في فلسفة الموت !
حين رجعت إلى منزلي في مدينة الجديدة كانت كمية السيارات المحتشدة غير عادية. سألت ما الخبر فقال لي عبد الرحيم جاري الذي أسميه أنا رجل الحضارة لفرط نشاطه وخدمته للجميع وحرصه على نظافة المجمع: قال لقد مات جارنا. تذكرته، إنه شخصية مهمة ومركز اجتماعي مرموق، ولكن الموت لا يعرف صديقا فهو هازم اللذات ومفرق الجماعات.
موت هذا الرجل الفاضل ذكرني بصديقي الوفي (أبو طه) كان يمشي بعزم، ويتكلم بقوة، يشع بالحيوية، ويفيض بالكلمة والنكتة والتعليق والنقاش، كان عالماً كاملاً قائماً بذاته، ولم يخطر في بالي أنه خلال ساعات سينهار بشكل كامل، فيستسلم إلى الأرض، وينطفيء حديثه العذب وتتوقف إشاراته المفعمة بالقوة، ويغيب عالمه بالكامل، فيتحول إلى قميص تتلقفه يد الثرى. وتذكرت شعر أبي العتاهية:
دب السقام في سفلا وعلوا
وأراني أموت عضوا فعضــــوا
ليس تمضي من لحظة بي
إلا نقصَّتني بمرِّها فيَّ جزوا.
كان أشد ما أحزنني أنه جاء إلي بقدميه وقلبه يخفق، وحملته جثة إلى أهله في صندوق، يشيعه قلبي المحطم وعقلي المذهول ودموعي.
أين ذهب؟ أين هو الآن؟ أين اختفى عالمه بالكامل؟ كنت خلال الطريق أرقب صندوقه الذي يحمل جثمانه الغالي وأنا بين الحلم والحقيقة؛ فالموت هي تلك الظاهرة التي تسبح بين اليقين واللايقين، ففيها اليقين من النهاية الحدية، التي تسلم الإنسان إلى عالم اللانهاية والأبدية واللاعودة، وفيها اللايقين من عدم إمكانية تصديق انهيار عالم بالكامل، بشكل مطلق ونهائي وفجائي إلى الصفر، إلى العدم!
كان يخيل إلي أحياناً أنه سيقوم من الصندوق الخشبي، ويرفع عنه الأغطية المغلفة لبدنه، ويجلس، ثم ينظر إلينا مرتاعاً مستغرباً كيف حصل أن وضع هذه الوضعة غير اللائقة؛ فمكانه كرسي داخل السيارة، ومنامه فراش وثير وليس كفنا وترابا، وطعامه هنيء، وحياته حافلة باللذات والراحة، وفجأة انحدر إلى الوحدة والوحشة والغربة والبعد السحيق.
لن ينام بعد هذه الليلة في فراشه، لن يرى عائلته قط، لن يرجع إلى روتين حياته السابق، انطفأ الشعور وغاب الإحساس وودع كل شيء على الإطلاق في رحلة لا رجعة منها.
ألا رب وجهٍ في الترابِ عتيقِ
ويارب حسنٍ في الترابِ رقيق
ويارب رأي في التراب ونجدة
ويارب رأي في التراب وثيق
فقل لقريب الدار إنك راحلٌ
إلى منزلٍ ناء المحل سحيق
وما الناس إلا هالك وابن هالك
وذو نسب في الهالكين عريق
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت
له عن عدو في ثياب صديق.
يا إلهي ما هذا الموت الذي كتبته علينا، أي جبروت فيه وقهر (وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون) .
عندما انتابني هذا الشعور لا أدري ما الذي حرك في ذهني فكرة بعث الموتى على يد المسيح عليه السلام، وعندها بكيت وأدركت أن صاحبي قد شبع موتاً، وجثته تمشي في طريق التعفن والتحلل والتفسخ، وسوف يهرب منه أقرب الناس إليه، ويبقى التراب أفضل ستر، وسالت دموعي مجدداً، فموعدي معه هو في الآخرة فقط.
بكيت في الواقع على نفسي؛ فعمره من عمري وهو من جيلي وعاصر نفس الأحداث التي عشتها، أما هو فقد انتهى حظه منها، وطُوي ملفه من سجل الأحياء، وأما أنا فسألحقه ولو بعد حين.
إن فلسفة إدراك الموت ووعيه الحاد تولدت في الشعور الإنساني من معاصرة ومعاينة فقد الصديق والحبيب. عندما دخلنا مدينته تعجبت من سهر قوم حتى الصباح الباكر في غاية السرور والفرح، كان عرساً حافلاً. قلت في نفسي عجباً لهذه الأضداد، وتذكرت الآية (وأنه أضحك وأبكى) من سورة النجم. ثم تداركت: كل من في هذا الاحتفال لهم موعد مثل موعد (أبو طه) صديقي الوفي؛ فكما تمتع وتزوج وعاش وكان على موعد مع الموت، كذلك كل من يدب على ظهر هذه البسيطة من الأحياء هم في حكم الزوال والوجود المؤقت والمعار.
بدأت أنظر إلى المارة والناس بغير العين السابقة وأخاطب نفسي: كلكم أشباح تنتظرون الموت. اسعوا ما تسعون وافرحوا ما شئتم ففي النهاية سيكون ظل الموت الباكي هو الذي سيغلفكم ولو بعد حين. إن كل لحظة لنا هي توديع للحياة باتجاه نقطة الموت التي نقترب منها. إننا نكبر مع كل لحظة ونقترب من الموت لحظة مقابلة فنصغر بنسبتها.
إن الحقيقة الأولى في الوجود كما قال حكيم من الشرق، هي قانون التغير وعدم الدوام والزوال. إن كل شيء في الوجود من حيوان الخلد إلى الجبل، ومن الفكرة إلى الإمبراطورية، يمر خلال دورة الوجود ذاتها، أعني النمو والانحلال ثم الموت، والحياة وحدها هي الشيء المستمر، وهي دائماً تسعى إلى الإفصاح عن نفسها في صور جديدة، والحياة جسر. ومن ثم فلا تبنى البيوت فوق الجسور، والحياة عملية من عمليات التدفق والجريان، فمن يتعلق بأية صورة من الصور مهما يكن جمال هذه الصورة فسوف يقاسي، نتيجةً لمقاومته لهذا التدفق والجريان، والحياة واحدة غير منقسمة وإن كانت أشكالها المتغيرة على الدوام لا حصر لها وهي قابلة للفناء. وليس هناك في الحقيقة موت وإن كان الموت مصير كل صورة من صور الحياة. إن الرحمة وليدة إدراك وحدة الحياة وفهمها. وقد وصفت الرحمة بأنها قانون القوانين، وأنها التناسق الأبدي، وأن الذي يشذ عن هذا التناسق سوف يصيبه الألم والمكابدة، كما أنه يؤخر من تنويره وتثقيفه. (الحكماء الثلاثة ـ أحمد الشنتناوي ـ دار النشر أقرأ دار المعارف بمصر رقم 123 ص 105) .
وخلال ساعات كان صديقي وأخي يُصلى عليه ثم نودعه إلى التراب!! لم يكن ما بين حديثه العذب واستسلامه الكامل للحفرة وحيداً فريداً يذوب عضواً فعضوا، صديقه التراب والدود والتفسخ الكامل أكثر من ساعات قليلة.
وقفت مذهولاً أمام جبروت الموت وضغطه الساحق. وعندما دخلنا المقبرة كان السكون والسلام يطوق عالماً جديداً، قلما ننتبه إليه، حيث تناثرت القبور، وبرزت بعض الحجارة تحمل رموز أصحابها، كانوا مثلنا تماما وعاشوا بكل زخم الحياة.
نحن الآن إذاً في عالم الأموات ودنيا المغيبين. كانت فوهات قبور جديدة جائعة تطل من بطن الأرض؛ فاغرة فاهها إلى مجهول قادم تستعد لالتهامه. تعجبت وسألت لماذا؟ أجاب حفاَّر القبور: السيل قادم من طوابير الموتى ويجب أن نستعد لاستقبال زبائن العالم الآخر!!
تذكرت سنوات مضت حينما مات صديقي الشاب في الدمام بعاصفة مروعة من مرض عضال افترسه في أقل من شهر، عندما زرت قبره بعد حين كانت الساحة مفروشة بأعداد جديدة لا تحصى من زوار العالم الآخر.
مشينا مسافة طويلة وبصعوبة اهتدينا إلى مكانه. كان قد دخل في عالم النسيان والإهمال. ولا شيء أدعى إلى الحزن من النسيان. حتى الأبناء لا يزورون قبور آبائهم إلا في المناسبات، وبقيت أماكنهم فقط في الذاكرة فقط.
في بلدتي التي نشأت فيها (القامشلي) تناثرت دموعي في المقبرة وأنا أقرأ جملة لإحدى قريباتي (صديقة والدتي حليمة الشقراء الجميلة). كانت في غاية الحيوية والجمال والنشاط ففارقت الحياة على موعد مبكر (سمعت بلوكيميا سرطان الدم). كانت الفقرة تقول أعرف أن المكان لا يدعوك ولا يشجعك للوقوف الطويل، كل ما أرجوه منك أن تقف لحظات وتتذكرني أنني كنت من عالم الأحياء مثلك، كتب بلغة محلية ولكنه يحمل الأفكار جيدا.
أيها الزائر إليَّ قف عند قبري شويَّ
واقرأ السبع المثاني رحمة منك إليَّ
في زمان كنت مثلك أقرأ القرآن حيَّ
عن قريب تبقى مثلي ليس بعد الله حي.
أتذكر قبرها جيدا رحمها الله حيث دفت والدي أيضا هناك، ولعله أن يكون لي نصيب بعد تحرير سوريا أن أمر فأسلم على الاثنين؟ لا أدري؟؟
نحن نُودِع الجثثَ الترابَ ثم ننصرف، وعندما تحركت في المكان كانت قدمي تطأ بقايا البشر من أمثالنا في أعداد لا تحصى. تذكرت رثاء أبي العلاء المعري لصاحبه أبي حمزة:
غير مجد في ملتي واعتقادي
نوح باك ولا ترنم شــــــــــــادي
وشبيه صوت النعي إذا قيس
بصوت البشير في كل نـادي
أبكت تلكم الحمامة أم غنـــت
على فرع غصنها الميــــــــــاد
صاح هذي قبورنا تملأ الرحب
فأين القبور من عهد عـاد
خفف الوطء ما أظن أديم الأ
رض إلا من هذه الأجـــساد
وقبيح بنا وإن قدم العــــهد
هوان الآباء والأجـــــــــــــــداد
سر إن استطعت في الهواء رويدا
لا اختيالا على رفات العبــاد
ربَّ لحدٍ قد صار لحدا مرارا
ضاحكٌ من تزاحم الأضــــداد
ودفين على بقايا دفيــــــــــن
في طويل الأزمان والآبــــــــاد
إن حزناً في ساعة المــــــــوت
أضعاف سرور في ساعة الميلاد.
ولكن دموع الدنيا كلها لو تدفقت فتحولت إلى أنهار؛ لن تعيد الحياة لميت واحد (أمواتٌ غيرُ أحياء وما يشعرون أيان يبعثون – سورة النحل).