في تقرير تُنشر مضامينه لأول مرة مؤامرة 16 يوليوز المنسية بعيون «CIA»
«جلساتها التي انطلقت ما بين نونبر 1963 ومارس 1964، كانت موعدا لتفجير تناقضات في أقوال المتهمين والمتابعين. المحامون يمسحون الجبين المتصبب عرقا لمتابعة كل صغيرة وكبيرة. والمتهمون بالتخطيط لمؤامرة يوليوز 1963، التي قيل إنها استهدفت حياة الملك الراحل الحسن الثاني شخصيا، كانوا أعضاء وقياديين في حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية المعارض.
الأمريكيون، كما سوف نرى أثناء تقليب 12 صفحة من تقرير خاص صدر بالتزامن مع القضية، كانوا قلقين من أن يكون هؤلاء المتهمون متورطين فعلا في هذا النوع من التهم.. وتجند السفير نفسه لكي يسأل عبد الرحيم بوعبيد وتابع القضية بنفسه إلى أن صدر عفو عن المتهمين.. طويت الصفحة لكن التهمة لم تُطو، خصوصا وأن ضحاياها كانوا بالآلاف..»
يونس جنوحي
+++++++++++++++++++++++++++++++++
يوميات سفير الولايات المتحدة مع مؤامرة يوليوز 1963
لم يكن أي شيء يكدر صفو العلاقات الأمريكية- المغربية سنة 1963. تخلى المغرب رسميا عن اتفاقيات مع الاتحاد السوفياتي، وصار علنا أن الرباط حليف كبير للولايات المتحدة الأمريكية، وأبرمت صفقات بين البلدين أبرزها تزويد المغرب بطائرات أمريكية متطورة. الرئيس الأمريكي، جون كينيدي، أثنى على الملك الراحل الحسن الثاني، والسيدة الأولى في أمريكا – زوجة كينيدي- قضت عطلتها الخاصة في المغرب ولبت دعوات شخصيات مغربية وحضرت حفلات خاصة قبل أن تعود إلى واشنطن.
الملك الحسن الثاني نفسه زار كينيدي وخصص له الأخير استقبالا وصفته الصحافة الأمريكية بـ«الأسطوري»، حتى أن أشهر معالم واشنطن ونيويورك احتفلت بحلول الملك الحسن الثاني في شوارع العاصمة، واصطف الأمريكيون بالآلاف لرؤية الملك الشاب وهو يلوح بيديه من كرسيه في قلب السيارة المكشوفة التي أقلته من أمام قاعة كبار الزوار في المطار إلى البيت الأبيض.
في الرباط كان سفير واشنطن يراقب ما يقع عن كثب، ويتابع، حسب ما كشفه تقرير مفصل رفعت عنه السرية قبل أشهر، تحركات الشيوعية في شمال إفريقيا وأنشطة اليسار في الدول العربية.
كان هناك تخوف لدى واشنطن من أن يسير المغرب مع حلفاء الاتحاد السوفياتي الكبار، وهم مصر وسوريا ثم العراق لاحقا، والجزائر، آخر الملتحقين بالفريق بعد استقلالها عن فرنسا سنة 1963.
الاتحاديون المغاربة، رمز الأنشطة والأفكار اليسارية، كانوا، برئاسة المهدي بن بركة وعبد الرحيم بوعبيد وعبد الله إبراهيم وبقية أعضاء القيادة، يتجهون نحو الصدام مع السلطة، خصوصا عندما أعلنوا مقاطعتهم للاستفتاء على أول دستور للبلاد في محطة 1962، ووصفوه بالدستور الممنوح، واكتسحوا الانتخابات الجماعية والبرلمانية رغم اتهامات التزوير التي كالوها للنظام.
عندما حل يوليوز من سنة 1963، كان الاتحاديون يتجهون لقضاء فترة عطلة، مستحقة، للتحضير للدخول البرلماني، حيث سوف يمثل الحزب لأول مرة في البرلمان ويسائل الوزراء، الذين كان أغلبهم أعداء أيديولوجيين للحزب بكل ما تحمل الكلمة من معنى.
لكن، في عز اجتماع للجنة المركزية للحزب، بحضور 105 قياديين بارزين وأعضاء نشيطين لمتابعة أطوار الاجتماع، يوم 16 يوليوز 1963، طُوق المقر واعتُقل الحاضرون ووُجهت لهم التهمة التالية: «الاعتداء على حياة الملك والمس بسلامة الدولة الداخلية وعدم الإخبار بهذه الجرائم والمشاركة فيها والإعانة عليها ومحاولة ارتكابها ومحاولة القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد».
هذه هي الديباجة الرسمية لصك الاتهام الذي وُجه للموقوفين والمعتقلين الذين وصل عددهم تمهيدا للتحقيق معهم، 5000 ما بين منتسب للحزب ومتعاطف معه.
ما كان يهم السفير الأمريكي في الرباط هو مدى تورط اليساريين المغاربة في تهمة من هذا النوع، وما كان يهمه أكثر معرفة إن كانوا فعلا قادرين على تنفيذ هذا النوع من المخططات، خصوصا وأن الولايات المتحدة وقتها كانت تتخوف من أن يصبح المغرب نسخة من أنظمة الدول العربية التي جرى فيها الانقلاب على الملكيات، وتحالف فيها الجيش مع قيادة المعارضة الذين كان أغلبهم يقيمون في الخارج.
لماذا هذا الصمت؟
يُعاب على من شهدوا تلك المرحلة، سيما بعد مضي عقود على تفاصيل الاتهام وحيثياته، عدم حديثهم بصراحة عن وجود مؤامرات من هذا النوع ضد النظام. حوكم آلاف الاتحاديين وصدرت ضد بعضهم أحكام بالإعدام، نُفذت بعضها، وصدر عفو عن الآخرين بينما بقي الأغلبية منذ 1963 خارج المغرب، منفيين، إلى حدود سنة 1995، عندما فاوض عبد الرحمن اليوسفي لعودتهم إلى المغرب مقابل المشاركة في تجربة حكومة التناوب التوافقي.
رغم هذا الانفراج والتقارب بين الاتحاديين والسلطة ومشاركتهم في تدبير الحكومات، إلا أنهم لم يتحدثوا بصراحة عن حيثيات محطة يوليوز 1963، ومحطات أخرى تحدث عنها أعضاء الجناح الثوري بكثير من الحماس، واعترفوا بأنهم قادوا فعلا مخططات لإنجاح ثورة مسلحة في المغرب سنة 1973. فهل كان مخطط مؤامرة يوليوز حقيقيا فعلا، أم جرى استغلال وجود نزعة ثورية لدى الاتحاديين ونفخها لتصبح بحجم المؤامرة؟
++++++++++++++++++
هل كان الاتحاديون فعلا في قلب المؤامرة؟
تقرير من 12 صفحة، يضم تصحيحات وإحالات بخط اليد، وكأنها أضيفت على عجل. مصدر التقرير مكتب من مكاتب سفارة الولايات المتحدة الأمريكية بالرباط. موقّع التقرير وضع اسما مستعارا: «جيري.م» ليُذيل به الفقرات التي تضم معلومات «استخباراتية»، كانت عبارة عن قراءة في أحداث مؤامرة 16 يوليوز 1963، بعد أقل من شهرين على انطلاق أطوارها وانشغال المغاربة بجلسات المحاكمة. ثم متابعة لأخبار جلسات المحاكمة التي انطلقت في نونبر من السنة نفسها ولم تُطو صفحاتها إلا في مارس من سنة 1964، بصدور الأحكام النهائية ضد المُتابعين، والتي وُصفت بالقاسية، قبل أن يصدر عفو ملكي لفائدة المُدانين.
صفحات سوداء
«من المقلق مطالعة أخبار استمرار الاعتقالات في صفوف المنخرطين في حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي أسسه المُنشقون السابقون عن حزب الاستقلال، أكبر حزب يضم مناضلين وطنيين في المغرب.
الاعتقالات تجاوزت 4000 حالة، جُمعوا في مراكز اعتقال تشرف عليها الشرطة المغربية. وهناك دعوات يومية إلى إطلاق سراح المعتقلين بحكم أنهم يعيشون في مدن أخرى بعيدة بمئات الكيلومترات عن الدار البيضاء التي ضمت الاجتماع الذي اعتُقل من حضروه يوم 16 يوليوز».
الكلام هنا للموظف الأمريكي، «جيري»، في السفارة الأمريكية بالرباط، الذي عنون الجزء الأول من تقريره الذي يعود إلى يوم 17 غشت 1963، كالآتي: «سرّي.. مؤامرة ضد الملك تهز الرباط».
يقول الموظف الأمريكي إنه استقى معلوماته من أشخاص يثق في عمق قراءتهم للأحداث في المغرب. وهؤلاء أكدوا له أن النظام المغربي يريد، من خلال هذا الملف، تطهير الساحة السياسية من المعارضين الذين يحملون أفكارا «تخريبية».
التهمة كانت هي التخطيط لاغتيال الملك الراحل الحسن الثاني، وهي التهمة التي لاتزال إلى اليوم مثار جدل كبير بين قدماء المعارضة. يقول التقرير إن هناك أخبارا مفادها أن المُتهمين الرئيسيين في الملف ضُبط عندهم، أثناء تفتيش مكاتبهم ومنازلهم، مخطط لتصميم القصر الملكي من الداخل، وإقامة الملك الخاصة، وتحديد لموقع غرفة نوم الملك، وهو ما يُعزز تهمة التخطيط لاغتيال الملك الراحل. يقول التقرير: «يواجه المُتهمون وضعا حرجا للغاية. وعموما، ليست التهمة غريبة عن بعض اليساريين المعارضين الذين يحملون أفكارا تعارض الملك بشراسة، وليست هذه المرة الأولى التي يعلنون فيها معارضتهم له بشكل مباشر. وهو ما يجعل تعاطف السياسيين، من أطياف أخرى، معهم أمرا غير مطروح». من أين استقى الموظف الأمريكي في السفارة هذه المعلومة الأخيرة؟ يقول، في فقرات أخرى، إنه تواصل مع عدد من الأشخاص الذين يقرؤون الوضع المغربي جيدا، وأكدوا له أن بعض المعارضين من اليسار المغربي يحملون فعلا أفكارا معادية للملك.
اجتماع الدار البيضاء
الذين حضروا اجتماع الدار البيضاء، الذي بدأت منه سلسلة الاعتقالات، لم يكونوا جميعا انقلابيين، كما أنهم لم يكونوا يحملون أصلا أفكارا انقلابية، بل كانوا يحضرون في إطار حزبي، ممثلين أجهزة الحزب وفروعه في اجتماع اللجنة المركزية.
105 أعضاء كانوا يجتمعون في القاعة الكبيرة التي ضمت الاجتماع، قبل أن ينتبهوا إلى أن المقر كان مطوقا من طرف أفراد الشرطة وأن هناك قوات أمنية تطوق المكان ومحيطه.
نقل بعض الأعضاء خبر تطويق المقر إلى عبد الرحيم بوعبيد الذي كان جالسا في المنصة، وأخبر الجميع أن يضبطوا أعصابهم وألا يصدر عنهم أي رد فعل تجاه رجال الأمن. وفعلا جرى اعتقال الجميع واقتيادهم إلى مقر الأمن لبداية التحقيق معهم في التهم الموجهة إليهم. لكن، ومنذ الليلة الأولى، اتضح أن الاعتقالات صارت انتقائية، وهو ما لمح إليه التقرير الأمريكي في هذه الفقرة: «عبد الرحيم بوعبيد صديق حميم لعدد من الدبلوماسيين الأجانب في الرباط. اتصل به أغلبهم لتهنئته على إطلاق سراحه رغم أن زملاءه، الذين حضروا معه في القاعة، وأعضاء الحزب الذين اعتُقلوا لاحقا، استمر اعتقالهم. وظل بوعبيد متمسكا بأن الأمر لا يعدو أن يكون مخططا لإضعاف الحزب وحلّه». لاحقا ظهر عبد الرحيم بوعبيد بمرافعات أجمع الجميع على شجاعتها في الدفاع عن المتهمين والمتابعين، حضوريا وغيابيا، والذين كان من بينهم عبد الرحمن اليوسفي ومحمد الفقيه البصري والمهدي بن بركة، وآخرون من قادة الحزب.
واشنطن قلقة..
جاء في التقرير الأمريكي، أيضا، أن واشنطن قلقة بشأن المُتابعين الفارين الذين أعلن الأمن المغربي منذ غشت 1963 أنهم مطلوبون في قضية مؤامرة يوليوز.
كان من بين هؤلاء المتابعين مئات من قدماء المقاومة المغربية وجيش التحرير الذين ذُكرت أسماؤهم في مذكرات البحث ومحاضر الشرطة. وحسب المعلومات المتوفرة، فإن أغلب هؤلاء المطلوبين فروا إلى الجزائر عبر مدينة وجدة الشرقية، وفضل بعضهم عدم البقاء هناك والتوجه رأسا إلى فرنسا أو شرقا نحو سوريا أو العراق، بينما البقية فضلوا البقاء في الجزائر في ضيافة قدماء الثورة الجزائرية الذين كانوا أصدقاء لهم أيام المقاومة. مصدر القلق الأمريكي أن هؤلاء الفارين مدربون على حمل السلاح وسبق أن كانوا مطلوبين لدى الفرنسيين قبل استقلال المغرب، واستمرار وجودهم في الجزائر، التي كانت تميل إلى الاتحاد السوفياتي، أجج مخاوف الأمريكيين، خصوصا مع تزايد المعلومات الاستخباراتية التي جمعها عملاء CIA عن أنشطة الشيوعية في شمال إفريقيا، سيما في الجزائر والمغرب.
وهذا ما يفسر أساسا اهتمام الأمريكيين بموضوع مؤامرة يوليوز، خصوصا مع استمرار وجود العقل المدبر، المهدي بنبركة، خارج المغرب.
«المؤامرة»
مع توالي الأيام، وتحولها إلى أسابيع، منذ يوم 16 يوليوز 1963، بدأت تظهر للعموم تفاصيل جديدة تتعلق بالمؤامرة.
اتسعت دائرة الاعتقالات لتشمل كل المدن المغربية الكبرى. كانت تهمة الانتماء إلى الذراع النقابي المقرب من حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، كافية جدا لجمع الموقوفين وتحويلهم إلى مراكز الاعتقال تمهيدا للاستماع إليهم وتسجيل أقوالهم في محاضر رسمية وتحويلها إلى المحكمة.
بحسب الأرقام التي ذكرتها الهيئات الحقوقية خلال جلسات الإنصاف والمصالحة، فإن الأمر يتعلق بأزيد من 5000 معتقل جرى اختطاف بعضهم وتوقيف آخرين داخل منازلهم ومقرات عملهم، وتحويلهم إلى مراكز الاعتقال.
هؤلاء المتهمون جميعا كانت التهمة المشتركة بينهم هي الانتماء إلى حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية أو التعاطف مع رموز الحزب من خلال العمل النقابي. فقد كان معروفا أن أشرس النقابيين، في ستينيات القرن الماضي، كانوا أعضاء بارزين في حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، أمثال الحسين المانوزي، وعمر بنجلون وعبد الرحمن اليوسفي الذي بدأ نشاطه النقابي الأول في الدار البيضاء قبل الاستقلال. وهؤلاء جميعا كانوا متابعين.
بعض المعتقلين، أو المختطفين، الذين شملتهم دائرة البحث في تهمة مؤامرة يوليوز، لم يظهر لهم أثر لا أثناء المحاكمات ولا بعدها، رغم أن عائلاتهم تؤكد أنهم اختفوا أو اقتيدوا أمام أنظارهم خلال فترة الاعتقالات التي صاحبت التمهيد للمحاكمة.
لاحقا، وفي جلسات هيئة الإنصاف والمصالحة، تحدد مصير أغلبهم واتضح فعلا أنه جرى التحقيق معهم في مراكز الاعتقال وأنجزت لهم محاضر رسمية، لكن لم يظهر لهم أثر في جلسات المحاكمة، التي استمرت من شهر نونبر 1963 إلى مارس 1964 ولم يُفرج عنهم بعد صدور العفو الملكي.
رغم طول مدة المحاكمة، إلا أن هؤلاء المفقودين لم يحظوا بأي فرصة للوقوف أمام القاضي.
تلفزيون بالأبيض والأسود
تجند الإعلام الرسمي لتقديم الملف على أنه تفكيك لخلية إرهابية وليس لحزب سياسي عارض الاستفتاء على الدستور وأعلن مقاطعته له، واكتسح أعضاؤه الانتخابات البرلمانية وهزموا جبهة الفديك التي أسسها أحمد رضا اكديرة.
الجبهة أسسها اكديرة في مارس 1963، أي قبل الانتخابات وقبل اعتقالات الاتحاديين. كان الإعلام في جيب أحمد رضا اكديرة، سيما أنه كان وزيرا للإعلام في حكومة بلافريج سنة 1958. وكان التحدي الذي وضعه بينه وبين نفسه أن يسيطر على التلفزيون، خصوصا أن وزير الإعلام سنة 1963 كان الشيگر، وهو من أصدقاء اكديرة. يقول التقرير الأمريكي بهذا الخصوص: «الأجواء في المغرب قبل الاعتقالات كانت محتقنة جدا، وزادتها الاعتقالات احتقانا.. حتى أن افتتاح البرلمان المغربي، في شتنبر، طغى عليه نوع من التوتر بسبب وجود أعضاء فازوا بمقاعد برلمانية أثناء الانتخابات التي سبقت الاعتقالات، لكنهم كانوا ضمن المعتقلين».
بالعودة إلى موضوع مواكبة التلفزيون للقضية، فإن الإعلام المرئي تحول إلى أداة دعاية سيطر عليها كل من الجنرال أوفقير باعتباره المشرف الأول على الأمن، ورضا اكديرة الذي كان يتحكم في الوضع السياسي. وهكذا عُممت نشرات بصور بعض المطلوبين ممن كانوا معروفين بتعاطفهم مع محمد الفقيه البصري، أحد أبرز المتابعين في مؤامرة يوليوز. وما زاد من تكريس هذه السيطرة الأمنية استغلال التلفزيون لبث صور أعضاء خلية شيخ العرب الذين كان مبحوثا عنهم ووجهت لهم تهمة تهديد أمن الدولة والتخطيط لهجمات مسلحة واعتبرتهم الوصلات التلفزية مجرمين يشكلون خطرا على سلامة المواطنين وطالبت بتقديم المساعدة لاعتقالهم والإرشاد إلى أماكن اختبائهم.
تزامنت هذه الوصلات «الأمنية» في التلفزيون مع انطلاق محاكمات المعتقلين في مؤامرة يوليوز، وازدياد الاحتقان السياسي، وهو ما أشار إليه التقرير الأمريكي أيضا.
++++++++++++++++++
محاكمة القرن وتحركات بن بركة.. بعيون أمريكية
هناك متخصصون مغاربة يذهبون في اتجاه جعل محاكمة المتورطين في انقلاب الصخيرات في يوليوز 1971، محاكمة القرن بامتياز. لكن العارفين بخبايا الأمور يجعلون اللقب محصورا بين محاكمة مؤامرة يوليوز 1963، التي انطلقت أطوارها في نونبر، ومحاكمة مراكش الشهيرة التي جرت أطوار جلساتها سنة 1970.
المحاكمتان توبع فيهما متهمون عاشوا التجربتين معا، تجربة مؤامرة يوليوز وتجربة اعتقالات 1969 و1970 التي مهدت لمحاكمة مراكش الشهيرة.
الأمريكيون تابعوا أطوار المحاكمة، لكن بدا واضحا، من خلال التقرير الذي وُقع في دجنبر 1963، أن معلومات الأمريكيين عن المحاكمة لم تتعد افتتاحيات الصحف، خصوصا تغطية صحيفة «العلم»، إذ كان التقرير عبارة عن تلخيص للأخبار القادمة من قلب قاعة المحكمة.
وعندما انطلقت جلسات المحكمة وقف الدفاع، الذي ترأسه عبد الرحيم بوعبيد، دفاعا عن رفاقه، متحدثا عن وجود خروقات في التحقيق وفي عمليات التوقيف، وترافع مع محامين آخرين عن عائلات لم تكن تعرف مصير أفرادها إلا عندما رأوهم في قفص الاتهام مؤكدين أنه تم إيقافهم خارج القانون.
كان اهتمام الأمريكيين بهذه الوقائع مركزا وغير قابل للاختصار أو القفز على التفاصيل. كل جزئية تتعلق بالملف كانت تُرفع رأسا إلى مكتب السفير الأمريكي بالرباط، وكتب تعليقات عليها بناء على مكالمات هاتفية أجراها أو بحسب إفادات عملاء أمريكيين ميدانيين كانوا قريبين من الملف ولديهم اطلاع على حيثيات أنشطة اليسار وقدماء المقاومة في بداية عهد الملك الراحل الحسن الثاني. وهذه التقارير، التي رفعت إلى واشنطن، كانت تركز على كواليس المحاكمة التي طبعت وقائع صيف تلك السنة وامتد تأثيرها إلى سنة 1964.
اتضح للأمريكيين أن النظام في المغرب كان يرمي إلى تطويق المعارضة وكسر مدها القوي الذي بدا واضحا في الانتخابات الأخيرة التي عرفها المغرب قبل يوليوز 1963. ومنذ ماي من تلك السنة، كانت هناك تنبؤات باقتراب انفجار الأوضاع في المغرب إثر رفض اليسار المشاريع السياسية التي روجت لها وزارتا الإعلام والداخلية.
رفض التوجه العام والطعن في مشروع جبهة الدفاع عن القوى الديموقراطية التي انخرط فيها من وصفهم السفير الأمريكي في مراسلاته بالأصدقاء والمقربين من القصر، وتزعمهم أحمد رضا اكديرة، وزير الداخلية، كانا المحرك الذي مهد لأحداث يوليوز 1963، لكن السؤال الأهم، الذي طرحته السفارة الأمريكية بالرباط وقتها هو: هل كان الاتحاديون فعلا ضحايا مؤامرة؟
هنا الرباط..
في يناير 1964 استقى الأمريكيون معلوماتهم عن المحاكمة من عبد الرحيم بوعبيد نفسه. جاء في التقرير أن السفير الأمريكي بالرباط كان يربط الاتصال مباشرة بمنزل عبد الرحيم بوعبيد ويتواصل الاثنان هاتفيا، وكان بوعبيد يخبر السفير بمجريات المحاكمة ومرافعاته في الدفاع عن زملائه الذين وجهت لهم تهم تقود بسهولة إلى منصة الإعدام.
ما كان يشغل السفارات الأجنبية بالرباط كان أكبر مما يقع في قاعة المحاكمة. وطبعا، فإن عبد الرحيم بوعبيد وحده لم يكن قادرا على الإجابة عن أسئلة الدبلوماسيين الأجانب.
كان أكثر ما يشغل الدول الأجنبية، سيما الولايات المتحدة الأمريكية، طيلة مدة المحاكمة، استمرار وجود المهدي بن بركة خارج المغرب واستمرار تحركاته في كل من الجزائر وفرنسا وسويسرا.
كان الأمريكيون يملكون معلومات استخباراتية عن تكثيف المهدي بن بركة لاتصالاته وازدياد وتيرة سفرياته. ومع تركيز الأمريكيين وقتها على محاربة أي أنشطة شيوعية أو يسارية، كان المهدي بن بركة في قلب اهتمام الأمريكيين. ولعل هذا ما يفسر كيف أن الأمريكيين كانوا يتابعون محاكمة زملائه في الحزب أولا بأول.
مشكلة السلاح..
تزامن محاكمة المتورطين في أحداث مؤامرة يوليوز 1963 مع البحث عن شيخ العرب ومن معه، كان يوحد بينها هاجس انتشار السلاح في الشارع. يقول التقرير الأمريكي إن الأمن المغربي لم يكن متساهلا مع انتشار وامتلاك الأفراد للسلاح، وتعامل بشدة مع حالات الانفلات التي ارتبطت في تفاصيلها باستعمال السلاح في الشارع العام. لكن التقرير يشير إلى أن المغرب تنتظره معضلة أكبر، وهي وجود معارضين في الخارج سبق لهم التدرب على حمل السلاح.
بدا واضحاـ إذن- أن المغرب كان يتعامل مع مشكل أكبر من مؤامرة يوليوز، ويتعلق الأمر بأنشطة قدماء المقاومة وبعض المنتسبين إلى حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية القادمين إليه من حزب الاستقلال.
تصفية الحسابات السياسية بعد الانشقاق عن حزب الاستقلال الذي كان يمسك بزمام إدارة الأمن، في شخص الاغزاوي، ووزارة الداخلية في شخص ادريس المحمدي، وكلاهما استقلالي متعصب، زاد من توسيع دائرة الاعتقالات في صفوف الاتحاديين من قدماء المقاومة. هنا بالضبط بدأ الحديث عن كون المؤامرة كلها مفبركة، في حين أن شهادات من قلب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ومن صادقوا المهدي بن بركة ومحمد الفقيه البصري وحتى عبد الرحمن اليوسفي، وقضوا سنوات طويلة في المنفى، كانت تتحدث عن مخططات، وليس عن مخطط فقط، لإنجاح ثورة مسلحة في المغرب!
تناقضات في قلب الزنازين
ما زاد من جعل القضية تأخذ بُعدا سورياليا كون المعتقلين توزعوا بين مناضلي الحزب من القواعد في الأقاليم، وأعضاء اللجنة المركزية، وبرلمانيين فازوا باسم الحزب لتوهم بمقاعد في البرلمان، وكانوا ينتظرون افتتاح السنة البرلمانية في شتنبر 1963، ليلتحقوا بالبرلمان، لكنهم وجدوا أنفسهم في قلب تهمة مؤامرة يوليوز وفي أقبية مظلمة في انتظار الجلسات!
أحد هؤلاء، الذين عاشوا التجربة، القيادي الاتحادي السابق عبد الواحد الراضي، الذي خصص في مذكراته «المغرب الذي عشته» حيزا مهما للحديث عن تجربة الاعتقال، حيث نفى في شهادته أن يكون على علم بأي مؤامرة تمس شخص الملك وتهدد النظام، لكنه تحدث عن التعذيب والتجاوزات التي تعرض لها المعتقلون قبل المحاكمة وحتى بعد صدور الأحكام. ورغم أن الراضي كان من جملة الذين أطلق سراحهم، إلا أنه سجل رفقة زملائه البرلمانيين موضوع مصير رفاقه في الحزب، والذين كانت صدرت في حقهم وقتها أحكام بالسجن.
عندما تحدث عبد الواحد الراضي، وهو الذي يعتبر واحدا من أكبر المعمرين في مناصب المسؤولية داخل البرلمان المغربي منذ افتتاحه، عن تفاصيل تعرضه رفقة زملائه في الحزب للتعذيب أثناء جلسات الاستنطاق، ظهر واضحا ألا أحد استُثني من التعذيب. لكن ما شكل حزازة لدى الكثيرين من أعضاء الحزب، رغم اشتراكهم في المصير مع قياديين برلمانيين أمثال عبد الواحد الراضي، خروج عبد الرحيم بوعبيد دون اعتقال رغم أنه كان حاضرا في اجتماع اللجنة المركزية بالدار البيضاء، وغياب عبد الله إبراهيم الذي لم يحضر الاجتماع ولم يجر اعتقاله رغم أن مقربين منه اعتقلوا.
ما وقع أثناء المحاكمة كان، أيضا، ضربا من ضروب التناقضات، إذ أن بعض الذين جرى استدعاؤهم للإدلاء بشهادتهم في الموضوع، لم يكن يربطهم بالمتهمين أي رابط، بينما كان آخرون، مثل شيخ الإسلام الفقيه العربي العلوي، المعروف بتعاطفه مع الحزب في بداياته وحضور مؤتمره التأسيسي الأول سنة 1959، نفوا أن يكونوا على علم بأي من تفاصيل المؤامرة.
المثير أن بعض الذين حضروا للإدلاء بشهاداتهم في الجلسات كانوا أصدقاء حميمين للمتهمين للرئيسيين، وبينهم من كانت تجمعهم بهم صداقات تطورت إما إلى قرابات عائلية أو شراكات تجارية، وهو الأمر الذي جعل بعض الجلسات صورية لا أكثر، في انتظار صدور الأحكام التي وُصفت بأنها «استهدفت رؤوس المحكومين غيابيا، وسحقت معها أجساد الواقفين في منصات الاتهام».