في فلسفة الموت
خالص جلبي
في 7 شتنبر يوم الأربعاء صباحاً كانت زوجتي ليلى سعيد على موعد مع ملك الموت بدون إذن وزيارة وتخطيط وإعلام. لم تكن تشكو من شيء. كانت تمشي يوميا أكثر من ساعة مثل الغزال الرشيق. في قمة اللياقة البدنية والعقلية واستيعاب الفكر العالمي والعطاء الأخلاقي والفكري. جسمها بديع. وجمالها قوقازي باهر، وخلقها رفيع، وعطاؤها بغير حساب، تخدم كل من حولها، ولا تطلب من أحد خدمة. شخصيتها طاغية، تذكرني بقصة (قرة عين) التي وصفها علي الوردي أنها كانت تجمع أربع خصال لو كانت واحدة في بنات جنسها لكفت: الفصاحة والخطابة، والجمال الباهر، والشخصية الكارزيمائية، والذكاء اللامع والثقافة العالمية. كل هذا كان في ليلى سعيد وأكثر. كانت نسخة أنثوية عن داعية السلام جودت سعيد وأكثر. سقطت إلى الأرض فجأة فلم تنهض إلا إلى فراش الموت، ومضت خفيفة كما كانت خفيفة في كل حياتها، ولكن الفراغ الساحق الذي تركته خلفها كان لنا ثقباً أسود يشفطنا إلى وادي الدموع والأحزان. كانت صدمة الموت مروعة، وفجأة اكتشفنا هوة غير متوقعة بين أقدامنا تهددنا كل حين، واكتشفنا كم الحياة هشة ضعيفة وقصيرة.. لأول مرة أحسسنا على نحو جدي بانعدام الأمن على الأرض وأن الآخرة خير وأبقى يدخلها المؤمنون بسلام…. فلا سلام ولا خلود ولا راحة إلا هناك..
اكتشاف القرآن من جديد
هنا اكتشفنا القرآن من جديد فكل مظاهر الطبيعة وكل قصص الأنبياء وأقوامهم والصراعات التاريخية كلها كانت تحوم وتخلص وتنتهي بفكرة العودة والخلود لا ريب فيها .. كذلك النشور .. كذلك تخرجون.. كذلك تبعثون.. في الواقع لم يبدأ القرآن في بث أفكاره إلا بعد تخليص الضمير وتصفيته من قضية الموت قبل أن يبدأ رحلة الحياة.. والحزن يأتي من المساحة التي يحتلها العزيز، فقد لا يحزن الإنسان على أمه التي ولدته، كما يحصل في موت صديق عزيز غالي على النفس.. فالعلاقة الثقافية هي التي تحدد كثافة الحزن وعمقه وحدته.. ويبقى الموت مسألة ثقافية عاطفية، ويبرز الموت كجدار غير قابل للخرق .. غير قابل للتفسير… ويأتي الدين فيعطي العزاء والجواب النهائي المحدد، أما الفلسفة فتسبح في الشكوك، أما العلم فلا يملك الجواب أصلا عن هذه الظاهرة المدمرة والنكبة الماحقة.. هنا فهمنا لماذا حافظ الصحابة على جثة النبي ثلاثة أيام بدون دفن، مع أن مسألة الخلافة السياسية كانت قد حسمت؛ فلم يستوعب أصحابه أن هذا الرجل النبيل العظيم الذي عاش للفكر، وأشاع السلام، وعمم وربى على الخلق العالي، والفضيلة بدون حدود، وأعطى معنى للحياة لمن حوله، كيف ينتهي هكذا في قمة اللياقة البدينة والعطاء في عمر 63 سنة، وهي نفس السن الذي ماتت فيه ليلى سعيد في نفس يوم ميلادها. ونفس الشيء حصل لمدام كوري حين دهست عربة طائشة زوجها بيير فوضعته لثلاثة أيام تنظر إليه وهي لا تكاد تصدق حتى دفنته في التراب وغرقت هي في بحر من الدموع.. وأردت أن أفعل نفس الشيء مع ليلى فأضعها أمامي الأيام ذوات العدد حتى أستوعب .. حتى أصدق… ولكن حيل بيننا وبين ما أردنا؛ فالموت في كندا تتلقفه أيادي المؤسسات، ثم تغسل الجثة بأيدي الجاهلات، ثم تدفن في حراسة متشددين غلاظ ربما لم يكتشفوا كوكب الحب بعد، ولم يمارسوه، ولم يطؤوا عتبة معبد الحب بعد ولم يصلوا فيه ويخشعوا، وقد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون، ربما لم يذوقوا معنى الرحمة التي بشر بها رسول الرحمة. وأنا أعذرهم كما جاء في قصة رسل أثينا إلى ملك الفرس حين طلبوا منهما أن يكونا عبيدا للمولى الفارسي فقالوا لهم مشكلتكم أنكم لم تذوقوا الحرية بعد ولو ذقتموها لعرفتموها وقاتلتم عنها بأظافركم وأسنانكم. إن هذا المعنى الذي تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم لذكر الله هو الذي كان الصوفيون يقولون عنه من لم يذق لم يعرف. فالحب والحرية وفيض السعادة معاني تتدفق لأناس جاهدوا في الله حق جهاده.
