في ضرورات التضامن العالمي
د. محمد ديـرا
أصبح عالمنا المعاصر –كما يقال باستمرار- بمثابة قرية كونية، ومن هنا تواجهه مهمة صنع السلام عن طريق التضامن العالمي، وهذه الصورة عن القرية الكونية تصيب الحقيقة إلى حد كبير إلا أنها لا تدرك إلحاح الموقف إلا بدرجة ضئيلة. ولعل الوصف الأكثر ملاءمة للإنسانية اليوم هو أنها تمثل جماعة استقرت على ظهر سفينة كونية تبحر عبر الفضاء الكوني، ويتحتم عليها أن تتجنب حدوث أي خلل فيها بأي ثمن.
وقد استخدم النبي صلى الله عليه وسلم في حديث له هذا التصوير الرمزي الذي نستعيره هنا للموقف الراهن لعالم اليوم لكي نؤكد من خلاله على ضرورة التضامن العالمي بين الناس، حيث كان النبي عليه الصلاة والسلام يرى أن القسم المتميز من مجتمع السفينة إذا لم يهتم بصورة كافية بالقسم الآخر المجرد من الامتيازات فإن هذا القسم الأخير سوف يتسبب إن عاجلا أو آجلا بقصد أو بغير قصد في إعطاب السفينة وبالتالي غرق الجميع. (راجع الحديث في فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ج5 ص132…).
لذلك وعوض الحديث والترويج لأطروحات الصدام والصراع وحروب الشمال والجنوب يجب أن تتضافر الجهود وتتعاون وتتكاثف وتتضامن من أجل إقامة نظام راسخ لسلام عالمي يحتاجه عالم اليوم أكثر من أي وقت مضى. فالعالم في حاجة إلى نظام سياسي كوني يسعى إلى مراعاة حقوق الناس كل الناس بمن فيهم الفقراء. وبدون ذلك لن يستطيع العالم حل المشكلات التي تحاصره من كل جانب.
والعالم الإسلامي على وجه الخصوص يجب أن يكون شديد الاهتمام بكل المحاولات الرامية لاستقرار العالم وضمان أمنه، وهذا الاستقرار لن يحدث في نهاية الأمر إلا من خلال جهود مشتركة لكل الشعوب في الحوار وفي التعاون فيما بينها، وذلك لأن سيطرة جهة ما أو هيمنتها تقود بالضرورة كما يعلم الجميع سواء أردنا أم لم نرد إلى ديكتاتورية المتغلب، فالقوة التي لا ضابط لها تقود في الغالب إلى سوء استخدامها. وهناك نماذج تاريخية ومعاصرة كثيرة مارست ولا تزال العنف والإرهاب والقهر والتسلط ضد الشعوب المستضعفة.
إن المدنية التكنولوجية التي تسود العالم اليوم قد جلبت للعالم كله شبكة من العلاقات في شؤون الاقتصاد والاتصالات والمعلومات، ولكن هذه العولمة قد أدت من ناحية أخرى إلى مشكلات خطيرة في مجالات البيئة والنظم الاجتماعية والثقافية والهوية. وهذه المشكلات -وغيرها كثير- من شأنها أن تهدد أمن واستقرار البشرية، بل وتهدد وجودها على كوكب الأرض. من أجل ذلك يتحتم أن تعالجَ هذه القضايا في إطار حوار ديني وحضاري، ومثل هذا الحوار يستطيع أن يبرز القواسم المشتركة لكل القيم المهمة، ويستطيع فوق ذلك أن يعمل على التوصل إلى كيفية تحقيق هذه القيم في سياق كل حضارة على حدة. وعلى هذا النحو يصبح التعاون في حل هذه المشكلات المهمة أمرا ممكنا.