شوف تشوف

الرئيسيةثقافة وفن

في خطاب المقدمات

تقديم وإعداد: سعيد الباز
تعدّ المقدمة عنصرا من عناصر العمل الأدبي، رغم أنّ القارئ في العادة قليل الالتفات إلى أهميتها، أو على الأقلّ لا يعي بالضرورة دورها ووظيفتها. ومن جهة أخرى تتعدد التسميات المرتبطة بشكل عام بخطاب المقدمات من تمهيد أو استهلال إلى التوطئة أو الافتتاحية أو التصدير… بحسب الغايات والأهداف التي تتوخاها هذه المقدمات. من الواضح أنّها في الغالب، وفي مختلف أشكالها من ترجمة إلى نصوص إبداعية، تستهدف بالدرجة الأولى تقديم إضاءة للنص الأدبي أو مدّه بقراءة أولية من خلال اقتراح بعض مفاتيح القراءة تسعى من ورائها إلى تنوير القارئ أو تذليل بعض الصعوبات والإشكالات، وفي أحيان أخرى تعمل على استيعاب سياقاته الأدبية على الخصوص أو التاريخية والمعرفية بشكل عام. في مقدمات أخرى نصادف نوعا مختلفا، حيث يقدّم فيها كاتب غيره من الكتاب، في صنف معين من الكتابة الأدبية، لغاية التنبيه إلى أهمية هذا العمل الأدبي وضرورة قراءته على ضوء مجموعة من المقومات الفنية والأدبية التي يحاول إبرازها والوقوف عند دورها الأساسي في تشكيل عوالمه الفنية والجمالية.
الشاعر والمترجم اللبناني إسكندر حبش في ترجمته لشذرات الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا «لست ذا شأن» يحاول من خلال مقدمته للكتاب أن يفسّر هذه الظاهرة الشعرية الغريبة لشاعر نُشرت تقريبا كل أعماله الأدبية المهمة بعد وفاته، وجلّها تحمل أسماء بديلة عن اسمه الشخصي. في حين يعمد الشاعر اللبناني أنسي الحاج في ديوانه الشهير «لن» إلى وضع مقدمة أساسية اعتبرت منذ ذلك الحين بمثابة أوّل بيان شعري لقصيدة النثر العربية. أمّا الكاتب والمترجم المغربي إبراهيم الخطيب فقد أبرز في مقدمته المهمّة لترجمة مجموعة من قصص الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس تحت عنوان «المرايا والمتاهات» مدى خصوصية العمل القصصي لديه، واهتماماتها الأساسية ومكوناتها الفنية والجمالية.
وفي الأخير نجد مقدمة الشاعر العراقي سعدي يوسف للديوان الأول للشاعر الأردني الراحل أمجد ناصر «مديح لمقهى آخر» استطاع فيها وبشكل مبكّر جدا أن يتنبأ بمساره الشعري، وبأشكاله التعبيرية التي ستتبلور لاحقا في أعماله الشعرية، محتفظة مع ذلك بمادتها الأساسية والجوهرية المرتبطة بعوالم متناقضة من عشائر البدو إلى مدن المنفى والمهاجر البعيدة… سمتها الأولى روح التمرّد من جهة، والحلم المتفجّر حزنا وإحباطا من جهة أخرى.

إسكندر حبش.. مقدمة عن فرناندو بيسوا
هل نستطيع بعد، أن نتخطّى فرناندو بيسوا؟ من منّا لم يقرأ له قصيدة، ولو مترجمة، وفي لغة غير لغته الأصل، البرتغالية؟ من منّا لم يقرأ مقالة عنه؟ حتّى وإن لم نفعل ذلك، من منّا لم يسمع بعد باسمه، أو لم يشاهد صورته على غلاف كتاب أو في جريدة وهو يتنزّه أو يحتسي كأسا في مقهاه المعتاد «البرازيلييرا» أو هو شارد في البعيد يتأمّل، كأنّه يتأمّل هذه «الحيوات» الكثيرة التي اخترعها.
هذا الرجل الذي «شدّ إبليس من ذيله» يرتاح اليوم في صومعة «جيرونيموس» بين «كاموينش» و«فاسكو دي غاما». إنّه هذا «الليشبوني» الذي كتب عن مدينته، الذي جعلها مثالية بعض الشيء، مثلما يجعل المرء والدته رمزا لهذه المثالية، يقول: «أنا الشوارع الخلفية لمدينة غير موجودة، أنا التعليق المهذار لكتاب لم يكتبه أحد مطلقا».
فرناندو بيسوا أصبح في فضاء العقود الأخيرة أحد أكبر كتّاب العصر. هذا أقلّ ما يمكن أن نقوله عن هذا المصير الذي لقيه بعد موته والذي يشهد على ذلك. يكفي أن نذكر بعض الأحداث: لم تكتشف «مخلّفات» بيسوا (بأكملها) إلّا في العام 1968 أي بعد أكثر من ثلاثين سنة على موته، أي لم تكتشف هذه «الحقيبة السحرية» حيث كان يراكم مخطوطاته (بالأحرى الكتب، إذ لم ينشر وهو على قيد الحياة إلّا هذا الكتاب الصغير الذي أعطاه عنوان «رسالة»، وهو عبارة عن «ملحمة وجدانية في مجد البرتغال» ماضيا وحاضرا). أمّا الطبعة البرتغالية من «كتاب القلق» فتعود فقط إلى العام 1982. في حين أنّ «فاوست»، وهو كتاب يشكّل أيضا إحدى قممه الأدبية، فلم ينشر في البرتغال إلّا في العام 1982 أيضا.
من هنا تجيء الوثائق الكثيرة -27423(نصا)- التي تؤلّف جلّ عمل الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا، لتكتشف بعد رحيله في العام 1935. لذلك ما من فترة تمرّ إلّا ويطفو على السطح، وجه جديد من وجوه هذا الشخص الذي أراد أن يكون وحده كلّ الحركة الأدبية البرتغالية الحديثة. يبدو انبثاق بيسوا اليومي وكأنّه مصنوع من أمكنة وصداقات ولقاءات ومن حقبة تاريخية تجتازه وتعنيه بشكل كبير، إذ إنّه وعلى طريقته الخاصة، يلتزم بها.
الحياة الحقيقية عنده، وهي التي كانت مزيجة من ذكريات وأزمات، تبدو كأنّها «حوليات التخييل»: «حوليات الحياة التي تمرّ» (بحسب عنوان أحد كتبه) وهي الحياة الهشّة، فريسة الاحتمالات والعوارض، كما هي حوليات حياة كان باستطاعتها أن تنسى هذه «الحقيبة»، الثقافية جدّا، المليئة بالمخطوطات غير المنشورة أو هذه «الحقيبة المليئة بالناس» على حدّ قول الروائي الإيطالي أنطونيو تابوكي.
فرناندو بيسوا «العلّامة» في حالته الصافية، هو أيضا، الحياة في حالتها الخام. كان العاشق المجنون لأوفيليا، كانت في التاسعة عشرة وهو في الواحدة والثلاثين، وقد انتهى به الأمر بأن فقدها «لأنّ قدره يقوم على قانون آخر».
أكنّا مخطئين في ذلك أم على صواب، تكشف لنا اليوم زيارة بيسوا مجدّدا، أنّ هذا الشخص، كان تقريبا إنسانويا كبيرا، إذ يتبدّى ذلك عبر حزنه المتعذر سبره كما عبر وعيه الثقيل جدا على الحمل، وعبر هذا الغمّ الذي قصف حياته «إلى ألف جزء» والذي جعله يعترف بالقول: «أغتاظ. أرغب في فهم كلّ شيء، معرفة كلّ شيء، إكمال كلّ شيء، قول كلّ شيء، التمتّع بكلّ شيء، التألّم من كلّ شيء. نعم، التألّم من كلّ شيء. لكن لا شيء من هذا كلّه، لا شيء، لا شيء. أنهكتني فكرة ما أرغب في الحصول عليه، ما أستطيعه، ما أحسّه. حياتي حلم كبير».
… كان فرناندو بيسوا يقول إنّه «ليس ذا شأن». ربّما لأنّه لم ينشر في حياته سوى القليل القليل. لكن بعد موته، عُثر على تلك الحقيبة التي عرفت شهرة واسعة، بقدر صاحبها، إذ كانت تحتوي على عدد كبير من المخطوطات غير المنشورة.
(مقتطفات)

أنسي الحاج.. مقدمة ديوان «لن»
هل يمكن أن نخرج من النثر قصيدة؟ النثر محلول ومرخي ومبسوط الكفّ، وليس شدّ أطرافه إلّا من باب التفنن ضمنه. طبيعة النثر مرسلة، وأهدافه إخبارية أو برهانية، إنّه ذو هدف زمني، وطبيعة القصيدة شيء ضدّ. القصيدة عالم مغلق، مكتفٍ بنفسه، ذو وحدة كلية في التأثير، ولا غاية زمنية للقصيدة.
النثر سرد والشعر توتر، والقصيدة اقتصاد في جميع وسائل التعبير. النثر يتوجّه إلى شيء، يخاطب وكلّ سلاح خطابي قابل له. النثر يقيم علاقته بالآخر على جسور من المباشرة، والتوسّع، والاستطراد، والشرح، والدوران، والاجتهاد الواعي –بمعناه العريض- ويلجأ إلى كلّ وسيلة في الكتابة للإقناع. الشعر يترك هذه المشاغل: الوعظ والحجة والبرهان… إنّه يبني علاقته بالآخر على جسور أعمق غورا في النفس، أقلّ تورطا في الزمن الموقت والقيمة العابرة، أكثر ما تكون امتلاكا للقارئ، تحريرا له، وانطلاقا به، بأكثر ما يكون من الإشراق والإيحاء والتوتر.
أمّا القصيدة فهي أصعب مع نفسها من الشعر مع نفسه. القصيدة لتصبح هكذا، يجب أن نقوم على عناصر الشعر لا لتكتفي بها وإنّما لنعيد النظر فيها بحيث تزيد من اختصارها وتكريرها، وشدّ حزمتها. القصيدة لا الشعر، هي الشاعر. القصيدة لا الشعر، هي العالم الذي يسعى الشاعر بشعره إلى خلقه. قد يكون في ديوان ما، شعر رائع ولا يكون فيه قصيدتان، بل يكون كلّه قصيدة واحدة. فالقصيدة العالم المستقل الكامل المكتفي بنفسه، هي الصعبة البناء على تراب النثر، وهو المنفلش والمنفتح والمرسل، وليس الشعر ما يتعذر على النثر تقديمه. فالنثر منذ أقدم العصور وفي مختلف اللغات يحفل بالشعر حفلا إذا قيس بشعر النظم يغلب عليه. النثر تقول العرب، خلاف النظم من الكلام. النثر يقول الفرنجة، كلّ ما يقال ويكتب خارج النظم. القصيدة من أبيات، بل يذهب العرب إلى الاشتراط: ما فوق السبعة أو العشرة أبيات، والتحديد الكلاسيكي للقصيدة عند الفرنسيين هو أن تكون مجموعة كبيرة من الأبيات.
بكلمة: النثر خلاف الشعر (لأنّ الشعر لا القصيدة وحسب، هو النظم في نظر التقليديين) والقصة وهي كائن نثري، خلاف القصيدة التي هي كائن شعري. وهنا يبدو البحث في قصيدة النثر هذيانا.
هل يمكن أن نخرج من النثر قصيدة؟ أجل، فالنظم ليس هو الفرق الحقيقي بين النثر والشعر. لقد قدمت جميع التراثات الحيّة شعرا عظيما في النثر، ولا تزال. وما دام الشعر لا يعرف بالوزن والقافية، فليس ما يمنع أن يتألّف من النثر شعر، ومن شعر النثر قصيدة نثر. لكن هذا لا يعني أنّ الشعر المنثور والنثر الشعري هما قصيدة نثر. إلّا أنهما، والنثر الشعري الموقع على وجه الحصر، عنصر أوّلي في ما يسمى قصيدة النثر الغنائية. ففي هذه لا غنى عن النثر الموقع. إلّا أنّ قصيدة النثر ليست غنائية فحسب، بل قصيدة نثر «تشبه» الحكاية، وقصائد نثر «عادية» بلا إيقاع كالذي نسمعه في نشيد الإنشاد (وهو نثر شعري) أو في قصائد شاعر كسان جان بيرس. وهي تستعيض عن التوقيع بالكيان الواحد المغلق…
التأثير الذي تبحث عنه ينتظرك عندما تكتمل فيك القصيدة، فهي وحدة متماسكة لا شقوق بين أضلاعها، وتأثيرها يقع ككل لا كأجزاء، لا كأبيات وألفاظ. ومن هنا ما قاله إدغار ألن بو عن القصيدة (أي قصيدة) إذ أنكر عليها أن تكون طويلة. إنّ كلّ قصيدة هي بالضرورة قصيرة، لأنّ التطويل يفقدها وحدتها العضوية. وهذا ينطبق أكثر ما ينطبق في النثر، لأنّ قصيدة النثر أكثر من قصيدة الوزن في حاجة إلى التماسك، وإلّا تعرضت للرجوع إلى مصدرها: النثر. والدخول في أبوابه من مقالة وقصة ورواية وخاطرة…
(مقتطفات)

