في ذكرى نصف قرن على رحيل جمال عبد الناصر
عبد الإله بلقزيز
لم يكن جمال عبد الناصر، ولا محمد نجيب ولا أحد من رفاقهما في حركة الضباط الأحرار، من أطلق على حركة 23 يوليوز 1952 اسم الثورة. كان اسمها عندهم، وفي التداول الإعلامي والعام، هو «الحركة المبارَكة». طه حسين هو أول من نعتها باسم الثورة في مقال له نشر بعد ثلاثة عشر يوما من قيامها. ومن حينها بات اسما رسميا لها إلى الحين الذي شرعت فيه في إقامة الدليل، من تلقاء تجربتها ومشروعها ومنجزاتها، على أنها – فعلا- ثورة لا مجرد انقلاب عسكري أذهب نظاما سياسيا وأقام آخر جديدا. ومن تنفيل القول إن وصفا يطلقه عقل مصر الأول (= طه حسين) على حركة تغيير في بلده ليس تفصيلا عاديا؛ هو الذي خبر معنى الثورات في التاريخ، وشهد على ثورتين في بلاده، قبل ثورة العام 1952، وظل يتحرك في أتون السياسة وصراعاتها منذ عودته من رحلته العلمية في باريس، نهاية العقد الثاني من القرن العشرين.
واليوم، على بعد قريب من سبعين عاما على تلك الحركة، وعلى تسمية طه حسين لها ثورة، ما من منصف يملك إلا أن يقول – إن هو سئل: أي حركات التغيير التي شهد عليها الوطن العربي في القرن العشرين تستحق صفة الثورة؟ – إن الصفة هذه خاصة مخصوصة لحركة 23 يوليوز 1952 من دون سواها. وله على قوله من الشواهد والقرائن ما يفيض عن الحاجة إلى الاحتجاج به والاستدلال. له من ذلك:
– أنها الثورة التي أنجزت برنامجا شاملا للتنمية الوطنية المستقلة: مبناها على التحرر الاقتصادي من أرباق التبعية للمتروپولات الرأسمالية العالمية، وتشييد اقتصاد وطني منيع وإنتاجي قائم على الإصلاح الزراعي، والتصنيع الثقيل لوسائل الإنتاج، والتخطيط المركزي وتدخلية الدولة في الإنتاج والبناء التنموي. وكان من نتائج ذلك إنجاز مشروعات كبرى من قبيل بناء السد العالي، وتوسعة مساحة الأرض المزروعة ثلاث مرات، وتمكين أبناء ملايين الفلاحين والعمال والفقراء من ولوج المدارس مستفيدين من مجانية التعليم وتعميمه؛
– وأنها الثورة التي أحلت هدف تحقيق العدالة الاجتماعية محل القلب من أولوياتها. وما سياسة التأميمات وإشراك القوى العاملة في وحدات الإنتاج، إلا واحد من مظاهر سياستها الرامية إلى القضاء على الفقر والتفاوت الطبقي وتحقيق التوزيع العادل للثورة، شأنها في ذلك شأن سياساتها في الإسكان والتأمينات الاجتماعية وكفالة الدولة للحقوق الاجتماعية الأساس؛
– أنها الثورة التي اشتبكت مع الأحلاف الإمبريالية (= حلف بغداد)، وخاضت الحروب للدفاع عن الأمن القومي (= حرب السويس، حرب 67)، وأفردت أولوية لقضية فلسطين؛ فكانت وراء تأسيس منظمة التحرير ودعم العمل الفدائي، مثلما كانت وراء دعم الثورة الجزائرية وحركة التحرر الوطني في المغرب العربي واليمن، ووراء فكرة الحياد الإيجابي وتأسيس حركة عدم الانحياز؛
– ثم إنها الثورة التي وضعت قضية التوحيد العربي في أولوية عملها البرنامجي، وخاضت محاولة رائدة فيه، هي الوحدة المصرية – السورية قبل أن ينقض عليها الانفصال، من دون أن تيأس أو تتراجع عن قيادة التضامن العربي في الحد الأدنى.
قائد هذه الثورة ومنظرها وصانع فصولها الملحمية ومكتسباتها لم يكن سياسيا عاديا، كما ثورته لم تكن عادية؛ كان من كبار قادة العالم الأفذاذ: بصدقه، ودأبه، ومبدئيته، وحنكته السياسية، وصراحته مع شعبه وأمته. ومن ذلك كله اكتسب مهابته وكاريزماه، ومحبة عشرات الملايين له من المحيط إلى الخليج. أنجز في عقد ونصف ما أنجزته أمم في أضعاف أضعاف ذلك الزمن، فرفع قامة مصر وهامتها وارتفع بارتفاعهما مقام الوطن العربي، حتى بات مهيب الجناح.
وهو، ككل سياسي ممارِس، أخطأ – جل من لا يُخطئ – لكنه ظل يعرف، على الحقيقة، كيف يتدارك الخطأ فيصلحه أو يعيد بناء ما قاد إليه. هذا عين ما حصل حين تدارك هزيمة 67، وأعاد تأهيل الجيش الذي عبر القناة في 73، ولكن بإرادة سياسية أساءت، من أسف شديد، استثمار ما بناه عبد الناصر وخطط له.
ما كان غريبا، إذن، أن يتحول عبد الناصر إلى رمز أسطوري في الوجدان الجمعي العربي، طوال سنوات عمره القصير وبعد رحيله. ولا كان غريبا أن تبكيه الجموع حين رحل في مأتم ملايين، وأن يتملكها الشعور – الذي لم ينقطع بعد – باليتم الجماعي؛ فلقد كان أبا جماعيا بامتياز، وكذلك سيبقى في الذاكرة القومية. نافذة:
قائد هذه الثورة ومنظرها وصانع فصولها الملحمية ومكتسباتها لم يكن سياسيا عاديا، كما ثورته لم تكن عادية؛ كان من كبار قادة العالم الأفذاذ: بصدقه، ودأبه، ومبدئيته، وحنكته السياسية، وصراحته مع شعبه وأمته. ومن ذلك كله اكتسب مهابته وكاريزماه