في شرح الفجوة وما يأتي منها
ليس هناك في السياسية ما هو أخطر على ممارسها من نشوء فجوة بينه وبين أولئك الذين أوصلوه إلى السلطة، أي الشعب.
في العصور الزاهية للإسلام، حيث كان الساسة يحكمون بالعدل قام عمر رضي الله عنه بجلد ابنه عندما شرب الخمر حتى مات.
ورغم أن عمرا كان فظا قاسيا فقد أحبه الناس رغم قساوة طباعه، لأنه كان قاسيا وفظا في الحق مع نفسه أولا وثانيا مع أهله وأقربائه، وكان الناس عندما يسمعون من يروج حوله الشبهات يقولون له «اسكت لو كان عمر كما تقول لعفى عن ابنه».
إسلاميو آخر الزمان هذا، الذين يدعون امتلاك «الأخلاق العمرية»، يقدمون أمثلة رديئة عن عدلهم في ذوي القربى. فيتيم سليل الشبيبة الإسلامية الذي كان يدعو أيام الحسن الثاني إلى الثورة على نظامه، ابنه قمار كبير، وبنكيران رئيسه في الحزب والحركة أرسل ابنه إلى فرنسا ليدرس على حساب دافعي الضرائب بمنحتين واحدة بخمسة آلاف درهم والثانية بستة آلاف درهم في معاهد الفرنسيين الذين يحارب لغتهم في الداخل عبر جمعيات يقودها متفرغون.
أما جامع المعتصم، مدير ديوان بنكيران، فقد أرسل ابنه إلى تركيا بعدما تدبر له عملا في شركة إخوان العدالة والتنمية الترك، لكنه عاد مدمنا فلما يئس منه حرر شكاية ضده للنيابة العامة وأرسله إلى السجن.
وأما لحسن الداودي، فقد تدبر لولده منصب مدير كبير في شركة بلادن، بعدما أقنعه بضرورة الاستثمار في تعاونيات الفلاحة التضامنية وتصديرها إلى الخارج.
عندما يرى الشعب أن الحمداوي، الرئيس السابق لحركة التوحيد والإصلاح استغل منصب وزير الاتصال مصطفى الخلفي لكي يطلب منه التدخل لدى مدير بنك عمومي من أجل تشغيل ابنه، وعندما يسمعون كيف أن ابنة قيادي كبير في حركة التوحيد والإصلاح بأكادير تختلي بملحد مشهور في غرفة، فإنه يفهم أن هؤلاء الناس الذين يدعون الإسلام كمرجعية والطهرانية كصفة، ليسوا في نهاية المطاف سوى محتالين يمارسون الدجل السياسي على ذوي العقول القاصرة.
وبسبب كل هذا النفاق انحفرت فجوة نفسية بين بنكيران والشعب، ولا نقصد شعبه الذي يقدر بحوالي مليون صوت أو يزيد يضعها في جيبه، وأغلبهم التحق بالحزب بعد «النصر والتمكين» بهدف الاستفادة، بل نقصد عامة الشعب، حتى الذين لا يصوتون منهم.
سبب هذه الهوة التي نشأت وما فتئت تتسع، وكل استطلاعات الرأي تؤكد ذلك، أنهم يسمعون رئيس الحكومة يعطي المواعظ ويقول إنهم يدخلون الانتخابات لوجه الله والعمل السياسي يخوضونه في سبيل الله والعمل لله يجعلهم يعطون بغير حساب، لكن الشعب يشعر بالصدمة عندما يراه هو وصحبه وحوايروه يتنعمون في عسل السلطة، يركبون أغلى السيارات المصفحة ويسيرون مخفورين بالحرس الخاص، ويشترون الفلل ويؤسسون الشركات ويمنحونها صفقات الوزارات التي يسيرها إخوانهم كما فعل بنكيران مع مطبعته، ومنهم من لا يتورع عن سرقة زوجة أخيه وزفها لنفسه.
يحلو لبنكيران والرميد والرباح أن يعطوا عن أنفسهم صورة الوزراء «العمريين»، لكن شتان ما بينهم وما بين عمر وأخلاقه وغلظته وصولته في الحق.
وقد وقع للعدالة والتنمية مع الشعب المصدوم ما وقع للمسلمين مع عمر وعثمان، فقد كان الناس يحبون عمر لأنه كان يقسو على نفسه وأهله وولده قبل أن يقسو على الآخرين، فيما عثمان كان حريصا على الإنعام على أقربائه، وقد كان هذا سببا من أسباب قتله.
وفي كتاب «العدالة الاجتماعية في الإسلام» للشهيد سيد قطب، نقرأ في الصفحة 191 شرحا ساقه عثمان رضي الله عنه لمن سألوه عن سبب تحيزه لأقربائه قائلين «إن أبا بكر وعمر لم يتحيزا لأقاربهما كما تحيزت»، فأجابهم قائلا : «إنما منعا قرابتهما ابتغاء وجه الله وأنا أعطي قرابتي ابتغاء وجه الله».
بمعنى أن نية عثمان لم تكن سيئة بل إنه كان صادقا في تقريبه لأهله وعشيرته، وقام بتوسيع المسجد النبوي وتوحيد القرآن وزيادة العطاء، لكن الثمن السياسي للمحسوبية كان فادحا، فنشأت الفجوة بينه وبين الرعية، وبدأت الثورات والمكائد تحاك ضده وانفتح عهد الفتن الذي مر على جثة عثمان وقميصه وجاء عهد الأمويين بتعاليهم عن الناس وكبريائهم ودمويتهم.
