شوف تشوف

الرئيسية

في صراع مع أخي الذي لا يشبهني

نادى القاضي على دركييْن متسمِّريْن بجانب الباب وأمرهما أن يسحبا أبي خارج قاعة الجلسة، فجرَّاه من جلبابه.. وبعدها ذهبا به إلى سجن محلي.. لم يكلف الحاكم نفسه عناء استجواب أبي عن «الوزير» الذي يسرق ماء المخزن.. ولم يأمر أبدا بتعميق البحث مع رجل الدولة الذي يسقي أراضيه بماء صالح للشرب، في زمن عزَّ فيه القطر.. رأت المحكمة الموقرة أن تدين مواطنا بريئا، شرب مثل غيره من الماء، بستة أشهر حبسا نافذا.. وألا تسأل عن مزرعة الوزير، ولا عن عنوانها، ولا عن اسم المتهم!!!
من المسؤول عن هذا الظلم الذي لحق أسرتنا؟ هل هو عون السلطة؟ أو رجال الدرك الذين كتبوا الزور؟ أو القاضي الذي صادق على الباطل وختم به؟ أو «الوزير» الذي يسرق الماء دون حسيب أو رقيب..
تشتَّتَ ذهني في هذه الفترة، وانتُهِكت براءة طفولتي، وشعرت بعد هذا الحادث أني كبرت بعشر سنوات أو ما يزيد عنها.. في هذه الفترة من عمر أسرتي تمخضت أحشائي فولدت كائنا اقتات من رحيق الجور وقهر الرجال.. أحسست دائما أن هذا الكائن يكبر كلما أصابتنا داهية من دواهي الحياة.. وضعوا أبي وراء القضبان لكنهم نسوا أنهم حبسوا نفسي داخل أسوار الكراهية.. ولمَّعوا في ذهني صورة ذلك العملاق الأسود.. الذي يسمى «المخزن».. كرهت فيما سبق «الشيخ» و«الوزير»، أما بعد هذه الواقعة، فعدت أكره «الدركي»، وأضيف إليهم «القاضي».. الذي استهزأ بأبي أمام الجميع.. كلهم أحبوا أن يكون لهم اسم واحد هو «المخزن».. وكلهم رغبوا في أن يكونوا ذلك الرجل.. الذي يكتم أنفاسي في الأحلام…
كان أخي «محمد» يقطع مسافة ستة كيلومترات ذهابا وإيابا ليتابع حفظ القرآن الكريم على يد فقيه الدوار «بوشتى».. رفض أبي أن يدخل أخي المدرسة العمومية، خصوصا عندما لاحظ قدرته الفائقة على حفظ كل شيء يسمعه.. استطاع أن يكمل حفظ كتاب الله كاملا وهو لم يكمل بعدُ ربيعه الثاني عشر.. أقام أبي عرسا بمناسبة هذا التتويج، فكان يوما مشهودا جمع له رجال القبيلة احتفاء بـ«السلطان الجديد».. صار أخي بالفعل «سلطانا» في ذلك اليوم، لبس جلبابا أبيض وعمامة صفراء.. حاكت له أمي «سلهاما» (البرنس) خاصا بالمناسبة.. جاء الناس من كل أنحاء القبيلة حتى إن «الخيمة» الكبيرة التي بنيناها لاستقبال الضيوف لم تسعهم جميعهم، فتحلَّق الباقي خارجها ينتظرون الطعام، وقد ذبحنا ثورا كبيرا، بالإضافة إلى خروفين آخرين..
أصبحت لـ«محمد» مكانة مميزة في الدوار بفضل استيعاب عقله الصغير لكم هائل من الآيات.. هذا التميز في الحفظ جعل أبي يحث أخي دائما على مجالسة الأعيان ومخالطة «فقهاء» القبيلة و«فقراء ومريدي الزاوية».. كان يفتخر به أيّما افتخار.. ويفضله علينا أيّما تفضيل.. وإن «محمدا» لكان أحب إلى أبينا منا.. حتى قلت أنا وأختي «زينب» إنه لفي «ضلال» مبين.. وأظهرت أمي هي أيضا اهتماما زائدا به..
هذا السلوك التفضيلي استفز كياني وجعلني أشعر بالغيرة تجاه أخي.. حصل ذلك بغير إرادة مني.. أقول في نفسي وقتها إن حفظ القرآن لوحده ليس ميزة في حد ذاتها.. وإن كنت أرى في ذلك معجزة، إذ كيف لعقل بشري أن يحفظ كل ذلك الكم الهائل من آيات الله؟؟.. حدثت بعد ذلك ملاسنات قوية بيني وبين والدي.. حاججته في أن لي مزية أخرى وهي أني أدرس في مدرسة عصرية، وهو فضل لم يبلغه أخي قط في حياته.. وظل نقصا يشعر به العمر كله.. هو كان يحفظ كلاما دون فهمه.. وأنا أبحث دائما عن فهم كل شيء.. هو لم يستطع أن يستدرك فيما بعد التعليم العصري، أما أنا فقد استطعت ـ بإذن الله ـ أن استدرك قدرة الحفظ.. فحزت الشرفين معا.. شرف التعليم العصري وشرف الحفظ..