موجة الأصولية
موجة الأصولية التي زحفت إلى أرض الحريات والضمانات في كندا شوهت معاني الإنسانية ومنها عبادة الطقوس حين منعت بناتها من المشاركة في دفنها، بدعوى من أحاديث ما نزل الله بها من سلطان، من ثقافة مشبوهة كتبت في ظروف مشبوهة.. وعندها استوعبت لماذا لقن الأمام ابن حنبل ابنه خمسة آلاف حديث ليقول في النهاية إنها كلها كذب في كذب من صندوق باندورا للشرور.. لماذا يا أبت؟ لماذا كل هذا التعب في الحفظ؟ فيجيب الأمام حتى تعرف فور مطالعة الحديث أنه من مستودع الشيطان.. إنها محنة ثقافة مزورة كما يقول النيهوم.. في صلوات جمعة مصادرة بيدي وعاظ السلاطين والمتشديين الذين يدعون بالهلاك والثبور على تسعة أعشار الجنس البشري أو جماعة النائمين في استراحة فقهاء المماليك أيام سعيد جقمق من المماليك البرجية…
لقد سحقت قلوبنا سحقا، واعتصرت في صدورنا عصرا، واكتوت كيا بنار الحب والفقدان.. وهذا ما ذكرني بصدمة سابقة ليست في شدة الحالية، حينما مات صديقي أبو طه الذي مات أمام عيني قرب فيلا الجولان التي بنيتها وطلبت استشارته مع قوم متخلفين في البناء والأداء وكثرة الطلب، مما حرك عندي القلم فكانت دموعي مدادا أسود، وأفكارها ممزوجة بزفرات الحزن وآهات التوجع، وأقلامها شظايا من الذكريات ..
عندما زارني صديقي الوفي (أبو طه) كان يمشي بعزم، ويتكلم بقوة، يشع بالحيوية، ويفيض بالكلمة والنكتة والتعليق والنقاش، كان عالَماً كاملاً قائماً بذاته، ولم يخطر في بالي أنه خلال ساعات سينهار بشكل كامل، فيستسلم الى الأرض، وينطفئ حديثه العذب وتتوقف إشاراته المفعمة بالقوة، ويغيب عالمه بالكامل، فيتحول الى قميص تتلقفه يد الثرى.
وتذكرت شعر أبي العتاهية :
دب السقام في سفلا وعلوا وأراني أموت عضوا فعضــــوا
ليس تمضي من لحظة بي إلا نقصَّتني بمــــــرِّها فيَّ جزوا
كان أشد ما أحزنني أنه جاء إلي بقدميه وقلبه يخفق، وحملته جثة إلى أهله في صندوق، يشيعه قلبي المحطم وعقلي المذهول ودموعي.
أين ذهب؟ أين هو الآن؟ أين اختفى عالمه بالكامل؟ كنت خلال الطريق أرقب صندوقه الذي يحمل جثمانه الغالي وأنا بين الحلم والحقيقة، فالموت هي تلك الظاهرة التي تسبح بين اليقين واللايقين، ففيها اليقين من النهاية الحدية، التي تسلم الإنسان إلى عالم اللانهاية والأبدية واللاعودة، وفيها اللايقين من عدم إمكانية تصديق انهيار عالم بالكامل، بشكل مطلق ونهائي وفجائي إلى الصفر!! كان يخيل الي أحياناً أنه سيقوم من الصندوق الخشبي ويرفع عنه الأغطية المغلفة لبدنه ويجلس، ثم ينظر إلينا مرتاعاً مستغرباً كيف حصل أن وضع هذه الوضعة غير اللائقة، فمكانه كرسي داخل السيارة، ومنامه فراش وثير وليس كفن وتراب، وطعامه هنيء، وحياته حافلة باللذات والراحة، وفجأة انحدر إلى الوحدة والوحشة والغربة والبعد السحيق. لن ينام بعد هذه الليلة في فراشه، لن يرى عائلته قط، لن يرجع إلى روتين حياته السابق، انطفأ الشعور وغاب الإحساس وودع كل شيء على الإطلاق في رحلة لارجعة منها.
ألا رب وجهٍ في الترابِ عتيقِ ويارب حسنٍ في الترابِ رقيق
ويارب رأي في التراب ونجدة ويارب رأي في التراب وثيق
فقل لقريب الدار إنك راحــــــلٌ إلى منــزلٍ ناء المحل سحيق
وما الناس إلا هالك وابن هالك وذو نسب في الهالكين عريق
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشــــفت لــه عن عدو في ثياب صديق
ياالهي ماهذا الموت الذي كتبته علينا، أي جبروت فيه وقهر (وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحكم الموت توفته رسلنا وهم لايفرطون).
عندما انتابني هذا الشعور لا أدري ماالذي حرك في ذهني فكرة بعث الموتى على يد المسيح عليه السلام، وعندها بكيت وأدركت أن صاحبي قد شبع موتاً، وجثته تمشي في طريق التعفن والتحلل والتفسخ، وسوف يهرب منه أقرب الناس إليه، ويبقى التراب أفضل ستر، وسألت دموعي مجدداً فموعدي معه هو في الآخرة فقط.
بكيت في الواقع على نفسي، فعمره من عمري وهو من جيلي وعاصر نفس الأحداث التي عشتها، أما هو فقد انتهى حظه منها، وطُوي ملفه من سجل الأحياء، وأما أنا فسألحقه ولو بعد حين.
إدراك الموت ووعيه الحاد
إن فلسفة إدراك الموت ووعيه الحاد تولدت في الشعور الانساني من معاصرة ومعاينة فقد الصديق والحبيب. عندما دخلنا مدينته تعجبت من سهر قوم حتى الصباح الباكر في غاية السرور والفرح. كان عرساً حافلاً! قلت في نفسي عجباً لهذه الاضداد. وتذكرت الآية (وأنه أضحك وأبكى)(1) ثم تداركت: كل من في هذا الاحتفال لهم موعد مثل موعد (أبو طه) صديقي الوفي، فكما تمتع وتزوج وعاش وكان على موعد مع الموت، كذلك كل من يدب على ظهر هذه البسيطة من الأحياء هم في حكم الزوال والوجود المؤقت والمعار.
بدأت أنظر إلى المارة والناس بغير العين السابقة وأخاطب نفسي: كلكم أشباح تنتظرون الموت. اسعوا ماتسعون وافرحوا ماشئتم ففي النهاية سيكون ظل الموت الباكي هو الذي سيغلفكم ولو بعد حين. إن كل لحظة لنا هي توديع للحياة باتجاه نقطة الموت التي نقترب منها. إننا نكبر مع كل لحظة ونقترب من الموت لحظة مقابلة فنصغر بنسبتها.
قانون التغير يمثل الحقيقة الأولى في الوجود
إن الحقيقة الأولى في الوجود كما قال حكيم من الشرق هي قانون التغير وعدم الدوام والزوال. إن كل شيء في الوجود من حيوان الخلد الى الجبل، ومن الفكرة إلى الإمبراطورية، يمر خلال دورة الوجود ذاتها، أعني النمو والانحلال ثم الموت. والحياة وحدها هي الشيء المستمر، وهي دائماً تسعى إلى الافصاح عن نفسها في صور جديدة. والحياة جسر. ومن ثم فلا تبنى البيوت فوق الجسور، والحياة عملية من عمليات التدفق والجريان، فمن يتعلق بأية صورة من الصور مهما تكن جمال هذه الصورة فسوف يقاسي، نتيجةً لمقاومته لهذا التدفق والجريان، والحياة واحدة غير منقسمة وإن كانت أشكالها المتغيرة على الدوام لاحصر لها وهي قابلة للفناء. وليس هناك في الحقيقة موت وإن كان الموت مصير كل صورة من الصور الحياة. إن الرحمة وليدة إدراك وحدة الحياة وفهمها. وقد وصفت الرحمة بأنها قانون القوانين، وأنها التناسق الأبدي، وأن الذي يشذ عن هذا التناسق سوف يصيبه الألم والمكابدة، كما أنه يؤخر من تنويره وتثقيفه (2).
لحظة الوداع الأخيرة
خلال ساعات كان صديقي وأخي يُصلى عليه ثم نودعه الى التراب!! لم يكن مابين حديثه العذب واستسلامه الكامل للحفرة وحيداً فريداً يذوب عضواً فعضوا، صديقه التراب والدود والتفسخ الكامل أكثر من ساعات قليلة. وقفت مذهولاً أمام جبروت الموت وضغطه الساحق. وعندما دخلنا المقبرة كان السكون والسلام يطوق عالماً جديداً، قلما ننتبه إليه، حيث تناثرت القبور، وبرزت بعض الحجارة تحمل رموز أصحابها، كانوا مثلنا تماما وعاشوا بكل زخم الحياة. نحن الآن في إذاً في عالم الأموات ودنيا المغيبين. كانت فوهات قبور جديدة جائعة تطل من بطن الأرض؛ فاغرة فاهها الى مجهول قادم تستعد لالتهامه. تعجبت وسألت لماذا؟ أجاب حفاَّر القبور: السيل قادم من طوابير الموتى ويجب أن نستعد لاستقبال زبائن العالم الآخر!! وتذكرت سنوات مضت حينما مات صديقي الشاب في الدمام بعاصفة مروعة من مرض عضال افترسه في أقل من شهر، عندما زرت قبره بعد حين كانت الساحة مفروشة بأعداد جديدة لاتحصى من زوار العالم الآخر. مشينا مسافة طويلة وبصعوبة اهتدينا الى مكانه. كان قد دخل في عالم النسيان والاهمال. ولا أشيء أدعى الى الحزن من النسيان. حتى الأبناء لايزورون قبور آبائهم إلا في المناسبات. وبقيت أماكنهم فقط في الذاكرة فقط. في بلدتي التي نشأت فيها تناثرت دموعي في المقبرة وأنا أقرأ جملة لإحدى قريباتي (حليمة). كانت في غاية الحيوية والجمال والنشاط ففارقت الحياة على موعد مبكر. كانت الفقرة تقول أعرف أن المكان لايدعوك ولايشجعك للوقوف الطويل، كل ما أرجوه منك أن تقف لحظات وتتذكرني أنني كنت من عالم الأحياء مثلك. كتبت العبارة بوضوح بقوة وبلغة غير منمقة أقرب للعامية ولكنها مؤثرة:
أيها الزائر إليَّ قف عند قبري شويَّ
واقرأ السبع المثاني رحمة منك إليَّ
في زمان كنت مثلك أقرأ القرآن حيَّ
عن قريب تبقى مثلي ليس بعد الله حي
ليرحمك ربي ياحليمة كم كنت جميلة متأنقة وأين أصبحت؟ صدمة الضمير أمام ظاهرة متكررة لاجواب عليها ولا مفر منها. سأحاول صياغة العبارة مجددا:
أيها الزائر قف عند قبري قليلا ولو لحظات عابرات.
واقرأ على روحي السبع المثاني عسى أن تنالني رحمة من ربي.
كنت مثلك يوما حيا أقرا القرآن واليوم كما تراني وديعة التراب والبلى.
وقريبا ستلحقني لنفس المصير فليس من حي إلا الله!