في قلب دار العالِم عبد الحي الكتاني وهكذا استقبلني بحفاوة بالغة
يونس جنوحي
مدة طويلة قبل مغادرتي بريطانيا، كنت قد اتخذتُ قرارا مفاده أن هناك مغربا لا بد لي أن أتعرف عليه.
قال لي صديق في فاس:
- «إنه يدعوك إلى العشاء هذا المساء. ربما يجدر بي المجيء معك. إنه لا يتحدث الفرنسية».
توقفنا عند باب في جدار بشارع متوسط. وفي الجانب المقابل، كان رجل يجرّ امرأة بعيدا عن المنزل. في حين أن صياحها وهي ترفض الانصياع له، أثار انتباه الجيران.
ليس من حق الأوروبي أن يتدخل بين الرجل وزوجته، لذلك اكتفيتُ بأن أتبع صديقي، بخنوع، لنعبر ساحة واسعة، ومنها إلى باب داخلية.
قال لي صديقي:
- «إن هذه الساحة تغص بالزوار الذين يحجون إلى هنا، طوال اليوم».
وجدتُ رجلا في منتصف العمر، ينتظرني. كان ذا مظهر يعكس الوسامة والذكاء. كان يتحدث الفرنسية جيدا وبطلاقة، وأخبرني أن والده في انتظاري. ولكي أكون دقيقا تماما، فإنه لم يستعمل عبارة «والدي» للحديث عن أبيه. بل قال: «الشريف».
الشريف الحاج عبد الحي الكتاني أكبر علماء المغرب. وفعلا، فقد كان يحتل مرتبة عالية بين علماء المشرق. وقد سبق له أن ألقى الخطبة الكبرى في مكة، واستقبله البابا بتشريف كبير. وهو على رأس «الطريقة» الكتانية، وهي تعادل تقريبا رتبة دينية مثل اليسوعيين أو الفرنسيسكان، إلا أنها ليست بنفس الحجم والقوة.
عادة ما يؤسس الطريقة، رجل مقدس يُبشر بها مجموعة من الأتباع. وعند موته يصبح قبره مقدسا، وسيأمر أتباعه باتباعه والالتزام بالطاعة الروحية.
الشريف رئيس إحدى أهم التجمعات «الأخوية» الدينية في المغرب، التي أسسها جده. مكتبته تحظى بشهرة كبيرة، وهو نفسه قد كتب أزيد من 200 كتاب. ورغم سنه المتقدم، فإن هذا القدر من الكتب والحكمة التي أحرزها، قد جعلت سنواتي الخمسة والسبعين تبدو وكأنها مجرد خربشات مُبتدئ.
يأتي إليه الحجيج من مناطق بعيدة من حدود المغرب طلبا لبركته. عندما يُسافر، فإنه يُستقبل باحتفاء وتشريف كبير في عشرات البُلدان. وعلى الرغم من أنه لم يظهر غضبه أبدا، كما هو معروف، إلا أن أعداءه كانوا يخشون هيبته وفكره.
كان يجلس في مكتب جميل مزين ومرصع على الطريقة الدمشقية. كان رجلا ضخما، إلى درجة ان جلبابه الفضفاض الرمادي والمخطط، لم يستطع إخفاء معالم البدانة.
كانت بشرته أفتح من بشرتي، ويطغى عليها لون وردي باهت، يناقض سنوات عمره الثمانين. وعيناه اللامعتان تحت حاجبين كثيفان، يتقاطع شكلهما مع لحية رمادية صغيرة على ذقنه. كان يضع عمامة خضراء، بدت كتاج غير متناسق، مثبتة مكانها بقطعة من المطاط.
تساءلت بيني وبين نفسي:
- «أين رأيتُ هذا الرجل من قبل؟».
يستطيع أن يلعب دور «فالستاف» تقريبا بدون ماكياج. (فالستاف من شخصيات إحدى أشهر مسرحيات شكسبير، وحاول رسامون أوروبيون كثر رسم بورتريه لهذه الشخصية وقد شبهه بها الكاتب).
بعد التحية الودية وترحيب لا يوجد أحرّ منه، على الطريقة المغربية التقليدية، انتقلنا إلى مكتبته. وهي صالة طويلة، ورفوفها مرتبة، تماما مثل مكتبتي.
بعض المخطوطات القديمة التي يتوفر عليها، لا تقدر بثمن. ومع ذلك، باستثناء بعض المخطوطات التي تتضمن حِكما من العصور القديمة، فقد لاحظتُ وجود بقايا أواني فخارية وبعض الحلي، أغلبها متوسط القيمة. جيء بها كهدايا من طرف أعضاء الطريقة، وتوجب الاحتفاظ بها.
بدأنا الحديث بقوله:
- «لقد تم تقديمها من القلب، وهذا ما يجعلها بدون ثمن».
لعب ابنه وصديقي دور المترجمَين بالتناوب. وأبقيناهما معا مشغولين لساعتين. سُررت بالحديث معه. ليس دائما ما يحس الإنسان، خلال الحديث، أنه أمام حكمة تعود إلى عصور خلت. في بعض لحظات الحديث، كنت أحس وكأنني أصغي إلى النبي موسى.