شوف تشوف

الرأي

في ذكرى ليلى سعيد

ماتت زوجتي ليلى سعيد قبل عشر سنوات، في 7 سبتمبر عام 2005م. لقد مرت أمور كثيرة. أعرف تماما مشاعرها وهي ترى ألوف اللاجئين يتدفقون عبر غابات صربيا والمجر الغجر، واعتقال مئات آلاف السوريين بيد نظام جهنمي، ومقتل ربع مليون ويزيد، وإعاقة مليون، ونزوح 11 مليونا من البلد.
أعرف مشاعرها وهي ترى الدم يغسل مرافق سوريا، كانت رقيقة المشاعر روحها من السلام وإلى السلام تعود. أعرف مشاعرها وهي ترى أهلها يغادرون قريتهم الجميلة «بير عجم» والاقتتال يحتدم وأخوها يقتل بيد القناصة. ربما حسنا أنها مضت إلى الله ولم تر كل هذه المناظر فتعتصر من الهول.
ماتت في ساعة من نهار بدون علة. سقطت إلى وهدة الأرض فأحبتها الأرض، ورحبت بها وضمتها في عناق أبدي، وودعتنا إلى الأبد. وهنا عرفت معنى الأبدية مع موت ليلى سعيد.
إنه الوداع الخالد؛ فلا حديث ولا رؤية إلا في منام.
إن الكلمات لم يعد لها معنى، ولكن لم يعد لنا إلا الكلمات أيضا.
في 7 سبتمبر يوم الأربعاء صباحاً من عام 2005م كانت زوجتي ليلى سعيد داعية اللاعنف، على موعد مع ملك الموت بدون إذن وزيارة وتخطيط وإعلام. لم تكن تشكو من شيء، كانت تمشي يوميا أكثر من ساعة مثل الغزال الرشيق، في قمة اللياقة البدنية والعقلية واستيعاب الفكر العالمي والعطاء الأخلاقي والفكري، جسمها بديع، وجمالها قوقازي باهر، وخلقها رفيع، وعطاؤها بغير حساب، تخدم كل من حولها، ولا تطلب من أحد خدمة. شخصيتها طاغية، تذكرني بقصة (قرة عين) التي وصفها علي الوردي أنها كانت تجمع أربع خصال لو كانت واحدة في بنات جنسها لكفت: الفصاحة والخطابة، والجمال الباهر، والشخصية الكارزمائية، والذكاء اللامع والثقافة العالمية.
كل هذا كان في ليلى سعيد وأكثر. كانت نسخة أنثوية عن داعية السلام جودت سعيد.
سقطت إلى الأرض فجأة فلم تنهض إلا إلى فراش الموت، ومضت خفيفة كما كانت خفيفة في كل حياتها، ولكن الفراغ الساحق الذي تركته خلفها كان لنا ثقباً أسود يشفطنا إلى وادي الدموع والأحزان.
كانت صدمة الموت مروعة، وفجأة اكتشفنا هوة غير متوقعة بين أقدامنا تهددنا كل حين، واكتشفنا كم الحياة هشة ضعيفة وقصيرة. لأول مرة أحسسنا على نحو جدي بانعدام الأمن على الأرض وأن الآخرة خير وأبقى يدخلها المؤمنون بسلام، فلا سلام ولا خلود ولا راحة إلا هناك.
وهنا اكتشفنا القرآن من جديد فكل مظاهر الطبيعة وكل قصص الأنبياء وأقوامهم والصراعات ، كلها كانت تحوم وتخلص وتنتهي بفكرة العودة والخلود، لا ريب فيها.. كذلك النشور.. كذلك تخرجون.. كذلك تبعثون..
في الواقع لم يبدأ القرآن في بث أفكاره إلا بعد تخليص الضمير وتصفيته من قضية الموت قبل أن يبدأ رحلة الحياة.
والحزن يأتي من المساحة التي يحتلها العزيز، فقد لا يحزن الإنسان على أمه التي ولدته، كما يحصل في موت صديق عزيز غال على النفس، فالعلاقة الثقافية هي التي تحدد كثافة الحزن وعمقه وحدته.
والموت يبقى مسألة ثقافية عاطفية، ويبرز كجدار غير قابل للخرق، غير قابل للتفسير.. ويأتي الدين فيعطي العزاء والجواب النهائي المحدد، أما الفلسفة فتسبح في الشكوك، أما العلم فلا يملك الجواب أصلا على هذه الظاهرة المدمرة والنكبة الماحقة.
هنا فهمنا لماذا حافظ الصحابة على جثة النبي ثلاثة أيام بدون دفن، مع أن مسألة الخلافة السياسية كانت قد حسمت؛ فلم يستوعب أصحابه أن هذا الرجل النبيل العظيم الذي عاش للفكر، وأشاع السلام، وعمم وربى على الخلق العالي، والفضيلة بدون حدود، وأعطى معنى للحياة لمن حوله، كيف ينتهي هكذا في قمة اللياقة البدنية والعطاء في عمر 63 سنة، وهي نفس السن الذي ماتت فيها ليلى سعيد. ونفس الشيء حصل لمدام كوري حين دهست عربة طائشة زوجها بيير فوضعته لثلاثة أيام تنظر إليه وهي لا تكاد تصدق حتى دفنته في التراب وغرقت هي في بحر من الدموع. وأردت أن أفعل نفس الشيء مع ليلى فأضعها أمامي الأيام ذوات العدد حتى أستوعب، حتى أصدق.. ولكن حيل بيننا وبين ما أردنا؛ فالموت في كندا تتلقفه أيادي المؤسسات، ثم تغسل الجثة بأيدي الجاهلات، ثم تدفن في حراسة متشددين غلاظ ربما لم يكتشفوا كوكب الحب بعد، ولم يمارسوه، ولم يطؤوا عتبة معبد الحب بعد ولم يصلوا فيه ويخشعوا، وقد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون. ربما لم يذوقوا معنى الرحمة التي بشر بها رسول الرحمة، وأنا أعذرهم كما جاء في قصة رسل أثينا إلى ملك الفرس حين طلبوا منهم أن يكونوا عبيدا للمولى الفارسي فقالوا لهم مشكلتكم أنكم لم تذوقوا الحرية بعد ولو ذقتم لعرفتم وقاتلتم عنها بأظافركم وأسنانكم.
إن هذا المعنى الذي تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم لذكر الله، هو الذي كان الصوفيون يقولون عنه من لم يذق لم يعرف. فالحب والحرية وفيض السعادة معان تتدفق لأناس جاهدوا في الله حق جهاده.
موجة الأصولية التي زحفت إلى أرض الحريات والضمانات في كندا شوهت معاني الإنسانية، ومنها عبادة الطقوس حين منعت بناتها من المشاركة في دفنها، بدعوى من أحاديث ما نزل الله بها من سلطان، من ثقافة مشبوهة كتبت في ظروف مشبوهة.
وعندها استوعبت لماذا لقن الأمام ابن حنبل ابنه خمسة آلاف حديث ليقول في النهاية إنها كلها كذب في كذب من صندوق باندورا للشرور.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى