في فلسفة الحب
خالص جلبي
هل الحب جنس؟ والجواب إنه نصف الحقيقة. فبدونه ليس من زواج، ومعه لا يضمن الزواج.
ولو كان الجنس هو مربط الزواج؛ لما رأينا قط زوجين مطلقين وخلفهما سبعة أولاد!
فلا يعقل أن يكون كل طفل ولد في مناسبة جنسية واحدة.
هل الحب كيمياء؟ والجواب أيضا إنها نصف الحقيقة، فكثير من الزيجات تبدأ جفافا وتنتهي ولعا وجنونا أو بالعكس.
وهناك من أحب فتزوج ثم وقع الطلاق، وهناك من تزوج فأحب فالتهبا بعاصفة عشق ليس لها قرار..
هل الزواج هو إنجاب الأطفال وبناء عائلة؟
والجواب أيضا إنها نصف الحقيقة، فهناك العديد من الأزواج بدون أطفال، سواء بانعدام القدرة أو الرغبة بعدم الإنجاب، وهناك المطلقات مع كومة أطفال.
فما هو الحب يا ترى؟ إنه جميع ما مر ويزيد، فهو شجرة يانعة تعطي ثمراتها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون.
واختصر القرآن الزواج بكلمات: سكينة ومودة ورحمة ولباس وحمل وإنجاب..
واعتبره آية مثل دورة القمر ونبات الزرع والرياح المرسلات..
ويعتبر علم الأنثروبولوجيا أن العائلة لها أربع وظائف:
أولها الجنس وإنجاب ذرية يعترف بها المجتمع أنها خرجت من هذا المربع.
وهي ثانيا محضن للثقافة، فالطفل يحمل الثقافة ويتعلم اللغة عن طريق الأم.
وهي ثالثا العائلة بنية اقتصادية مستقلة.
وهي أخيرا العائلة هي مكان الرحمة والانسجام، أي قاعدة التموين الروحي العاطفي..
وفوق ذلك هناك فيض من المعاني، كما قال موسى عن عصاه، ولي فيها مآرب أخرى، وكذلك كان الزواج بمآرب أخرى؛ فعلى ظهرها بنيت العلاقات السياسية، كما في ماريا الإسبانية مع هنري السادس، قبل أن يقع في عشق باولين ليعدمها لاحقا في جو مؤامرات بتهمة الزنا والخيانة ولم تكن، حتى حكمت من بعدها إليزابيت الأولى الشقراء كأول امرأة العرش البريطاني لتهزم أسطول الأرمادا، أو ملك فرنسا مع الفتاة النمساوية قبل أن ينتهي رأسها الجميل على شفرة المقصلة، أو زوجة نيقولا الثاني الألمانية التي أنتهت قتلا مع عائلتها في كاترين بورغ.
مع هذا فالناس يحتفلون في يوم 14 فبراير بعيد فالانتين عيد الحب، فما هو الحب؟
سألت امرأة عجوز عن الحب وما هو معناه، فأجابت: أول مرة سمعت هذه الكلمة كنت طفلة صغيرة، وكانت من والدي الذي قبلني وقال: إني أحبك، فقلت الحب هو: الحنان والأمان والحضن الدافئ. وعندما بلغت سن الرشد وجدت رسالة من شاب فيها كلمة أحبك، فعرفت أن هناك من يريد مشاركتي الحياة، فأدركت أن الحب عطاء ومشاركة، والكراهية ارتداد على الذات وتدمير الذات قبل الآخر. وعندما تزوجت كانت أول كلمة قالها لي زوجي أحبك، فعرفت أنها المودة الخالصة من قلب شارك الآخر حياته. وحين غبت عنه قليلا، أرسل إلي يخاطبني بكلمة أحبك؛ فعرفت أن الحب شوق وافتقاد. وحين ولدت أول طفلي جاء زوجي وكنت متعبة على السرير، فأمسك برأسي وقبلني وقال: أحبك، فعرفت أن الحب امتنان وعطف. وحين تقدمت بنا السنون وتقوس الظهر وشاب الشعر التفت إلي زوجي عصر يوم وقال: كم أحبك؟ فعرفت قول الله تعالى الرحمة والمودة مزيج ليس كمثله شيء.
وحين بدأنا نمشي مستندين على العكاكيز وكل منا يسند الآخر، قال لي والدمعة في عينيه: هل تعلمين كم أحبك، فعرفت أن الحب وفاء وصدق. وهكذا فالحب شجرة تكبر بدون توقف وتعطي ثمراتها كل مرة، فهذا هو الحب يبدأ بذرة صغيرة، ثم يصبح شجرة عظيمة تأوي إليها الطيور.
ويبلغ الحب مكانا في القلب أن كل واحد لا يترك الآخر. وهناك شيخ في الثمانين حين سمع بخبر موت زوجته، أمسك بالبندقية فأطلق على نفسه النار بدون تردد، فلم تعد الحياة تساوي شيئا بعد ذهاب شريكة حياته. ويجب أن ينظر للأمر أنه هاوية الحزن، بعد شاهقة الحب. وفي كتاب «طوق الحمامة» لابن حزم كانت تجربة مذهلة، لرجل تعلق قلبه بفتاة تركته لآخر، فاشتكيا بين يدي الوالي وكان على شرف مرتفع، فقال للمتروك وكيف تشهد على حبك؟ قال: أموت بدونها، ثم ألقى بنفسه من الشاهق فترضرض ولم يمت! قال القاضي للثاني: جرب حظك عزيزي، فنظر من أعلى الهوة وقال: لا .. وترك الفتاة.. ففاز العاشق الفعلي، فالعشق فعلا موت..
ويجب فهم القصة في عصر السيف والحرب القديمة.. ولكن مع الخلفية السيكولوجية للأحداث.
وفي كتاب «ساعات القدر في تاريخ البشرية» بقلم ستيفان زيفايج، يتحدث عن غوته، الشاعر الألماني الشهير، أنه كتب أفضل شعره حين أحب الفتاة أولريكه فون فولستوف (Oehlreke Von Volstov) بعمر 19 ربيعا وهو بعمر 74 عاما، فخلد اسمها في مرثية مارينباد. وحين خسر نبي الرحمة خديجة قال عنها: بشروا خديجة ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب. وعرف عام وفاتها بعام الحزن، وفيه تنزلت سورة «يوسف» العجيبة، التي يعمى فيها النبي حزنا ويبصر فرحا، وحين يأتيه خبر ضياع الولد الثاني بنيامين بعد يوسف، وبعد عشرات السنوات، يقول: هذه المرة اكتملت المأساة وسوف يأتيني الله بهما جميعا. إنه ما من أحد قرأ هذه السورة إلا وبكى فيها مرات، مترنحا بين الأسى والقنوط، والأمل والرحمة، وحسن الختام والتئام شمل العائلة، وتحقق الحلم الرمزي، واكتمال الصيرورة، وفك عقدة الرواية.
وفي ظل هذه الظروف القاسية التي عاشها النبي (ص) بخسارة خديجة، جاءت السورة تقول له؛ اكتملت أحزانك، والآن بدأت انتصاراتك، فالنور ينبثق من رحم الظلمات. ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون. حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا.
إنني أفهم سر تعدد زيجات النبي، لقد كان يبحث عن خديجة..