عندما تمادى أبي في «ضلاله» ولم يعد يعر لي اهتماما، بدأت أدافع عن نفسي بقوة.. مرة تماديت في مدح نفسي أمام ضيوفنا وكانوا من «فقراء الزاوية».. تبجحت أمامهم بأني أتعلم لغة ثانية وهي اللغة الفرنسية.. وبأني أجيد اللغة العربية أحسن من أخي «محمد».. أذهلهم سلوكي هذا، فنهرني أبي بقسوة وكاد أن يضربني، وصرخ في وجهي:
ـ أخرج أيها «الصعلوك».. أخرج من داري.. (طردني من المجلس)
أجَّج ذلك من نار الغيرة التي بدأت تنبت بداخلي.. قمت بجولة وحيدا بالوادي المحاذي لنا.. قررت مع نفسي أن أخوض معركة لا هوادة فيها لإثبات ذاتي وإظهار مهاراتي التي أتقنها.. فلم يكن أمامي سوى التفوق في دراستي العصرية وإتقان علوم لن يفلح فيها أخي أبدا..
كان «محمد» يستبد بأفضل شيء عندنا، حتى إنه استحوذ على بيض دجاجنا في وقت من الأوقات.. لهذا السبب كنت أسرق البيض من أمي إيمانا مني بأنه لا يفضلني في شيء، وأني بدوري أذهب إلى المدرسة، وأحصل على نتائج جيدة في الامتحانات.. دافعت عن نفسي بقوة، وتشكلت لدي ملكة عجيبة في المجادلة والحجاج وقهر الخصوم وإسكاتهم بإبداء ملاحظات لا يتوقعونها.. استغللت في ذلك جهل أبي وأمي وأختي، وأيضا جهل أخي.. كنت اعتبره جاهلا لأن مجرد حفظ القرآن لوحده دون فهمه لا يعني شيئا بالنسبة إلي..
كنت أشبهه في نقاشي معه بـ«المسجلة» التي نستعملها أنَّى شئنا.. أعترف أني أفرطت في تعنيفه.. ويرجع ذلك إلى والدي الذي فضله علينا دون أن يراعي شعورنا ولا أن ينتبه إلى تميزنا نحن كذلك.. أؤمن بأن كل إنسان في الحياة له موهبة ما.. ويمكن أن يبدع شيئا ما.. إلا من أبى وتولَّى.. أو فرض القدر عليه مسارا معينا فيه حكمة ما..
اقتحمت معركة شرسة في هذه الفترة، بالرغم من حداثة سني، من أجل إثبات الذات وفرض رأيي على الآخرين والمبالغة في النيل منهم وإظهار عجزهم.. في الحقيقة نشبت حرب داخل أسرتي الصغيرة بين من يناصرون التعليم العصري، وكنت أنا رمزه، وبين من يدافعون عن التعليم التقليدي، وكان «محمد» هو من يمثله ويستفيد منه..
أربكتُ كيان الأسرة بنزعتي «الانقلابية» وبتعنتي وإصراري على هزم أخي والطعن في قدراته والتنقيص منه أمام الآخرين.. كان السبب هو استفراده ببيض الأسرة من دوننا.. هكذا يجني الآباء على صغارهم دون أن يدركوا عواقب ذلك على نفسيتهم وسلوكياتهم.. صراعي مع أخي حول الزعامة في الأسرة حفّزني على الاجتهاد في الدراسة وتحصيل العلم وإتقان أشياء لا يستطيع إليها أخي سبيلا..
في هذه السنوات تميّزت شخصيتي عن شخصية «محمد»، وتحددت معالم الطريق لكلانا.. فهو يذهب إلى «الزاوية» وأنا أذهب إلى المدرسة.. هو يحفظ القرآن وأنا أتعلم لغات جديدة وأتقن الكتابة وفن الكلام.. أنا أستعمل الأقلام الحديثة والأوراق مختلفة الألوان والمبراة والطباشير والمسطرة.. وهو يكتب بقلم مصنوع من القصب، ويستعمل حبرا يسميه الحفظة بـ«الصمغ»، وهو مداد أسود اللون يصنع من مواد داكنة تكون عالقة بصوف الأغنام، ويحتاج في النهاية إلى «الصلصال» ليمحو به الكتابة التي يخطها فوق لوحة خشبية ثقيلة.. هو يجلس مع كبار القوم ويتورع عن القيام بصغائر الأشياء، وأنا ألعب مع الصغار ولا أتردد في صيد الحمام وقتل الأفراخ.. هو يلبس الجلباب الثقيل وأنا ألبس السروال العصري والقميص الخفيف.. هو يأكل البيض دون خوف من أحد، وأنا أسرقه من أمي.. هو الطفل الهادئ وأنا المتمرد الرافض لكل شيء.. أعبر عن رأيي بكل وضوح وجرأة، بينما «محمد» يميل إلى المداهنة وكتم ما بداخله، حتى أني كنت أصفه في بعض المواقف بـ«المداهن».. كان المسكين يكتم ما بداخله ويبدو عاجزا أمام خصومتي المفرطة في الجدال..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى