شوف تشوف

الرأيالرئيسية

في ثنائية الأنـا/ الآخـــر

الأنا والآخر مفهومان فضفاضان يعبران عن تمثلات ذهنية يكونها الأفراد – كما تكونها الجماعات – عن ذواتهم/ ذواتها وعن غيرهم/ غيرها، كلما كان لذلك الغير شكل ما من الحضور في وعي هؤلاء الأفراد أو تلك الجماعات، حضورا ذهنيا صرفا كان أو معززا بوجود مادي قائم في الحاضر.

مقالات ذات صلة

ويُرْكَـن إلى تلك التمثلات أو يُـتَمَـسك بها – فتُـنْتَحَل بوصفها اعتقادات جازمة وموجهة للسلوك – كلما تداعت العلاقة (بين الأنا والآخر) على الذهن، وخاصة كلما شهدت على حال من التأزم بين حديها إلى حد يقود فيه التأزم ذاك إلى هجس مستمر في الوعي بها، وبالآخر في تلك العلاقة على نحو خاص.

وقد يحصل أن يتضخم التفكير من داخل هذه الثنائية حين تستحيل هذه – لسبب من الأسباب- ثنائـية تقاطبية؛ وحينها يصير تضخم التفكير ذاك حالا مرضية لا تؤدي صاحبها إلى إدراك ما تستقيم فيه صورة المُدْرَك. والغالب على مثل هذا التضخم المرضي أنه يقع كلما عرضت لطرفي العلاقة حالة من حالات الصدام المادي- الذي تدعو إليه المصالح والمباينات والتناقضات بينها – أو الصدام الرمزي، الذي كثيرا ما تتغذى أسبابه من معين المتخيل الجماعي ومخزونه من الصور النمطية التي تحملها كل جماعة عن آخرها. وفي مثل هذه الأحوال يتحول التقاطب ذاك إلى إنكار متبادل وعدوان متبادل، من غير أن ننسى ما يقترن بهما من ظواهر مرضية عدة، من قبيل التشرنق على الذات والانسحاب إلى كهوفها وشيطنة الآخر… إلخ.

وعلى ذلك، يسعنا أن نلحظ، بقدر من الوضوح كاف، أن مفهومي الأنا والآخر مفهومان متولدان، حُكْماً، من علاقة نزاعية أكانت مادية أو رمزية، واقعية أو خيالية، معلنة أو مضمرة، وأنهما – بالتالي- يدوران مع تلك العلاقة النزاعية صعودا وهبوطا، احتدادا وخفـوتا؛ فهي بيئتهما التي فيها تكونا وداخلها اشتغلا؛ وهي مرجعهما الذي إليه يَنْشَدّان ويمتحان وقودهما. على أن ما يؤسـس العلاقة بين المفهومين – في وعي حامليها – من ضروب التقاطب والتنابـذ والتلاغي سرعان ما تنتفي فاعليته وتمحي تماما، أو تخمد حدة في ما لو ارتفعت الأسباب الحاملة على توتير العلاقة تلك، أو تَزْنِيد حماوتها في وعي من يفكرون من داخلها.

من البين، إذن، أن العلاقة بين حدي الأنا والآخر قابلة لأن تكتسي أشكالا وهيئات مختلفة فتكون علاقة صراعية، في حين، وعلاقة تبادلية في أخرى، أو يتنابذ حداها ويتلاغيان، في حالات، أو يتولد من تفاعلهما جامع مشترك أو مساحة لقاء، في حالات أخرى. ومعنى ذلك أن التوتر والدعة والتنابذ والتفاعل والمضاربة والجدل… علاقات لا تأتي الأنا والآخر من داخلهما كثنائية، وإنما تأتيهما من شرطية تاريخية: اجتماعية أو ثقافية أو سياسية، قد تكون مزدحمة بعوامل الصراع والصدام، وقد تكون خِـلْواً من ذلك: كلا أو بعضا. وعلى ذلك فإن الصلة بين حدي الأنا والآخر، في أي وعي أو ثقافة، تدخل في علاقات متعددة ومتباينة تبعا لنوع الظرفية التاريخية التي يقع التفكير فيها بتوسل المفهومين، وتكتسي صورا مختلفة تبعا لمعطيات هاتيك الظرفية.

نـافلٌ، إذن، أن يقال إن أي تناول لاشتغال ثنائية الأنا والآخر في أي ثقافة، وتحليل مضمون الرؤى والتمثلات التي يـنـتجها فعل التفكـير بها، لا بد واجد نفسه مدعـوا – كي يكون دقـيقا وموضوعيا- إلى استصحاب عوامل التاريخ وآثاره في المجتمعات والثقافات، ومقادير ضغط معطياته على من يتبادلون التفكير في ذوات بعضهم. من دون وعي تاريخي بسياقات التعبير عن جدليات الأنا والآخر في أي ثقافة – وطبعا في أي عصر- لن يكون في مُكْـنة الدارس أن يهتدي إلى فهم دقيق لظاهرة التفاوت في كثافة التعبير عن علاقات الأنا بالآخر في الثقافات المختلفة، بل حتى للتفاوت في كثافة التعبير عنها في الثقافة الواحدة بين لحظة من تطورها التاريخي وأخرى. إن التاريخ، هنا، مفتاح للإدراك وليس مجرد مرجع للاستئناس به في درس المسألة؛ لأن إشكالية الأنا والآخر في قلب الإشكاليات الثقافية التي تولد وتنمو في التاريخ: تاريخ المجتمعات والأمم.

حين تكون ثنائية الأنا/ الآخـر تقاطبية – وهو الغالب عليها في تاريخ الثقافات –  كيف يسعُ المرء أن يبني معرفة بالعالم وظواهره والعلاقات، بالقدر الكافي من الموضوعية والرصانة، من  داخـل مثل هذه الثنائية (التقاطبية)؛ هل تفتح له (للتفكير) الإمكان أم تُغلقه عليه، ولماذا تفعل ذلك في الحالين؟ والحق أنه سواء كانت الثنائية المومأ إليها كابحة للمعرفة أو فاتحة لبعض إمكانها، يظل السؤال مشروعا عما إذا كان في الوسع تحويل الثنائية تلك – هي نفسها – إلى موضوعٍ للمعرفة، والفحص عن نوع المعرفة الذي يمكن أن يتولد من مقاربة مسألة من هذا القبيل ربما تضاءلت فيها المساحة المتاحة أمام الموضوعية في النظر، والفحص عما عساه يكون الأظهر في ما نكونه من وعي بها: المعرفي أو الإيديولوجي؟

عبد الإله بلقزيز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى