شوف تشوف

دين و فكر

في فقه تداول السلطة

إلياس بلكا

يعني مصطلح تداول السلطة ببساطة أن الحكم ينبغي أن يخضع لمشاركة أوسع الفئات الاجتماعية الممكنة، فلا يكون حكرا على طبقة أو أسرة أو قبيلة معينة، إذ مصدر السلطة في الإسلام هو الأمة، والحاكم أجير عندها، وكـّلته على إدارة شؤونها، فهي صاحبة الحقّ، وبإمكانها متى أرادت أن تنزع عنه هذه الوكالة وتُسنِدها لغيره.
وهذا التداول حتمي، ففي القرآن الكريم: «وتلك الأيام نداولها بين الناس»، وفيه أيضا: «لكل أمة أجل»، لذلك وضع ابن خلدون نظرية خاصة في شرح هذه السُّنة الكونية. لكن درس التاريخ يشير إلى أن هذا التداول كثيرا ما يكون عنيفا، ولا يجري بالطرق القانونية السلمية، وهذه ظاهرة عامة في الأمم والشعوب، لم ينفرد بها المسلمون.
لذلك من واقعية الفقه الإسلامي أنه اعترف بوجود النزاعات العنيفة بالداخل الإسلامي، واعتبرها ظاهرة بشرية طبيعية، وإن كانت غير مُحبذة في معظم الأحيان. لذلك يمكن أن نتحدث عما يمكن تسميته بـ: «فقه النزاعات المسلحة بين المسلمين، أو بين أبناء البلد الواحد».
وقد قسّم الفقهاء أنواع الثائرين على سلطة الدولة، أو «الخارجين عن قبضة الإمام» بتعبير فقهائنا القدامى، إلى أربعة أنواع، لكل نوع حكم خاص:
1- المتمردون على الدولة بلا تأويل، أي بلا نظرية سياسية ولا تصوّر فكري، سواء كانت لهم قوة أم لا، وهؤلاء في حكم قطاع الطرق. فكلّ من حمل السلاح وأخاف السبيل بلا دعوى فهو مُحارب مفسد في الأرض، وتجري عليه ما يسمى في الفقه: أحكام الحِرابة. والأصل فيها الآية القرآنية: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتّـلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض).
2- متمردون بتأويل، لكن بدون قوة أو منعة.
3- ثائرون بتأويل، ولهم منعة. وهم البُغاة.
4- ثائرون بتأويل، ولهم منعة وقوة، وأضافوا إلى ذلك تكفير الإمام والأمة واستحلال دمائهم وأموالهم. وهؤلاء الخوارج.
إن البغي هو التمرد المسلح على الإمام الشرعي بتأويل، فالاعتراض المسالِم ليس بغيا، كما أن حمل السلاح بلا تأويل، أي بلا شبهة نظرية وعلمية ليس بغيا كذلك، بل يُدرِجه الفقهاء في قطع الطريق، أي الإفساد في الأرض،
لذلك يفترق البغي عن مصطلح آخر في تاريخنا هو الخروج، إذ الخروج ثورة، بالتعبير المعاصر، لكن على سلطة غير شرعية، وهي التي يشير إليها الفقهاء بقولهم: الإمام الفاسق أو الظالم أو المُتغلب.
والحقيقة أن هذا الفقه المتعلق بالنزعات المسلحة والحروب الأهلية يدلّ على وجود مشكلة كبيرة في تاريخنا السياسي، وهي أننا لم نطوّر في فكرنا السياسي مناهج واضحة للتداول السلمي والقانوني للسلطة، بحيث لم يكن أمام الجماعات الراغبة في المشاركة في الحكم أو الساخطة على الأوضاع القائمة أيُّ سبيل آخر غير القوة واستعمالها.
وقد تمّ استغلال هذا الوضع الشاذ من الطرفين معا، فبعض الحُكام وجدوا في جمود موقفنا الفقهي فرصة للتشبث الأبدي بالسلطة، كما وجد بعض المغامرين والطامحين لكرسي الحكم الفرصة مناسبة للسيطرة على السلطة وحكم الناس بالقوة لأغراضهم الخاصة، فتعدّدت حالات البغي والخروج في تاريخنا، بحق وبباطل.
لذلك يجب أن نجتهد في موضوع تدول السلطة بصفة خاصة، والصراعات الداخلية بصفة عامة بنوعيها السلمي والعنيف، وقد صار لنا زمان لم نطوّر فيه ما يمكن تسميته بـ: فقه الصراع الداخلي، أو فقه الاختلاف السياسي. ولا مانع من اكتشاف أو اقتراح صور أخرى للخلاف ولكيفيات التعامل معه. فقد توصل الفقهاء إلى هذا التقسيم الرباعي للثائرين على الإمام بطريق الاستقراء، كما لاحظ ذلك منصور البهوتي الحنبلي في كتابه «كشّاف الإقناع»، أي بملاحظة التجربة التاريخية للأمة.
كما ينبغي البحث أكثر في مجالات المعارضة السلمية، وتطويرها بحيث تكون قنوات متاحة لجميع من يريد المشاركة برأيه أو جهده في الشأن العام. فربما كان ضيق هذه القنوات أو قلَّـتها سببا رئيسا في كثرة الخروج والبغي في تاريخنا. إذ البغي معارضة سياسية لكنها معارضة من نوع خاص، وهي أنها ترفع السلاح في وجه الدولة. لذلك فالمعارضة السلمية التي تسلك السبل المشروعة أو القانونية لا تعتبر بغيا. ولا يجوز للدولة أن تواجهها بالقوة، بل على العكس من ذلك ينبغي تشجيعها.
وقد أثبتت التجارب التاريخية لكثير من الأمم، خاصة الإسلامية والأوربية، أن أكثر الوسائل فعالية في تقويم الحكم وتسديده هي الوسائل القانونية. لذا يجب تطوير الفقه الإسلامي في هذا الاتجاه، خاصة أن أصدق وصف لنظام الحكم في الإسلام هو «القانونية»، أي أنه نظام قانوني، لا لاهوتي ولا علماني ولا استبدادي، كما شرح ذلك محمد ضياء الدين الريس في كتابه «النظريات السياسية الإسلامية» .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى