في بلاد البرتقيز
شامة درشول
بعث أحد الأصدقاء يسألني إن كنت بالمغرب، أجبته أني بلشبونة، فرد مازحا: «تذهبين إلى حيث الأعداء؟».
كان يلمح إلى المباراة التي جمعت بين المغرب والمنتخب البرتغالي، أجبته أنه عكس ما يعتقد، المستوى الذي ظهر به المنتخب المغربي أمام المنتخب البرتغالي جعل كل من يلتقي بي ويعرف أني مغربية يشيد بالمنتخب، ويقول لي: «لديكم منتخب قوي، ظلم كثيرا في المونديال، عليكم بالحفاظ عليه، فكلما اعتنيتم به بات أكثر قوة».
في لشبونة، مدير المطعم رفض أن أدفع ثمن العشاء، وقال لي إن الفاتورة هدية منه لي لأني من المغرب، من بلد أبلى منتخبه بلاء حسنا، موظف مطار برشلونة منحني ورقة وأنا أغادر إلى مدريد، ترخص لي تجاوز الطابور الطويل، حين علم أني من المغرب. وفي لشبونة، أيضا، السائق الذي أخذني في جولة بالعاصمة، قال لي حين عرف أني من المغرب إنه سيأخذني في جولة بنصف ثمنها، تقديرا للمستوى الجيد الذي ظهر به المنتخب، وأيضا، كما قال: «لقد لقنوا درسا للإسبان، لقد كادوا يفوزون عليهم».
الكرة تفضح الكثير من المشاعر الدفينة، مدير المطعم في لشبونة، السائق الذي أقلني من المطار إلى الفندق، السائق الذي أخذني في جولة بالعاصمة، موظفو الاستقبال في الفندق، والنادل في مقهى «نيكولا» التاريخي، كلهم أبدوا تعاطفا مع المنتخب المغربي، وجميعهم حاولوا بشكل ما الترحيب بي على أرضهم لأني من بلد حصل منتخبه على احترامهم، إلا الإسبان، شعرت، وهم يتابعون المباراة بين منتخبهم ومنتخب المغرب، بأنهم يخوضون معركة من معارك الأمس.
سائقو «التاكسي» هم المحرار الذي به تقيس نبض الشارع في بلد ما، لذلك أحب الحديث إليهم. سائقو «التاكسي» في مدريد وإشبيلية، وحتى برشلونة، كانوا لطفاء، موظفو الفنادق التي أقمت فيها كانوا أيضا لطفاء، وحتى نُدل المطاعم والمقاهي، لكن لطفهم تشعر به واجبا تفرضه قواعد السياحة، وليست طبيعتهم، عكس «لبرطقيز»، تشعر بأنهم أكثر كرما، وأكثر تسامحا وأقل تعلقا بالماضي.
قبل أن آتي إلى لشبونة، قالت لي صديقتي إنها تحب البرتغاليين أكثر من الإسبان، وإن البرتغاليين أكثر كرما، وهذا ما شعرت به، سائقو لشبونة كلهم وبدون استثناء كانوا يقولون لي إن لشبونة جميلة، وإنهم يريدون مني أن أعود مرة أخرى. في مدريد، لن تسمع مثل هذا الكلام، الإسبان يشعرون، أو يحاولون أن يشعروك بأنك محظوظ لأنك على أرضهم، وأنهم لن يخسروا شيئا إن أنت لم تعد، فهناك الملايين يتوافدون على أرضهم.
سائقو «التاكسي» في لشبونة، تشعر معهم بإحساس مختلف، هم فخورون ببلدهم، مكتفون بما يقدمه، يرون أنه ليس جنة، وأيضا ليس بالبلد الجحيم، يجدون في لشبونة عاصمة لبلد صغير لا يتعدى سكانه عشرة ملايين نسمة، ويجدونها جميلة وهادئة.
حين التقيت بالبرتغاليين، بدأت أفهم كيف كنت أشعر حين ألتقي بالإسبان، الإسباني، إن كان لطيفا معك، لا يمنعه الأمر من أن يعاشرك وهو حذر منك، يأخذ منك مسافة حتى وهو يتعامل معك بلطف، أو كما يقول المغاربة: «مكيعطيكش نيتو كاملة»، لكن البرتغالي يفعل كل شيء ليكسب صداقتك.
تأملت كثيرا سلوك البرتغاليين، فوجدت أن سحنتهم متنوعة، قابلت برتغاليين ببشرة سوداء وسمراء، ربما هؤلاء أحفاد مغاربة، ركبوا البحر ذات عهد مع البرتغاليين والإسبان لاكتشاف العالم الجديد، وقد يكون بينهم من أصوله إفريقية، شاهدون على العهد الذي حكمت فيه إسبانيا العالم مدعومة بأصهارها البرتغاليين، ومنهم من يبدون بأصول برازيلية. كل هذه السحنات الشاهدة على ذاك الماضي القوي، والذي في شق منه ماض مليء بالدماء لهذا البلد المسمى البرتغال، يمتزجون اليوم في مجتمع واحد، لا يتحرج من أن تكتشف أنه حفيد المستعبدين، وليس برتغاليا قحا، البرتغاليون أكثر تصالحا مع ماضيهم من الإسبان.
يشعر البرتغالي بأنه من بلد صغير، وأن كان تاريخه لا يقل قوة عن تاريخ الإسبان، إلا أنه يعرف أن الإسبان على مر التاريخ كانوا يحاولون أن تكون لديهم الكلمة العليا على البرتغاليين. تشعر بأن البرتغاليين خرجوا لاستكشاف العالم، في حين خرج الإسبان لاحتلال العالم.
أتساءل، وأنا أتابع من مدريد مسيرة لنشطاء مغاربة وإسبان خرجوا في مظاهرة من برشلونة التي تعرف تواجدا قويا للمغاربة من أصل أمازيغي، «لماذا المناطق المغربية التي استعمرها الإسبان دائما في توتر وصراع؟»، ولا أجد ردا على تساؤلي، إلا أن الإسبان يرفضون النسيان.
قال لي السائق في لشبونة وهو يشير بأصبعه إلى معلمة «Balem»، من هنا انطلقت أولى الرحلات الاستكشافية للعالم، استدار إلى حيث كنت أجلس أتأمل تلك المعلمة التاريخية المبهرة، وهي تطل على المحيط الأطلنتي، وسمعته يقول: «لو كان لدي قارب جيد، لسبحت من هنا إلى جنوب بلدك».
ابتسمت وأنا أنصت إليه، ثم قال لي: «أتعرفين سينيورا؟ للبرتغاليين أصدقاء في العالم كله، العالم كله يحب البرتغاليين، لأننا شعب نرفع شعار السلام والحب، كل ما نريده أن نستمتع بالحياة، ولا مطامع لدينا».
البرتغاليون تصالحوا مع هزائم الأمس ورضوا بما خرجوا به بعد مجد طويل، وباتوا يكتفون بأن يكونوا أصدقاء للعالم، حتى أنهم يكرمون مواطنة من بلد أعجبوا بأدائه وهو يلعب ضد منتخبهم، ويلاعب منتخب جارهم المغرور.