في رثاء شيخة
حسن البصري
ماتت الشيخة الصالحة التي لطالما بايعها قواد وباشوات الشاوية، حين كانت تصول وتجول بين سطات والدار البيضاء وما جاورهما، ماتت ولم يمش في جنازتها إلا ثلة من رفاق دربها الذين أنهكهم المرض، وبعض الباعة المتجولين الذين تقاسمت معهم رعب مداهمة لمخازنية، حين انتهى بها المسار الفني بائعة للملابس المستعملة.
تواطأ بعض مهووسي فن العيطة على تكريم الشيخة السابقة الصالحة، وخططوا لحفل اعتزال يليق بمكانتها، قبل أن يصرف المنظمون النظر عن الفكرة، بعد أن تبين أن أستاذتها الشيخة الزحافة أولى بالتكريم من التلميذة، رغم أن أغلب أغاني المرحومة فاطمة الزحافة، كانت من نظم الصالحة.
توارت الصالحة عن الأنظار ونسيت «هزت لكتف»، وآمنت بأن الشيخة تفقد بريقها حين تتقدم في السن، وأن الزمن اليوم زمن الشيخة تسونامي وطراكس وما شابههما من مغنيات الوزن الثقيل. انسحبت الصالحة وظلت ترفض كل من يعتبر ابتعادها عن الطرب «توبة»، مؤكدة بأن العيطة لا تفسد للورع قضية.
حظيت الشيخة زهرة خربوعة يوما بتكريم في مسرح محمد الخامس بالرباط، بحضور رواد فن العيطة الذين أحيوا أمسية تضامنية مع فنانة انتهى بها المطاف عند قارعة التسول في مدينة الرماني. وقف الجمهور لتحية خربوعة التي ارتبط اسمها بالشيخ العواك، وصفق طويلا لهذه الشيخة التي اعتزلت الفن منذ سنوات لتجد نفسها في مواجهة صريحة مع زمن لا يرحم، زمن بذاكرة مثقوبة وبقلب له صمامات بلاستيكية.
أغلب شيخات المملكة اللواتي روضن عند أقدامهن كبار الشخصيات السياسية، داهمهن ضنك العيش ورسم تجاعيده على وجوههن، أغلبهن لا يتحركون إلا عند الاستعانة بنظارة طبية مليئة بالخدوش، وقوام نال منه الزمن حتى أخفى ملامحهن عمن يعرفون رائدات العيطة ويحفظون في ذاكرتهم صورهن بالأبيض والأسود على غلاف أسطوانات غنائية تعرضت للانقراض، وهن يرسلن شعورهن الغجرية على أكتافهن.
تذكر رواد العيطة شيوخا وشيخات انتهى بهم المطاف في صفوف طوابير المساعدات الغذائية خلال الحملات التضامنية، وبكوا بحرقة على كثير من صناع الفرجة الذين أصبحوا فرجة مشاعة، يصدق فيهم مقطع غنائي لطالما ردده رواد العيطة دون أن يلفت نظرنا «خلي المكتوب يتصرف دابا يفرج ربي».
في جنازة الصالحة غاب عشاقها الأوائل وكأن السير خلف جنازة شيخة شتيمة، وفي ليلة التأبين الباردة، تحدثوا بأسى عن زعيمات حكمن الشاوية ودكالة وعبدة بأصواتهن أمثال فاطمة الزحافة التي انتهت جسدا بلا روح، أو روحا بلا جسد، والشيخة عايدة التي كرمها يوما عبد الرحمان اليوسفي، حين قالت له ثريا جبران: «العيطة عليك، ولكبيرة الوادزمية التي لطالما بايعها الباشوات والقياد، والشيخة لمزرطية وحادة المعروفة بخربوشة التي ماتت من أجل كرامة شيخة، وغيرهن من الشيخات اللواتي يعشن اليوم وضعية اجتماعية ونفسية صعبة، بعد أن دار الزمن وأصبحت شيخات الكليبات رائدات للفن وسيدات مجتمع يستقبلن في الصالونات الشرفية للمطارات ويتحركن في مواكب رسمية محفوفات بخفر أمني عام وخاص.
لم يحضر القياد والباشوات والشيوخ الذين ظلوا لسنوات الرعاة الرسميين لهذه العينة من المطربات، الأحوج اليوم إلى صندوق «التماسك الاجتماعي» لدعم الشيخات المتخلى عنهن، رغم أن هذا المقترح أصبح مجرد بروال في غياب آذان تنصت لنداء اليونسكو الداعي إلى الحفاظ على هذا الموروث الغنائي، والذي وصفه الباحث المغربي حسن نجمي بالموسيقى المعرضة للخطر، ليس خطر الانقراض فقط بل خطر الجحود.
حين غنت الصالحة يوما أغنيتها الشهيرة «الزاوية»، وأشارت في مضامينها إلى حالة الشتات التي يعيش على إيقاعها المجتمع السطاتي، اتهمت بإثارة الفتنة ووجدت نفسها تشرح حسن طويتها من وراء بيت شعري يقول: «جيت نزوركم الغليميين جيتو مفرقين عليا»، أصرت على البعد الجغرافي للتفرقة.