في نقد العداء والعدمية
عبد الإله بلقزيز
منذ عقود خلت، يشهد المستوى المعرفي للتمثلات الثقافية العالِمة عند العرب والمسلمين وعند الغربيين على أشكالٍ من الاضطراب والتقاطب، هنا، ومن التراجع والانحطاط هناك.
يحدث هذا على الرغم من أن فرص التفاعل بين الثقافات تأتت، في عالمنا المعاصر، على نحوٍ لا سابق له في التاريخ بما يسمح لها بفهم بعضها البعض فهما أفضل إن كان يتعسر عليها، أحيانا، ولوجَ مساحات أوسع من التثاقُف أو التبادُل الثقافي. لِنَقِف، هنا، عند حالة المعرفة بالغرب في الدائرة الثقافية العربية والإسلامية.
المعرفة بالغرب، عند العرب والمسلمين: باحثين وكتابا وصحافيين، متوزعة بين نظرتين إليه متقابلتين ومتعارضتين: بين الإنكار والعداء؛ إنكار قيمة معارفه وقيمه ومؤسساته والقدح فيها، والعداء له بوصفه عالما يضمر الشر للعرب والمسلمين (لأوطانهم ودينهم وقيمهم)؛ ونظرة التبجيل والتماهي مع الغرب بوصفه معيار الكونية التي لا سبيل إلى التقدم من دون تنزيل مبادئها وقيمها في مجتمعاتنا على منوال ما هي عليه في مجتمعات الغرب وثقافاته.
النظرة الأولى نظرة أصالية، مشدودة إلى نموذج مرجعي مختلف ومغاير (هو المرجع الإسلامي)، وهي لا تعترف بغيره أساسا يُشتق منه نموذج مجتمعي وثقافي للحاضر والمستقبل.
والنظرة الثانية نظرة متغربنة (ولا أقول حداثية) تسلم بمرجعية النموذج الاجتماعي والثقافي الغربي، ولا تحتفل بغيره حتى لا نقول إن المرجع الإسلامي عندها مدعاة إلى العودة إلى الوراء.
أما مَن يبدون الانفتاح الكامل على الثقافة الغربية وينهلون منها، من غير تحفظ، ولكن يقرؤونها بوعي نقدي من دون تقديس أو تبجيل، (مثلما يقرؤون تراثهم من غير تبجيل ومن غير رفض عدمي)، فمساحة تعبيرهم ضيقة مقارنة بالخطابين السائدين المتقاطبين.
توفر النظرة الأصالية إلى الغرب، خاصة في تعبيراتها المغالية، بيئة ثقافية مناسبة لأفكار الرفض لكل ما هو حديث وصادر من الغرب، ولِمَنَازع العداء وقيم الكراهية. إنها نظرة منكفئة إلى الذات، متشرنقة عليها، منظورا إليها بوصفها مثالا للحق كله والخير كله.
وهكذا، التمسك بالمواريث والشد عليها، عند دعاتها، هو السبيل إلى الخلاص. أما ما يأتي من الآخر فلا يمكن إلا أن يكون مجافيا للتعاليم والقيم؛ لأنه مادي وغرائزي وملحد يتربص بنا الشر المستطير.
أما النظرة الثانية فتوفر بيئة ثقافية لقطع الصلات والأواصر بالميراث الحضاري والثقافي والقِيَمي، وبيئة للتقليد الرث والمحاكاة الكاريكاتورية لكل منتجات الغرب الثقافية والمادية، منظورا إليها بما هي التجسيد الأمثل لما هو كوني.
وهكذا بمقدار ما تُجَرم الأولى الغرب، وتُدين جرائمه الاستعمارية بل تُحرِض الجمهور عليه، تبرئ الثانية ساحته من أي مسؤولية في ما جرى (الاحتلال، النهب، الهيمنة…)، بل تشرعِنُها بالقول إن ذلك من الأثمان التي على المجتمعات كافة أن تدفعها من أجل أن تحظى بفرصة التقدم والانتماء إلى الكونية!
والحق أن النظرتين إلى الغرب يعْتورهُما -على تبايُنهما- عوارٌ شنيع؛ فهُما قائمتان على نزعة في التفكير مطلقية (Absolutiste) وقُصْووِية (Maximaliste) لا ترى إلى الموضوع في كُليته، بل تستهويها الانتقائية في رؤيته.
بيان ذلك، في ما نزعم، أن نظرةَ أي منهما إلى الغرب غيرُ مطابقة له كواقع، بل مصممة على النحو الذي يبدو فيه متناسبا وقَبْليات كل منهما. ومعنى ذلك أن النظرتين معا إيديولوجيتان إنْ أخذنا الإيديولوجيا بمعنى محدد من معانيها المتعددة (بمعنى الوعي الزائف).
وعندي أن الغرب ليس كله شرا وليس كله خيرا، بل مزيج من هذا ومن ذاك شأنه شأن أي عالم اجتماعي وثقافي آخر. لذلك هو لا يستحق الإدانة فقط ولا يستحق التبجيل فقط، بل فيه ما يدعو إلى الإفادة والاغتنام، وليس من وجه مشروعية لأي مقايضة بين الأمرين.
بيت القصيد أن ندركَ أن العداء والكراهية (للغرب أو للتراث) عملةٌ فاسدة ينبغي أن نَجْنُبَ أنفسنا منها؛ لعقمها، أولا، ولنتائجها الكارثية، ثانيا، وأن ندرك أن نقد الغرب (كما نقد التراث) أمر واجب؛ فالغرب نفسه يضع نفسه، باستمرار، موضع نقد فيحرر نفسه من مغبة السقوط في التبجيل والمديح الذاتي، اللذين يقودان إلى النرجسية والاغترار والتوقف عن الإبداع؛ كما أن المجتمعات التي تضرب موعدا مع مشاريع النهضة والتقدم لا مهْرب لها من أن تعيد تقويم مواريثها بما لا يجعلها كوابح أو حوائل في وجه مسيرتها.
على أنه في الأحوال كافة، ما من نقد يمكن من غير معرفة المنقود. النقد الذي يجري من غير معرفة بموضوعه عدوان على الموضوع عدمي. وهذا من أسف ديدن النظرتين المومأ إليهما (الأصالية والغربوية)! حين يكون الغرب موضوع نقد أصالي يجهله لن تنتُج منه معرفةٌ يُبْنى عليها، ولن تكون بضاعتُه أكثر من سباب وشتائم وتحريض! والموروث الحضاري الذي يكون موضوع نقد خطاب غربوي يجهله لن يتولد من نقده عِلْمٌ ما بذلك الموروث، ولن يُحْصَد منه سوى الدعوة إلى الهدم؛ والهدم لا يبنى عليه! لا مندوحة، إذن، من الخروج من أنفاق هاتين النظرتين اللتين تتبادلان الهباء.