في مديح «الدّرّاجة»..
«نقشة» واحدة فقط، هي كل ما يفصل بين الجنون وخرجات بعض المحسوبين على الوزراء والسياسيين في هذا البلد. إذا أردت معرفة حال السياسة، عليك فقط تأمل سحنات بعض الذين يقدمون أنفسهم مسؤولين ومدبرين للميزانيات، في السياسة والرياضة أيضا، لترى كيف أن «الحاجة» التي لا تشبه صاحبها «حرام» بإجماع المذاهب.
وبما أننا نتحدث عن «النقشة» فإن رياضة عريقة تعتمد على «النقشة» وحدها لكي تستمر، تسير إلى الأمام في صمت، مقابل التهريج والبهرجة التي تحظى بها كرة القدم الوطنية رغم أنها لا تقدم للمغاربة إلا النكبات والمآسي.
في الزمن الذهبي، على الأقل، كان هناك اهتمام واضح بطواف المغرب لرياضة الدراجات الهوائية، واليوم يتعامل معه الإعلام الوطني وحتى الرأي العام الذي يشرب قهوته في مقاهي المملكة كل مساء، بكثير من الجفاء، وكأن الأمر يتعلق بهواية نادرة، والحال أن شعبية الرياضة في المغرب مرتفعة جدا.
إذا تجاوزنا مدن الإسمنت الخالية من الروح، نجد أن «الدّرّاجة» هي وسيلة النقل الأكثر شعبية في المدن الصغيرة وبعض المدن التي لاتزال تحيط بها الأسوار والجدران الطينية. موظفون وإداريون وطلبة وتلاميذ وحتى النساء الحوامل.. الكل يعتمد على الدراجة الهوائية في التنقلات اليومية، إلى درجة أنها أصبحت فردا من أفراد العائلة.
الحكومة لا تدعم رياضة الدراجات لسبب واحد وهو أن الدراجة لا تعود بأي نفع على خزينة الدولة.. لهذا السبب يحتفظ المسؤولون وناهبو المال العام بذكرى سيئة مع هذه «الدّابة» المسكينة التي لا تستهلك البنزين ولا الشمس، ولا يُجبَر صاحبها على تسجيل نفسه في لوائح التأمين ولا حتى دار الضريبة. لهذا السبب همشوا الدّراجة، واعتبروها وسيلة نقل الفقراء، والحال أنها لوحدها ثقافة.
عندما ظهرت الدراجة لأول مرة في المغرب، كانت وسيلة نقل أوربية باذخة، لا يتوفر عليها إلا الأجانب، وسرعان ما قام هؤلاء بتعليم المغاربة الذين يعملون لديهم، حتى يستعملوها في قضاء الأغراض اليومية ونقل السخرة إلى المنزل.. وهكذا كان المغاربة المساكين مجبرين على تعلم قيادة الدراجة في سن الستين والخمسين، ليشاهدهم أبناءهم يسقطون أرضا ثم ينهضون لمعانقة العجلات من جديد.
نفس الأمر يتعلق بطواف المغرب للدراجات، فأول من بدأه هم الأوروبيون، وكانت الفكرة وقتها حماقة كبيرة. إذ أن بعض الفرنسيين المهووسين بركوب الدراجات، قرروا نسخ فكرة طواف فرنسا للدراجات، والقيام بطواف حول المغرب. لا شك أن الأمر كان مثيرا للضحك، لأن المغاربة وقتها كانوا يتنقلون بين المدن المغربية مشيا على الأقدام ودون انتعال الأحذية حتى.. وهكذا اعتبروا أن القيام بطواف حول المغرب بدراجة هوائية، ترفا حقيقيا.
اليوم، يحتل المنتخب المغربي للدراجات الهوائية صدارة المنتخبات العربية والإفريقية أيضا، ويشارك سنويا في عدد من البطولات العالمية وهو ما جعل الدراجين المغاربة يصنفون من بين الفرق العشرين الأولى حول العالم..
وبالمقابل، لا أحد يكترث لأمر الدراجة المغربية ولا المنتخب الوطني، الذي فر أحد أعضائه المساكين، مستغلا مسابقة للدراجات في إيطاليا، ليختفي تماما عن الأنظار بعد قطع خط الوصول، ويبدأ حياة جديدة في أوربا بعد أن لفحته شمس المغرب، وأدرك يقينا أن الطرقات هنا لا تعود بأي نفع على صاحبها، إلا حفرا في الركبتين.
النجاري، الكرش الذي ودّع الدراجة والعالم أيضا قبل سنتين تقريبا، وآخرين لا يتسع المجال لذكرهم، كانوا أساطير في ركوب العجلات، ونسجت عنهم قصص حول قدراتهم الخارقة في الوصول إلى سرعات قياسية وقطع مسافات طويلة، لكنهم اليوم لا يحظون بأي اهتمام في رموز الرياضة الوطنية، رغم أن بعضهم أوصل المغرب إلى العالمية في هذا المجال.
عندما ترى المغاربة يتذابحون في مدرجات كرة القدم فقط لأن أحدهم أشعل «الفلام» دون أن يشاركه الآخرون ذلك، وترى أيضا كيف أن الحافلات تنسف عن آخرها سواء ربح الفريق أو خسر، وعندما ترى أيضا كيف أن مسؤولي الكرة يتبادلون الاتهامات باختلاس الملايير واستغلال المناصب، ستفهم كيف أن الدّراجة اختارت أن تسير في صمت كالعادة، وتصدر تلك الرائحة التي تنبعث من العجلات كلما عانقت الطريق..