عبد الإله بلقزيز
إذا كان من تراجُع في الفعل، وفي الوجود، تسجله الخصوصيات في هذا الطور من التاريخ الإنساني المعاصر فهو – قطعا- ذلك التراجع الذي تشهد عليه في الميدان الاقتصادي. ليس من كبير شبه بين الاقتصاد والاجتماع والثقافة، وحتى السياسة، على هذا الصعيد؛ فهذه جميعُها – بتفاوت بينها- تحتمل الاحتفاظ لها بمساحات هائلة من الخصوصية بها تعبر عن تميز نظامها الاجتماعي الذي تنتمي إليه، الأمر الذي لا يملكه الاقتصادي داخل أي بناء اجتماعي في عالم اليوم لأسباب عدة.
قد يكون من أظهر الأسباب أثرا أن الحياة الاقتصادية في أي مجتمع معاصر- بما فيها من دورة إنتاج ومن نظام استهلاك وتبادل – لم تعد تخضع لنظام من العلل الداخلية المستقلة، ولا تكتفي بمواردها الذاتية على نحو تكون في غنى عن العالم الخارجي. والأهم من هذا ومن ذاك أن النظام الاقتصادي لأي بلد (خاصة إذا كان من بلدان الجنوب) لم يعد يحكُم نفسه بنفسه، أو يرسم لنفسه أفقا خاصا لا يشاركه غيره فيه. لقد أصبح الاقتصاد مشدودا – أكثر من أي وقت مضى – إلى المراكز الاقتصادية الكبرى المتحكمة في العالم بشبكة هائلة من العلاقات التي تضعه فيها موضع التابع.
بعبارة أدق؛ بات محكوما بتلك القوانين التي فرضتها الميتروبولات الاقتصادية العالمية بوصفها كونية. وليست هذه حال ميادين السياسة والاجتماع والثقافة (والأخيران على نحو خاص)؛ فلهذه من عللها الداخلية ما يسمح لها بأن تجترح لنفسها شخصية خاصة أو، على الأقل، بأن تظل تحتفظ لنفسها ببعض خصوصياتها حتى مع الانشداد، الذي لا مهرب لها منه، إلى أحكام الكونية.
من المعلوم أن ميلاد الرأسمالية واكتساحها العالم أتى يدشن أول مسار ذهاب الاقتصاد نحو الصيرورة حالة كونية: في نظام الإنتاج وفي علاقات الاقتصادات بعضها ببعض. وما من شك في أنه كان لاقتصادات الميتروبولات الرأسمالية الأثر الكبير في إدخال اقتصادات العالم في شبكات من الروابط التي يُلحق بعضُها بعضا، خاصة روابط التبعية التي تشُد الأطراف إلى المراكز. وهي أدت ذلك الدور في حقبتين من تاريخ بلدان المركز: حقبة الاحتلال الكولونيالي لبلدان الجنوب، وحقبة الهيمنة الإمبريالية التي فرضت علاقات التبعية على البنى الاجتماعية والإنتاجية لبلدان الجنوب. ومع تحول الرأسمالية من رأسمالية صناعية إلى رأسمالية مالية، وفي امتداد سياسات الدولة، تحول النظام المالي إلى نظام كوني، وأضحى تأثير الأوضاع المالية للمركز على الأطراف عظيما؛ بل لقد حدث التأثير عينه حتى داخل تلك المراكز التي غدت، جميعها، مشدودة إلى السياسات المالية التي تفرضها الولايات المتحدة الأمريكية على العالم، بما فيه الغرب نفسه.
غير أن المنعطف الأكبر في سيرورة كوننة الاقتصاد – والنظام الرأسمالي استطرادا- كان ذلك الذي تمثل في ميلاد العولمة وزحفها الشامل على العالم. وقبل أن تشرع العولمة في الذهاب إلى الحد الأقصى في فرض أحكام الكونية الاقتصادية على مجتمعات الأرض جميعها، كانت – هي نفسها- قد خرجت من رحم النظام الاقتصادي الرأسمالي واندفاعته الهائلة لاكتساح كل شيء في العالم. غير أن العولمة احتاجت، أيضا، كي تقوم وتفرض كونية معطياتها، إلى ثورة تكنولوجية جديدة في المجالات المعلوماتية والرقمية والاتصالية؛ وهي التي كانت قد شرعت في البدء في تطبيقاتها العسكرية (برنامج «مبادرة الدفاع الاستراتيجي» الأمريكي في ثمانينيات القرن العشرين)، قبل أن تدخل ميدان الاستخدامات المدنية في مطلع التسعينيات. هكذا وفرت العولمة للكونية الاقتصادية روافع في غاية الفعالية، ومحت من أمام تلك الكوننة كل ما من شأنه أن يكبح حركتها.
ولقد دفع القسم الأعظم من البشرية أثمانا فادحة على تلك الكونية الاقتصادية الإلحاقية والابتلاعية التي لم تترك لأي مجتمع هامشا، ولو رمزيا، لممارسة بعض الاستقلال الاقتصادي. والأنكى من ذلك أنها طوحت بسيادته الاقتصادية على نحو لا سابق له في الحدة، وقد ذهبت في استباحتها إلى الحد الذي عطلت فيه عمل أي آليات حمائية، بل صنفتها في عداد مقاومة مبدأ التجارة الحرة! هكذا أصبح كل «اقتصاد وطني» على حال من الانكشاف والعري أمام موجات الكوننة. والمفارقة الكبرى هي في أن هذا الاقتصاد لم «ينعم» بالانتماء إلى الكونية؛ فلقد بُشر بها ودُعي إليها، على صعيد الخطاب، لكنه وجد نفسه مهمشا يتسول على أعتابها بعض ما يسد الأود.
الكونية الاقتصادية أكبر أكذوبة ابتدعها الخطاب الليبرالي الجديد ليبرر بها افتراسيته لاقتصادات العالم ومقدراته! إنها، بجميع المعايير، عدوان صارخ على حقوق الشعوب في اقتصاداتها المسلوبة وثرواتها المنهوبة!
نافذة:
وفرت العولمة للكونية الاقتصادية روافع في غاية الفعالية ومحت من أمام تلك الكوننة كل ما من شأنه أن يكبح حركتها