مع كتابة هذه المقالة تكون دورة العنف قد اكتملت مثل القمر، في معظم العالم فهناك سيارات بالآلاف تحرق، وشباب غاضبون يتمردون، وفقراء عاطلون عن العمل يتفجرون. ومن ذكرياتي الحزينة بعد وداعي الوطن بـ17 عاما، أن أخطأت خطيئة الدهر حين قررت الدخول إلى المحبس مرة أخرى، عفوا زيارة الوطن المقرود، ولكنني دخلت الوطن متشحا بملابس الريبة والتحقيق في كل حركة، فقد كان علينا أن تكتحل عيوننا بالوطن، ولكن بدون مواطنة، وبعد تسوية الوضع ومع أول دخلة، تم إلقاء القبض علي من جديد. قلنا: يا جماعة لقد سوي وضعنا وانتهينا، قالوا: أنت مطلوب للأمن الجوي، قلت: يا قوم لم أخدم في القوات الجوية ولا النهرية ساعة. نظر إلي ضابط سمين بانتفاخ، ثم قذف كلمات من حلق أجش: خذوه فغلوه، ثم المخابرات في درعا فصلوه.
كان حظي كبيرا أن أودعت في أقبية درعا، لأنها من (مضارب) شيخ قبيلة الأمن العسكري. هرعت زوجتي يومها أن يا قوم سويتم وضعه، فما الذي حدث؟ ولأنني كنت في (جوار) شيخ قبيلة الأمن العسكري فقد أطلقوا سراحي، بعد أن تم نقلي إلى السويداء في سوداء ليل حالك بهيم. عندها شعرنا أننا رجعنا إلى بلد أمني غير الذي ودعناه قبل 17 سنة، وحين زرت بلدي القامشلي كان فرع المخابرات العسكرية بناية صغيرة، فأصبحت مدينة كاملة، فعرفت أن السحلية قد أصابها شعاع نووي، كما في قصة «غودزيلا Godzilla»، فتحولت إلى ديناصور.
بعد الدخول الأول كان علينا دوما أن نقع في شباك المخابرات والمراجعات، ومع كل دخلة كنا نحاول التأكد من عدم وجود اسمي على الحدود مطلوبا للفروع الأمنية التسعة عشر.
ومع كل التسويات السابقة، كان علي مراجعة فرع جديد من التنين الأمني (فرع الأمن السياسي) غير العسكري وأمن الدولة، فالفروع الأمنية منها ما تعرف، ومنها ما تكتشف كل يومين فرعا جديدا من: المخابرات العامة + المخابرات الداخلية + مخابرات الأمن السياسي + مخابرات القصر الجمهوري + مخابرات الفرع الخارجي + مخابرات الجامعة + مخابرات الرفيق القائد لحراسته الشخصية + المخابرات العسكرية + المخابرات البحرية والنهرية + مخابرات سرايا الصراع والوحدات الخاصة وفرق المداهمة والقتل الخارجي + مخابرات الأمن الجوي، وهي أشرسها مع فرع فلسطين، الذي ليس له علاقة بفلسطين، بل بارع في إيصال الموقوف إلى أي حالة وشكل من عميل إلى جاسوس إلى سحلية تزحف بدون عمود، فقرء بعد أن أصبح حطاما في التعذيب.
المهم أنني طلبت في قضية لا تستحق النظر فيها، لامرأة طلقها زوجها قبل عشرين سنة، فكتبت تقريرا ضد زوجها تذكر فيه عشرات الأسماء من (المتآمرين) على النظام، أو من يذكرون الرفيق القائد بالسوء. فاستنفرت الأجهزة الأمنية نفسها، فمنهم من ألقي القبض عليه، كما حدث للدكتور ملص، الذي مكث في القبو شهرا، ليودع البلد بعدها بغير رجعة إلى ألمانيا، ومنهم من جرجر إلى الأقبية مثلي ليراجع 17 يوما في قضية لا تستحق أن ينظر فيها سبع دقائق. هذا من وجهة نظر القانون والحريات وحقوق الإنسان، أما في قاموس الأمن عند أصف بن برخيا، رئيس الجان، فهي قصة خطيرة.
بعدها شعرت أن هذا البلد مصيدة، ومن دخله وجب أن يضع كرامته وحريته على الحدود، ويعلق دماغه وفكره على عصا متسول، ويفتح كتاب النبات، فيقرأ وظائف النبات جيدا، ويتقن ممارستها، هل يتنفس النبات؟ إذن تنفس، هل يتعرق؟ إذن تعرق، هل يشرب الماء؟ إذن اشرب. ولكن هل يفكر النبات أو يعبر الجواب؟ لا. إذن انس التفكير والتعبير، فهو في أرض عبقر، في أرض الثورة، وهي قراءة لا تشكل ضمانة كاملة ونهائية، لأن التقارير بقدر أمطار فانكوفر، والسرية بقدر ضباب لندن وعسير. بكلمة واحدة إنه حبس كبير، وطاعون جاثم، ومن كان في داخله كتب عليه الشقاء والبلاء والغباء والعناء والوباء. أذكر هذه الوقائع، وأعرف تماما مشاعر حتى رجل الأمن «ظافر اليوسف» الذي كان علينا الحج إلى مكتبه مع كل دخول إلى جحر الأفاعي البعثية الطائفية، وأي رعب يسكن مفاصله، وأنا حزين عليه، لأنه كان رجلا دمث الخلق، ناعم الملمس، ولكن جهاز الأمن جهاز رعب، ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب، من الظاهر حرير، ومن الباطن قبضة حديد. شعرت بشكل واضح أن بلدي الذي أعرفه ليس بلدي بعد اليوم، وعلي مغادرته وإلى الأبد.. مع ذلك يبقى الوطن عزيزا على النفس، وهو المعروف في علم النفس بالحنين الكاذب (Psudonostalgy)، ومن هرب منه، ثم حاول الرجوع إليه تحت هذا الضغط النفسي، فأفضل اللحظات هي في ساعتين مع ركوب الطائرة إليه والعودة منه، حيث يفهم بالضبط أنه ليس وطنا، بل مقبرة في قبور تبلع وأجسام توسد.
خالص جلبي