في مفهوم الحرية
عبد الإله بلقزيز
قد لا نصدق حنة أرندت حين تقول إن بولس الرسول أول مَن تنبه إلى الحرية الباطنية في رسائله، وإن القديس أوغسطين، بعده، أول من كتب في تلك المنطقة الحميمية من الذات مدشنا القول الفلسفي في الحرية؛ فالمسألة هذه – التي حسمت أرندت القول فيها – ما زالت جدالية وإشكالية في الفكر الفلسفي المعاصر.
ولكن علينا، من غير شك، أن نصدقها حين تقول إن الحرية هي آخر موضوع من موضوعات الميتافيزيقا في تاريخ الفلسفة.
هي آخرها لأن الفلسفة بحثت في مسائل الميتافيزيقا كافة، منذ العهد الإغريقي، إلا في مسألة الحرية؛ هذه التي تأخر الانهمام بها إلى العهد الوسيط قبل أن يزدهر، أكثر، بدءا من القرن الثامن عشر، فيصبح مألوفا وتتكون منه فلسفات آخرها الوجودية أما لِمَ تجاهلها فلاسفة كبار ومؤسسون، مثل سقراط وأفلاطون وأرسطو، فجوابه عند أرندت نفسها: لأن الإغريق عاشوا الحرية كواقع سياسي، ولم تكن عندهم مشكلة نظرية.
لا يعنينا – في ما نحن فيه – سؤال الحرية بما هو سؤال ميتافيزيقي كتب فيه الكثيرون، منذ القديس أوغسطين في القرن الثالث للميلاد حتى جان بول سارتر في القرن العشرين – مرورا بكنت وكيركفارد وبرغسون وهايدرغر…-، بمقدار ما يعنيـنا أمرها بما هي سؤال سياسي، أو مسألة تتحقق – أو لا تتحقق – في نطاق الدولة. الحرية، في النطاق الميتافيزيقي، حالة جوانية أو باطنية تتعلق بالذات والشعور، تحصل أو لا تحصل بمقدار ما يرتفع عنها – أو يعترضها – من عوائق كابحة. أما في نطاقها السياسي فهي علاقة؛ وهذه العلاقة سياسية (بين الدولة والفرد، المجتمع والفرد، الدولة والمواطنين)، ناهيك بأنها تتعلق بالجماعة (= السياسية) لا بالذات المفردة المستقلة عن محيطها الخارجي.
السؤال عن الحرية سؤال عن المكانة التي تشغلها في منظومة الدولة وفي العلاقات داخل الجماعة السياسية، والحكم عليها يكون تبعا لتلك المكانة، وعليه – هو نفسه – مبنى الحكم على الدولة. ولكنه، في الوقت عينه، سؤال عن الفرد – وهو المبدأ في المنظومة السياسية الليبرالية – وعن الجماعة واتصال الحرية بكل منهما. هكذا سنلحظ أن سؤال الحرية سؤال مركب وليس بسيطا، ولا يقبل النظر إليه من وجه واحد من وجوهه المتداخلة.
فأما عن مكانة الحرية في الدولة فمسألة حاسمة في النظر إلى الحرية وإلى الدولة، معا، كما في الحكم عليهما. الحرية واحدة من أظهر المعايير التي تقاس بها حداثة الدولة: قياما وغيابا. الدولة الحديثة دولة حريات، في المقام الأول، على مثال ما هي دولة قانون، لأنها – بكل بساطة – لم تنشأ، في صيغتها الحديثة، إلا لإحاطة الحقوق المدنية (والسياسية) للمواطنين، وفي جملتها الحرية بأبعادها كافة. وتمتع الناس بحرياتهم في الدولة شرط لازب للمواطنة؛ إذ المواطنون أحرار بالضرورة، وتقييد حرياتهم – بهذه الدعوى أو تلك – مفض، في المطاف الأخير، إلى مواطنة منقوصة. أما تغييبها جملة فمعادل لإسقاط المواطنة. وعليه، لا تكون الحرية حقيقة سياسية معيشة إلا متى أقرتها قوانين الدولة وكفلتها وصانتها من الانتهاك. وحين تحمي الدولة الحريةَ تقيم بذلك الدليل المادي على أنها، فعلا، دولة حديثة.
وأما عن علاقة الفرد، من جهة، والجماعة، من جهة ثانية، بالحرية فعلاقة اقتران ماهوي. الدولة وقوانينها لا تعترف إلا بأفراد مستقلين عن روابطهم الأهلية التقليدية (= قبائل، عشائر، عائلات، أقوام…)، والحقوق التي تكفلها لهم إنما هي تكفلها لمواطنين مسؤولين، أفراديا، أمام القانون. وحين يعاقَب من يعاقب منهم، بمقتضى أحكام القانون، يعاقب بوصفه فردا ولا يلحق العقاب غيره من ذويه وقرابته. وعلى ذلك تتمتع فردية الفرد بحقوق منها الحرية. وهي حق غير مشروط إلا بأحكام القانون الذي كفلها؛ أي بما لا ينتهك حقوق غيره من أفراد المجتمع؛ الذين يتمتعون بالحقوق عينها المحكومة بالقانون.
لكن الدولة، في الوقت عينه الذي تعترف فيه بمواطنيها بوصفهم أفرادا تخاطبهم أحكام القانون، تعترف بالجماعات التي تتكون فيها؛ ولكن لا بما هي جماعات أهلية، بل من حيث هي جماعات وظيفية مؤسسية يفرضها العمل والإنتاج والمصالح والعلاقات العامة. ومن ذلك أنها تعترف بالنقابات، والأحزاب السياسية، والمنظمات المهنية، والشركات، والجمعيات المدنية، والروابط الثقافية، والتعاونيات، والأندية وسواها مما يقيمه الناس من مؤسسات مدنية تفرضها الحاجات. وهي إذ تعترف بمشروعيتها تضع لها القوانين والأحكام الخاصة بها، وتسلم لها بحرية العمل داخل نطاق تلك القوانين. وكما تقاس حداثة الدولة بمقدار ما تقره قوانينها من حريات لأفرادها، وما تقدمه من ضمانات قانونية لتلك الحريات، كذلك تقاس بمقدار ما تسلم به بجماعاتها من حريات، وما تضمنه قوانينها لتلك الحريات.
هذا معنى الحرية في أصوله النظرية الفلسفية، ولكنه المعنى عينه الذي يتجسد في الدساتير والمنظومات القانونية في دول الغرب الحديث منذ الدستور الأمريكي. قد لا تكون السياسات المطبقة وفية، دائما، لهذا المعنى. ومع ذلك، لا يمكن أحدا أن يجحد حقيقةَ قوة رسوخ تقاليد الحرية في تراث الغرب السياسي.
السؤال عن الحرية سؤال عن المكانة التي تشغلها في منظومة الدولة وفي العلاقات داخل الجماعة السياسية، والحكم عليها يكون تبعا لتلك المكانة، وعليه – هو نفسه – مبنى الحكم على الدولة