إبراهيم الخطيب.. مرايا ومتاهات بورخيس
لا تستطيع المعلومات المعروفة عن حياة خورخي لويس بورخيس أن تبرّر لنا السبب في كونه خلق آثارا أدبية لا نظير لها. وربّما كانت أكثر خصائص كتاباته إدهاشا هو ردّ فعلها العقلي المتطرف على كلّ فوضى الواقع المباشر وعرضيته، وإلحاحها الجذري على تمزيق الصلة بالعالم المعطى، واقتراح عالم بديل. لقد استعمل بورخيس ذهنه الغريبَ الموهبةِ لصياغة نظام، وذلك عن طريق ما سماه (ييتس) بـ«آثار العقل التي لا تشيخ». وكان رَيْبِيّاً أكثر من أي كاتب آخر حول القيمة النهائية للفكر المحض والأدب الخالص. غير أنّه جاهد في تحويل هذه الرًّيْبِيًّةِ إلى منهج ساخر، يُقِيمُ من عدم الاعتقاد منظومةً جماليةً حيث ما يهم ليس الأفكار في ذاتها وإنّما أصداؤها وما توحي به.
… تهتم قصص بورخيس دائما بسيرورة البحث التي تؤدي إلى الاكتشاف وعمق النظر: وتُنْجَزُ هاتان الغايتان أحيانا بصورة تدريجية، وأخرى بشكل مفاجئ، لكنّهما تُنْجَزَان دائما تحت تأثير فعل محيّر. يتعلق الأمر، في الواقع، بحكايات فانطاستيكية، تتّسم بالمغالاة، بيد أنّها لا تكتفي أبدا بالتخييل في معناه البسيط والسهل. ذلك أنّ عمق النظر الذي توفّره هو عمق نظر ساخر وشجيّ: إنّه إحساس مؤلم بحدود لا مفرّ منها، تقف حاجزا دون أيّ طموح. إنّ بعض هذه السرود القصصية (على سبيل المثال: بيير مينار، كاتب الكيخوطي) يمكن تسميته «أشباه –مقالات» حيث تكون الحبكة تلاعبا بالخلق والنقد والكتابة. غير أنّ جميع قصصه، ومهما كان شكلها الظاهر، تتوفر على نفس البعد النقدي الذاتي. وإلى جانب «أشباه –المقالات» هذه، وهي تركيبات عمودية، هناك محكيات أفقية على نحو ما نجده في قصص المغامرات أو البحث في الجريمة (وهما نمطا القصة المفضلين عند بورخيس). وفي هذا الإطار نجد التحولات غير المنتظرة التي تضلّل المتوقّع، وتتكشف الوقائع الخفية من خلال آثارها المتباينة. فعلى نحو ما فعل (تشسترتون) من قبل، حين ابتكر قصص «الأب براون» واسطة للتعبير عن لاهوتيته الكاثوليكية، استعمل بورخيس تقنية اللغز، وحبكة التكرار اللامتناهي، وتأثير المفاجأة في الأدب، لإنجاز الدهشة إزاء العالم. إنّ أشكال بورخيس تذكّر، غالبا، بأشكال (سويفت): نفس الجدية وسط اللامعقول، ونفس الدقة في التفاصيل. وللبرهنة على اكتشاف مستحيل، يتبنى بورخيس نغمة الكاتب المتبحّر مازجا بين الكتابات المتخيّلة والمصادر الحقيقية العالمة. وعوض تحليل كتاب حقيقي، قد يكون مملا، فإنّه يعمد إلى تحليل كتاب لم يوجد قطّ.
… يمكن لقصص بورخيس أن تبدو أشبه بألعاب شكلية، أو تجريبات رياضية، خالية من أيّ حسّ بالمسؤولية الإنسانية ولا صلة لها حتّى بحياة الكاتب. بيد أنّ العكس أيضا صحيح، ذلك أنّ إلحاحه المثالي على المعرفة والنظر العميق (اللذين يعنيان العثور على نظام التحوّل إلى جزء منه) له دلالة خُلُقية محددة، وإن كانت هذه الدلالة، بالنسبة له، مزدوجة: فَخَوَنَتُهُ هم دائما أبطال على نحو ما. وكلّ أوضاعه القصصية، وشخصياته، هي في العمق أوضاع وشخصيات أوتوبيوغرافية، وانعكاسات أساسية لتجاربه ككاتب، وقارئ، وكائن إنساني (منقسم، حسب عبارته: «بورخيس وأنا»). إنّه الحالم الذي يعرف أنّه المحلوم به، ومفتش الشرطة الذي يُخَيِّبُهُ النموذج الخفي للجرائم، وابن رشد الذي تعكس جهالتُه جهالةَ الكاتب في رسم صورة شخصية له. غير أنّ كلّ واحد من هذه الأخطاء الذاتية يتمّ تحويله إلى ظَفَرٍ فنيّ نادر المثال. على أنّه يمكن التساؤل عن جدوى كلّ ذلك. وهنا يبدو أنّه لا مفرّ من القيام بمقارنة بين بورخيس و(سرفانتيس)، رغم عدم التشابه الظاهر بينهما (وإن كان اسم هذا الأخير لا يَرِدُ اعتباطا في قصص الأول ومقالاته). إنّ قصص بورخيس، على نحو قصة «ضون كيخوطي» الهائلة، تتولد من مواجهة عميقة بين الأدب والحياة. هذه المواجهة التي ليست فقط المشكل المركزي لكلّ أدب، وإنّما المشكل المركزي لكلّ تجربة إنسانية.
(مقتطفات)

سعدي يوسف.. تقديم «مديح لمقهى آخر»
… هذا البدوي القادم من مضارب عشيرة «الحويطات» كم هو شفاف ! إذا أخذنا بمقولة إن الشعر لا يحلل ولا يفسر، بل يستسلم له كما يستسلم الجسد لشلال في يوم صائف، فإنّ لشعر أمجد ناصر دفقة الشلال على الجسد، لكن له رعشة الصقيع الحادة.
يتراءى لنا في هذا الشعر البدائي حالة البدوي المنحدر مع الإبل صوب الحجارة الكبيرة. البدوي المتعطش للعشب والماء، وفي انحداره صوب مدن الإسمنت والضوضاء والعشق والمسرات المنتظرة، يحمل في دمه هجير الصحراء ورمالها، ورائحة البدو وقهوتهم، وأصداء المذابح والثارات القديمة.
إنه يحمل فوق كتفيه أشجار الزمن القديم ورموزه الأسطورية والوثنية، لا ليمجدها إنما ليتطهر منها. إنّ لغته الشبيهة بصهيل الخيل مرة، وحفيف أجنحة القطا في الصباحات الندية مرة أخرى، تعلن بقوة تمردها وانفصامها عن الروح القديمة التي تسكن طوطم القبيلة.
في هذا العبور التطهيري، الأرسطي، للأرض المغلفة بالدم والظلام يتقدم الشعر فوق خط الصراط، طائرا منذرا بالموت والرعد معا…
في شعر أمجد ناصر، الرمادي والأحمر، نسمع نبرة هذا النذير الوحشي المحمول من فضاءات الصحاري والمصطدم بجدران المدن العالية.
إنّه الحلم الذي ينفجر بالحزن والدم والإحباط، ومن شظاياه بتوهج الشعر.
سعدي يوسف

ثلاث قصائد إلى سعدي يوسف
الشعر:
إنّي أبدأ الأغنيةْ
بالملامةِ
بالقليل من الخمرِ
أو بالتهكّمِ من لهجتي البدويةِ
لم تبق للقادمينَ من الشعراء،
ولي
غير نافلةٍ من كلامٍ
وشبرين من آخر الماء:
أغلقتْ في وجهنا القنطرةْ
«فها نحن نشقى»
بأوجاعنا اللغوية
نشقى لأنّ القصائدَ
لا تطفئُ الأسئلةْ
ونشقى لأنّ القصائدَ
لا تبلغُ المرحلةْ
وهاذي قصائدنا ورقٌ ناشفٌ في الحلوقِ

الرصاص:
دائما
مثلما تكتبُ الشعرَ
لامرأةٍ في جنوب العراقِ
لها غرةٌ كالخيول الصغيرة
(أنت قاسمتها حزنها
والسجائر
في لحظة الاشتباك
مع السفر المغربي)
تجيءُ الرصاصاتُ
أقربَ للقلبِ
من جهة الأنظمةِ:
تكونُ الرصاصاتُ
في شارعٍ منتحٍ لليمين،
تظلله الخطواتُ التي لونها
واقعٌ في الغموضِ
والرصاصاتُ في سترهٍ
أنت تعرفُ صاحبها جيّدا.

الذهب:
بأيدٍ توهّج فيها الذهبْ
يحملون الحقائبَ.
جلدُ الحقائبِ،
ينبتُ فوق ظهورِ الجياد.
وهم يقتلون الجيادَ
لصنع الحقائبِ والقبعاتِ.
بيروت 3/ 1978
أمجد ناصر (مديح لمقهى آخر)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى