شوف تشوف

الرأي

في حدود موضوعية المعرفة

عبد الإله بلقزيز

عُد العلم، باستمراره، ذروة المعارف وأعلاها يقينا. ذلك ما وقر في الأذهان منذ أن تراجع اليقين بالعلم النظري الفلسفي المجرد، وتراجع بريق طرائقه المنطقية الاستنباطية والتحليلية أمام الاختبار التجريبي. حتى العلوم الاجتماعية والإنسانية التي نشأت من انفصالها عن الفلسفة، بدءا من القرن التاسع عشر.
سعت في محاكاة العلم التجريبي والرياضي في طرائقه ومناهجه وأدواته، كي تكون نسخة أخرى منه في مجال دراسي مختلف.
وما كان مستغربا أن تفشو الوضعانية Positivisme في العلوم الاجتماعية والتحليل الاختباري السريري في علم النفس، ولا أن ينحو العلم الاقتصادي والعلم الديموغرافي منحى رياضيا رقميا واقتصاديا (وقس على ذلك في علوم أخرى)؛ ذلك أن النموذج المعرفي الذي بنت على منواله هو العلم التجريبي بمناهجه والمبادئ التي عليها قام؛ وأولها موضوعية النتائج المعرفية التي يبنيها ويبلغها.
وإذا كانت موضوعية المعرفة العلمية ما يسمح لهذه الأخيرة بصوغ قوانين علمية؛ أي باكتشاف القوانين الحاكمة للظواهر والتعبير عنها في شكل قوانين علمية، فإن تحقيقها الموضوعيةَ هذه وحده الذي يسمح لها بتأكيد مبدأ الحتمية: حتميةَ النتائج المتولدة من ذات الشروط العلمية الموضوعية؛ إذ لا حتمية من غير موضوعية. ومن الطبيعي لعلوم الإنسان والمجتمع، المشغولة بفكرة التوقع والحريصة على علمية ذلك التوقع ومطابقة النتائج له، أن تنشد في عملها مبدأ الحتمية بما هو المبدأ الذي يشهد لنتائج المعرفة بموضوعيتها.
على أن معتقد Dogme الموضوعية، عند العلماء، لم يكن أكثر من مَزْعمة في تاريخ العلم – خاصة في لحظة من هذا التاريخ لاحقة – حتى وإن هو (مبدأ) أقام بعض الدليل العلمي على صحته وجدواه في مراحل أولى من البحث العلمي الطبيعي لم تكن قد تبينت فيها أزمته الإيبيستيمولوجية بعد. حين ولج العلم التجريبي طورا نوعيا متقدما – في الفيزياء خاصة – مع اكتشاف جزيئات الذرة من نواة ومن إلكترون يدور حولها؛ وحين استخدم الضوء في قياس سرعة الإلكترون الخارقة، تبين أن سرعته تتعدل ما إن يبدأ في استقبال شحنات الضوء. والنتيجة أن السرعة التي يصار إلى قياسها بالضوء لا تكون هي عينها سرعته الطبيعية، وبالتالي ينتقض بذلك مبدأ موضوعية نتائج الاختبار العلمي. أما انتقاض الموضوعية تلك فمرده إلى تدخل الذات العارفة في الموضوع من طريق إعمالها القياس الضوئي في الظاهرة المدروسة. هكذا أتت هذه السابقة – وقد سميت بأزمة الفيزياء الدقيقة – تُؤْذِن بإطاحة لمبدأ الأساس الذي عليه مبنى الاعتقاد العلمي، وتكرس حقيقة امتناع الموضوعية في المعرفة.
حصل الامتناع عينه في علم الرياضيات: في الهندسة التي لم يعد نسقها الأقليدي وحده المتمتع باليقين؛ وذلك مع ظهور هندسات أخرى موازية اصطلح عليها باسم الهندسات اللا أقليدية تتمتع، هي الأخرى، بالقدر عينه من اليقين. أما السبب ففي تحطيم فكرة البداهة والاستعاضة عنها بالمسلمة (أي القضية العقلية غير البديهية ولكن التي يُحتاج إليها لبناء نظام رياضي عليها)، وفي تحرير فكرة المكان الهندسي من تجريديته وما استجره التحرير ذاك من إعادة نظر شاملة في كل حدود الهندسة ومفاهيمها. وقد تعرض مفهوم البداهة، ثانية، إلى تحطيم بمناسبة ظهور نظرية المجموعات الفرعية التي سقطت معها، مثلا، البديهية التقليدية: الكل أكبر من الجزء. هكذا صحا العلم الرياضي المعاصر، شأنه في ذلك شأن العلم التجريبي، على مشهد إيبيستيمولوجي جديد قَوامه انهيار فكرة اليقين الرياضي الذي عد دائما، حتى بالنسبة إلى علوم الطبيعة، أعلى مراتب اليقين. أصبح النظام الرياضي، منذ ذلك الحين، نظاما أكسيوميا أي قائما على أساس فرضي – استنباطي: يقاس صدق نتائجه لا بمطابقتها للبداهات
(= القضايا العقلية والواضحة بذاتها)، بل بتماسك نتائجها مع النظام الفرضي الذي بنيت عليه.
حين يكون مطلب الموضوعية في العلم عَسِرًا – وهو شرط علميته – فكيف سيكون عليه حال هذا المطلب في ميادين أخرى تنتمي إلى الفكر النظري، مثل الفلسفة، أو إلى الاجتماعيات والإنسانيات مثل علوم الاجتماع والتاريخ والنفس والسياسة والاقتصاد…إلخ، أي في الميادين العلمية التي لا يُضمَن فيها الحياد الكامل للذات الدارسة تجاه موضوعها المدروس؟ وربما بات هذا الاحتراز من الانسياق وراء فكرة الموضوعية في الفكر – وفي العلوم الإنسانية والاجتماعية خاصة – من أبجديات النظر النقدي إلى إشكاليات المعرفة، في عالمنا المعاصر، لا تشذ عنه سوى النزعة العلموية في الفكر!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى