في مدح النسيان
صفية العلوي المحمدي
لقد أفلح من جعل من النسيان سلاحه للتحرر من زنزانة الذكريات، هذا ما علمتنا إياه الحياة بعد عشرات من التجارب المؤلمة والأزمات العصيبة، فالذكي فينا هو من استطاع التخلص من أصفاد الماضي بانكساراته وخيباته، وتمكن من مواصلة المسير رافضا ترك حاضره يقتات على فتات الماضي السامة.
لكن ماذا لو لم نكن نستطيع دفن ذكريات الماضي هناك بعيدا في مقبرة النسيان؟ ماذا لو كانت مشاهده تنبعث أمامنا دون استئذان فتعيد فتح جروح ظنناها يوما قد اندملت؟ إنني أقرأ علامات الاستهجان البادية على محياكم وأنتم تطالعون أسئلتي التي قد تبدو لكم عبثية أو مستحيلة، فأنا مثلكم ما كنت لأطرحها قط لولا مقال قرأته حديثا عن مرض يدعى «متلازمة فرط التذكر»، مرض يستطيع دماغ المصاب به استحضار ذكريات عشرين سنة خلت بنفس قدرتنا نحن على استرجاع ذكريات يومين. نعم عشرون سنة من الذكريات بأدق تفاصيلها، بكل أفراحها ومآسيها، تنبعث من رماد الذاكرة، وكلما زادت قوة المشاعر المتصلة بالحدث إلا وكان رسوخه في الذاكرة أكثر عمقا.
بل والأمرُّ من ذلك أن عملية استرجاع الذكريات تكون تلقائية، لا دخل لإرادة المريض فيها، فالمحفز الذي قد يكون مكانا معينا أو شخصا أو رائحة أو حتى منظرا مميزا يتكفل لوحده بإعادة إحيائها.
تروي إحدى المصابات بمتلازمة فرط التذكر أن صوت مقدم الأخبار المنبعث من مذياع السيارة يعيدها قهرا إلى عهد صباها أيام كانت تقلها أمها بالسيارة إلى المدرسة، ثم يعصف بذاكرتها بغتة تيار التفاصيل اللانهائي بما فيه لون الجوارب التي كانت ترتديها حينها.
تضيف أن مجرد مصادفتها لأي خبر أو معلومة حول أي حدث تاريخي عايشته في الماضي، ولو لم يكن حدثا مميزا بالنسبة لها، إلا وتسحبها ذاكرتها بلا وعي منها إلى يوم وقوعه، فتتذكر أين قضت اليوم وفي ما أمضته وتسترجع تفاصيل عديدة تجر إحداها الأخرى وتقفز أمامها كومضات تغزو تفكيرها بغتة دون أن تملك شيئا لمواجهتها سوى تقبلها والتكيف معها أما محاولة التحكم فيه فتكون شبه مستحيلة، إنه بحسب تعبيرها الجنون عينه!
أن تتذكر كل شيء، تنهي بأسى، يكون مؤلما تماما كما لو لم تكن تستطيع تذكر أي شيء. أكملت قراءة المقال وأنا أتصور كيف كانت ستكون عليه حياتنا دون نسيان، الجحيم الأبدي الذي كنا سنعيشه بحاضر مشدود إلى ماضيه، منفصل عن مستقبله، إن النسيان هو ما يجعل حياتنا ممكنة على هذه البسيطة، فهو ليس دائما صنيعة من صنائع الشيطان!