وقد وقع لخروج الشبيبة الإسلامية من السرية إلى العلن، وخروج العدالة والتنمية بعد ذلك من المعارضة ودخولها سرايا الحكم، ما وقع للناس في عهد علي ابن أبي طالب كرم الله وجهه عندما خاطبهم قائلا «واعلموا أنكم صرتم بعد الهجرة أعرابا وبعد الموالاة أحزابا، ما تتعلقون بالإسلام إلا باسمه ولا تعرفون من الإيمان إلا رسمه، كأنكم تريدون أن تكفئوا الإسلام على وجهه».
وهذا ما صرنا نلمسه في خطابات القياديين في العدالة والتنمية، خصوصا وزير العدل الذي تحول فجأة إلى حداثي يفوق الحداثيين ويبزهم.
ومن شدة اعتداد أهل العدالة والتنمية بأنفسهم وتصويرهم لذواتهم بطهرانية منقطعة النظير، وكأنهم وحدهم يفهمون الدين ويطبقون الإسلام التطبيق الصحيح فيما البقية مفتونون وبعيدون عن الله، أصبحوا أقرب إلى حال عبد الملك ابن مروان عندما صعد منبر المدينة، كما يحكي جرجي زيدان في كتابه «التمدن الإسلامي»، فقال مخاطبا أهلها بلغة الوعيد والتهديد :«ألا وإني لا أداري أمر هذه الأمة إلا بالسيف حتى تستقيم قناتكم، وإنكم تحفظون أعمال المهاجرين الأولين ولا تعملون مثل أعمالهم، وإنكم تأمروننا بتقوى الله وتنسون ذلك من أنفسكم، والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه».
هكذا أصبح حال بنكيران وصحبه، بمجرد ما تقول لأحدهم اتق الله حتى تأخذه العزة بالإثم فيهددك بالسجن والتفليس ويسلط عليك دراري حزبه يسلقونك بألسنة حداد.
وما «التمكين والنصر» الذي أسكرت خمرته ولعبت برؤوس قيادة الحزب الحاكم وحركته الدعوية سوى نتيجة لضعف ووهن في الخصم السياسي الذي انشغل بصراعاته الداخلية وترك الساحة فارغة، وهي وضعية مشابهة لتلك التي وصفها الجاحظ في كتابه الممتع «البيان والتبيين» عندما كتب أن معاوية سئل يوما عن الأسباب التي جعلته ينتصر ويغلب عليا، فلخصها معاوية في أسباب ثلاثة، «أولها أن عليا كان يظهر سره فيما معاوية كان كتوما، وثانيها أن عليا كان في أخبث جند وأشده خلافا، فيما كان معاوية في أطوع جند وأقله خلافا، وثالثها أن معاوية كان أحب إلى قريش من علي»، وقريش اليوم هم الدائرون حول البيت الأبيض وليس حول الحجر الأسود. ولذلك فبنكيران إلى الخليفة العباسي أقرب في طباعه، فهو إذا وعظ بكى ورثى لحال الفقراء وإذا انصرف إلى أمور السياسة طغى واستكبر على البسطاء والمساكين وتجرأ على مالهم وأرزاقهم. فهو يأكل مع الذئب ويبكي مع الراعي ولا مشكلة لديه في أن يمر من الغرغرة إلى القهقهة.
وفي كتاب «الأغاني» نجد وصفا دقيقا لهذه الحالة النفسية الازدواجية عندما يقول «صاحب الأغاني» في وصف هارون الرشيد: «كان الرشيد من أغزر الناس دموعا في وقت الموعظة وأشدهم عسفا في وقت الغضب والغلظة».
لكن، وكما في كل عصر فإن لكل حاكم بطانة ومستشارين يزينون له الباطل ويصورون له زلاته على شكل حسنات، حتى إذا جاء وقت الحساب انصرفوا عنه وتركوه وحيدا أمام حكم الشعب ثم بعد ذلك أمام حكم الواحد الأحد، ويحكي أحمد أمين في كتابه «هارون الرشيد» أن الرشيد استدعى واعظا وطلب منه أن يلقي على مسامعه موعظة، فجلس الواعظ ابن السماك الشهير آنذاك وقال للرشيد «اتق الله واحذره لا شريك له، واعلم أنك واقف غدا بين يدي الله ربك، ثم مصروف إلى إحدى منزلتين لا ثالث لهما، إما جنة وإما نار، فبكى الرشيد حتى اخضلت لحيته بالدموع»، فأقبل الفضل، حاجب هارون الرشيد، على الواعظ يعاتبه ويسأله «وهل يخالجه شك في أن الرشيد مصروف إلى الجنة» ؟
فالتفت الواعظ إلى هارون الرشيد قائلا وهو يشير إلى حاجبه الفضل «إن هذا الرجل ليس والله معك ولا عندك في ذلك اليوم، فاتق الله وانظر لنفسك».
فبكى الرشيد بكاء مرا حتى أشفق الحاضرون عليه.
وإذا كان الرشيد يبكي لسماع المواعظ إلى حد الإغماء فلأنه كان على علم بما اقترفته يداه، فقد طرب ذات ليلة لمغنية فنثر ستة ملايين درهم على الحضور، وطرب في يوم آخر فعين المغني الذي أطربه واليا على مصر، كما يحكي ذلك جرجي زيدان في كتابه الممتع «التمدن الإسلامي».
وقد كان الرشيد يعتقد، مثلما يعتقد بنكيران اليوم، أن سماع أو إلقاء موعظة في مجلس أو جمع، وذرف دمعة أو دمعتين في البرلمان، كاف لكي يسمح لنفسه بارتكاب الجرائم في حق الناس ومستقبل أبنائهم.
كم هو واهم والله، إن المسؤولية التي يتحملها الرجل لهي مسؤولية تنوء بحملها الجبال، وظني أن الرجل غير واع بحجم هذه المسؤولية عليه في دنياه وأخراه، في محياه ومماته.