتمكن من الإحاطة بموضوع التطور. فلا بد من السير باتجاه معاكس، لمعرفة بدء خلق الأشياء على طريقة القرآن: «قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق، ثم الله ينشئ النشأة الآخرة»، وهي حسب الفلسفة (الجينيالوجيا)، أي تتبع جذور حدوث وولادة الأشياء إلى العالم، فحين نعرف المبتدأ نعرف المنتهى، وهو ما عنون به ابن خلدون كتابه في التاريخ «كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أخبار العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر».

وبين ما نكتب نحن الآن ونظرية التطور التي قدمها داروين أكثر من قرن ونصف (الكتاب الأول كما ذكرنا كان عام 1859م) مع أن البدايات هي أبكر من ذلك؛ ففي عام 1794 تقدم «إيراسموس داروين» وهو جد داروين فكتب في عالم النبات(Zoonomi) ، حول احتمالية وجود شجرة مشتركة لكل الخلائق.

وفي عام 1809، كتب «جان بابتيست لا مارك» حول فلسفة مملكة الحيوان، وأن القانون الذي يحكم كلا من مملكة النبات والحيوان واحد، هو التغير والصيرورة واستخدام العضو نموا من ضموره، وأن هذا التبدل ينتقل بدوره مورثا عبر السلالات، مثل مط الزرافة للعنق، فحيث اعتمدت الأكل من الأعالي امتد عنقها. وهذا الرأي سمعته أنا للمرة الأولى من أستاذ شيوعي دَرَّسَنَا في المرحلة الإعدادية المتوسطة. أما الصدمة الفعلية لثبات الطبيعة، فجاءت بعد رحلة «البيجل» التي قام بها داروين عام 1831 لمدة ثلاث سنوات ونصف السنة، وجاءه وحي النظرية في أرخبيل «غالاباجوس»، وجمع فيها أدلته على اشتقاق الخلائق من بعض، وأن البقاء للأفضل، فهذا هو قانون الانتخاب الطبيعي، ظهر هذا في كتابه «أصل الأنواع» عام 1859، وكان الزلزال فقام المتكلم من الكنيسة الأنجليكانية «صامويل ويل بيفورس» عام 1860 يناهض النظرية من خـلال نصوص العهد القديم، وتصدى له بحدة «توماس هكسلي» في مناقشة علنية. وكان من أشد أنصار داروين المتحمسين له، وهو يذكر بما حدث لاحقا؛ ففي عام 1925 قامت القيامة على «جون سكوبس»، أستاذ البيولوجيا من مدينة «دايتون» في مقاطعـــة «تينيسي»، في ما عرف بـ«قضية القـرود»، حيث نقلت محاكمته على الهواء مباشرة، وتابعهـا الجمهور بشغف، وانتهت إلى تغريمه بـ100 دولار، بسبب نشره نظرية التطـــور بين الطلبة. في الواقع لقد تعرض «نديم الجسر» في كتابه «قصة الإيمان» لهذه المسألة، ونقل عن «عبد الحميد الجسر» وكذلك عن ابن خلدون، وأنا اطلعت على الرأي نفسه عند «ابن مسكويه» في كتابه «تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق»، من خلق الكائنات أطوارا واشتقاقها من بعضها بعضا، بحيث يلحق كل أفق بالعتبة التي بعده، على حد تعبير ابن خلدون وعلى القارئ الانتباه إلى المقدمة في نسختها الصحيحة، حيث يقول إن نهاية كل أفق ينتهي عند بداية الأفق الذي بعده ويبدأ من الجماد إلى النبات فالحيوان، وحين يصل إلى هذه النقطة تستوقفنا كلمة (قدرة) وهي غير مفهومة والصحيح (القردة)، أي في حركة الانتقال من الحيوان إلى الإنسان. والتفريق مهم بين الكتب المنزلة التي جاءت هداية للعالمين، وبين البحث الأنثروبولوجي الذي يجب ألا تحصر فيه المفاهيم الدينية، فيقود إلى تشدد من طرف وإنكار من طرف آخر .والدين يقين، والعلم بحث، والفلسفة شكوك لا تنتهي؛ فكلها جغرافيات مختلفة، وقضية الخلق قال عنها القرآن : (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق)، وهو ما فعله داروين في سفينة (البيجل) التي بقي على ظهرها ثلاث سنوات ونصف السنة، ووضع كتابا في 700 صفحة، وسجل ملاحظاته في 2000 صفحة، وجمع 1529 كائنا من الكائنات الغريبة من رحلته، ووضع مجموعة مكونة من 3907 بين جلد وعظمة، وبلغت مراسلاته 15000 أودع فيها شكوكه وتساؤلاته ومخاوفه وآماله ولمعاته العقلية، وحبس لسانه عن الانطلاق، فسكت بعد أن اختمرت الفكرة 17 سنة فأنضجها، ودعمها بالأدلة، حتى إذا استوت على سوقها قدمها للعالمين، فكان لها انفجار ودوي عبر العصور.

وهذا يعطينا معنى الحكمة أن العبرة ليست بكثرة ما يكتب الإنسان؛ بل ماذا يكتب؟ و«إسبينوزا»، الفيلسوف الهولندي، لم يترك خلفه سوى أربعة كتب، علق عليها المؤرخ الأمريكي «ديورانت»، أنه كان من الأجدى لنابليون أن يعيش لرسالة مثل هذا، فهي أنفع للجنس البشري من كل الحملات العسكرية المجنونة.

 

نافذة:

احتشد الجو بتظاهرة عالمية مضادة لنظرية التطور تحت اسم علمي جذاب هو «التصميم الذكي» حيث يذهب أهل هذا الفريق إلى تدخل عقل ذكي في توجيه الخليقة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى