شوف تشوف

الرئيسيةثقافة وفن

في العودة إلى الأدب الليبي

إعداد وتقديم: سعيد الباز

 

كان إعلان فوز الروائي الليبي الشاب محمد النعاس بجائزة البوكر للرواية العربية عودة من جديد للحديث عن الأدب الليبي، حيث انحصر التعريف بالثقافة والأدب الليبيين في الأسماء المعروفة والمتداولة على مستوى كبير، كالروائي إبراهيم الكوني أو المفكر الصادق النيهوم أو الكاتب ورائد المترجمين العرب من اللغة الإيطالية خليفة التليسي. الحقيقة أنّ الأدب الليبي عانى بالخصوص، في ظلّ النظام السابق، من نظرة التوجس والريبة من كل تجديد أو مواكبة للحركات الأدبية المعاصرة أصاب في النهاية المجتمع بتخمة من الشعارات جعلت الأدباء والمبدعين بصفة عامة يعيشون حالة قلق وتذبذب حاد بين نير مجتمع قبلي محافظ ونير نظام ذي إيديولوجية طابعها الهيمنة وعدم الاختلاف أو التعدد. بعد الثورة سقطت البلاد في حرب مجنونة فاقمت محنة الأدب الليبي الذي وجد نفسه مرة أخرى منكفئا على ذاته يعيش عزلة مريرة حالت دون تجاوبه مع محيطه الطبيعي والامتداد إلى خارج القوقعة المفروضة عليه. لكننا شرعنا، شيئا فشيئا، نتعرف على تجارب أدبية في شتى الحقول الإبداعية أظهرت لنا تعدد أصواته وتميّز تجاربه وعودته بقوة ليحتل مكانه في خريطة الأدب العربي.

 

إبراهيم الكوني.. التّبر

… صاح الشيخ الحكيم في رجاله: ما هذا يا ربّي؟ كيف لم تقولوا لي إنّ ضيفنا النبيل يمتلك مهرياً بهذا الكمال؟ مهري أبلق رشيق مثل الغزال. هذه سلالة انقرضت من الصحراء منذ مائة عام. فمن أين حصلت عليه بالله؟

قال أوخيّد محاولا أن يستر عريه: من زعيم آهجار. هدية منه عندما بلغت سنّ الرشد.

-آه. زعيم آهجار. إبراهيم بكدة. هذه فصيلة تليق ببطل مثله. لن يقدر على تقديم هذه الهدية غيره. لدى القبائل العريقة دائما مفاجآت وأسرار.

… عندنا يقولون إنّ المهري مرآة الفارس. إذا أردت أن تنظر في الفارس وتقف على خفاياه، فتفقّد فرسه، مهريه. عليك بالمهري إذا أردت أن تعرف صاحبه. الآن أستطيع أن أقول إنّك شاب لا ينقصك الكمال. من يملك مهرياً مثل هذا الأبلق لن يشكو من نقص القيم النبيلة. شرّفت ديارنا أيّها الفتى النبيل سليل النبلاء. ولكن يؤسفني أن أقول إنّ فرصتك في تولي القبيلة بعد أبيك ضعيفة. لدى الشيخ أبناء أخت ثلاثة حسب علمي (الإرث عند الطوارق من الإناث)، ولكن من يدري. ربّما حدثت معجزة. باب المعجزات دائما مفتوح.

قام شاب عملاق، صارم الوجنتين، خشن اليدين، بتوزيع الدور الأوّل من الشاي الأخضر. رشف الشيخ طربوش الرغوة. وضع الكوب على الأرض، وقال: ليسمح ضيفنا أن نكرم مهريه أيضا. فطالما يتأفف الفارس من الدخول إلى بيوتنا من أبوابها فلا بأس أن يفعل المهري ذلك.

ابتسم، فابتسم أغلب الحاضرين. أخيّد لم يفهم الرمز. لم يدرك تلميح الشيخ، فعاد العجوز الحكيم يعلن: إذا أفلت الفارس من حسان القبيلة، فلا يجب أن يفلت المهري النادر من نوق القبيلة. أرى أن تستأثر نوقنا به. نريد نسلا من السلالة المنقرضة. المهاري البلقاء في إبلنا عمل ستحسدنا عليه كلّ القبائل. إحياء السلالة البلقاء وحمايتها من الانقراض واجبنا. ما رأي ضيفنا؟

لم ينتظر رأي ضيفه. أمر بتمكين المهري من النوق، فشاهد أخيّد في ذلك اليوم لأوّل مرّة كيف يلقح الذكر أنثى البعير.

… واصل مغامراته مع النوق السارحة في مراعي الصحراء، فكلّفته الفحولة العمياء داء الجرب. عاد من إحدى الغزوات كئيبا. انطفأ بريق المرح في عينيه الكبيرتين ودلى شفته السفلى أكثر. وقف في العراء هادئان صامتا، يشيّع الأفق المتراقص في ألسنة السراب السماوية، بنظرة حزينة.

كان خجولا.

لاحظ أخيّد كآبته، ولكنه لم يكتشف السرّ إلّا بعد أيّام. تفحّص وبره البهي وهو ينزع شوك السدر من جلده المبقع ويتفقده من القراد. في الجلدة، تحت الوبر، تمكّن المرض وسكن الالتهاب. حكّه بأصابعه، فتوجّع المهري، وصاح من الألم…

بعد أيّام لاحظ أنّ الجرب ازداد توسّعا والتهم مواقع جديدة من جسد الأبلق. ذهب إلى حكماء القبيلة طلبا للمشورة. أجمعوا على أنّ الأمل ضعيف في الشفاء. إذا تمكّن الجرب من البعير فلا أمل. لم يفقد الأمل. لم يتصور أن توجد قوة تخطف منه أبلقه. الخبير بداء الحيوان الأعمى هزّ رأسه، وأجابه على استنكاره: «اييه يا ولدي. بعد الضحك يأتي البكاء. الفرح يعقبه الحزن، والموت يأتي في غفلة الحياة».

لم يقتنع.

محمد النعاس.. خبز على طاولة الخال ميلاد

… عندما أوقظها صباحا، أترك قبلة على رأسها وأدعها تستعدّ، وأعود إلى المطبخ. أضع البيض على النار، وأجهّز إبريق الشاي. أُخرجُ رغيفي من الفرن ليبرد. أشغّل الراديو عن طريق المسجّلة القديمة، التي اشتريتها من سوق الرشيد ذات يوم، وأبحث عن فيروز تغنّي للصباح. زينب تعشق فيروز. أنا لا أحبها كثيرا. أجدها حزينة أكثر ممّا ينبغي. أحببت موسيقى الديسكو والريغي، وما وقعت عليه أذناي من موسيقى الرايْ. أفحص حرارة الرغيف الساخن، بينما يتسلّق بخاره من نافذة المطبخ تاركا عضلاتي في ارتخاء تام. لا يجب التلاعب بالرغيف وهو ساخن أبدا. يجب أن يرتاح دقائق. فاستواؤه لا ينتهي بإخراجه من الفرن. بعد وجبة الفطور، أملأ كأسيْ شاي إضافيين، ونتحادث قليلا. أشاكس زينب حتّى أحوّل عن جلدها توتّر التأخر عن العمل، فأنا أعرف تمام المعرفة أنّها تكره الصباح كبقية الليبيين. بعد الحديث أشغّل السيارة. لدينا سيّارة بيجو 404 موديل 69 مطلية بالتركوازي، ورثتها عن أبي. لقد بهت لون السيارة وكذا روحها التوّاقة إلى الطريق مع الزمن، لكنّها سيّارة مقبولة لم أستطع الخلّي عنها رغم ما تصنعه السيارات الجديدة من شهوة في صدري. أدع محرّك السيارة يسخن، بينما أشعل سيجارة الصباح، مترقّبا خروج زينب التي للأسف لم تتمكّن يوما من تعلّم القيادة. لكنّي مع السنوات صرت معتادا على مواعيد عملها. أسلّمها للمؤسسة ثم أعود إلى البيت، أو أركن البيجو في وسط البلاد وأتمشّى في أزقتها، أو أجلس بعض الوقت في مقهى. أحيانا يتعيّن عليّ قضاء حاجة، أو الذهاب إلى مكان عملي الحكومي للاطمئنان على سير مرتّبي، أو لتوقيع الحضور ومن ثمّ العودة إلى البيت. الأمر يتوقف، دوما، على جدولي الصباحي، ولكنّي في الغالب أُنهي كل هذه المشاوير مبكّرا قبل العاشرة. لدى عودتي إلى المنزل، أغسل الملابس وأواني الفطور، وأرتّب الصالون وغرفة النوم أو أيّ مكان آخر وقع فريسة لفوضى زينب. وكانت تلك الفوضى هي التي تحدّد الوقت التي أقضّيه في ترتيب المنزل وتنظيفه، فقد يستمرّ ذلك دقائق أو ساعات، وقد أحتاج أحيانا إلى يوم آخر أو يومين. أعتني بالنباتات. في الحديقة. لديّ أزهار عبّاد الشمس، وهي قصيرة العنق، تحصّلت عليها من المدام. لديّ أيضا شجرة حنّاء، أو بالأحرى كانت لدى جدّتي، فورثها أبي منها. قطعتُ غصنا منها وأنبته في بيتي الجديد. من هذه الحنّاء أصبغ خنصري الأيمن ويدي زينب وقدميها في الحديقة السفلية يوجد حبق، صبّار، نعناع… أحيانا، أتشجع لأتخلص من كسلي كالغبار، فأزرع الطماطم والفلفل. وأحيانا أخرى، أجهّز حبوب الذرة والبطيخ لزراعتها في الصيف، إن تذكرت. عندما أنتهي من النباتات في الحديقة ونباتات الزينة في الشرفة التي تعلو «الجنان» بمتر واحد، أنشر الغسيل على الحبل. لاحظت طوال حياتي أنّ النساء يكرهن نشر الغسيل، أو إعادة ترتيبه، لكنّي تعلمت الهدوء والغوص في أفكاري عند فعل ذلك. أبدأ بنشر موتانديات زينب الرقيقة والصغيرة، ثم موتاندياتي وهكذا. من القطع الصغيرة إلى الكبيرة. سرعان ما يأتي منتصف النهار، قبيل الضحى، أجهّز إبريق شاي بالقرفة، ثم أقضي ساعة أو ساعتين في مشاهدة التلفاز، ليس هناك الكثير لمشاهدته مع جهاز البثّ، أقلب القنوات العشرين التي في متناولي، حتّى أجد ما يمكنني مشاهدته، مبارة كرة قدم معادة، مسلسلا سوريا أو أتابع أخبار العالم. تأتي أيام ولا أشاهد إلا قناة الجماهيرية. أتابع فيها مؤتمرا أو خطابا للأخ القائد. عندما يصيبني الملل أنهض لأعدّ الغداء. أخرج من البيت لإحضار زينب، ثم نتغدّى. أقضي المساء في تجهيز خبز الغد، أو في صناعة الكعك والحلوى. في الليل ننشغل بمشاهدة التلفاز، أو الحديث، أو أذهب إلى «براكة» العبسي…

-متناديات: جمع موتاندي Mutande بالإيطالية «سروال داخلي»

هشام مطر.. في بلاد الرجال

أتذكّر الآن الصيف الأخير قبل إرسالي إلى الخارج. كان ذلك سنة 1979. والشمس كانت في كلّ مكان، حيث استلقت طرابلس تحتها رائعة وساكنة، بينما استمات الناس والحيوانات والنمل بحثا عن الظل. رقع الرحمة الرمادية التي نُحتت في البياض الطاغي على كل شيء. لكن الرحمة الحقيقية تُقبل ليلا، نسيم برّدته الصحراء المقفرة، وندّاه البحر المدمدم، إنه ضيف متردد يجتاز الشوارع الخالية صامتا، غير متأكد من المسافة التي سيُسمح له أن يقطعها في عالم النجم الهائل. إنه يصعد الآن، مخلصا كحاله أبدا، يطارد النسيم المبارك، فيما الصباح يوشك أن يطلع.

كانت نافذة غرفة نومها مشرعة، وشجرة الصمغ في الخارج صامتة وخجولة الخضرة تحت الضوء المبكر. لم تنم إلّا بعد أن تضمّخت السماء بالفجر الرمادي. وحتى حينذاك كنتُ أكثر تشوشا من أن أستطيع مغادرة مكاني بجانبها، وكنت لا أنفك أتساءل، ما إذا كانت، ستهبّ جالسة من جديد، مثلما يحدث مع عرائس الدمى اليدوية التي تتصنع الموت، لتشعل سيجارة أخرى وتعاود استعطافي، كما فعلت قبل دقائق دقائق قليلة، أن لا أخبر أحدا، لا أخبر أحدا.

… اصطحبتني إلى وسط البلد، قاصدين بائع السمسم في السوق المجاور لميدان الشهداء، الميدان المشرف على البحر، الميدان الذي ينتصب فيه بفخر تمثال سبتيموس سفيروس، الإمبراطور الروماني الذي وُلد منذ زمن بعيد في لبدة. اشترتْ لي الكمية التي طلبتها من أصابع السمسم، كل أصبع منها ملفوف بورقة شمعية بيضاء مبرومة من نهايتيها. لم أوافق على أن تودع الأصابع حقيبتها. ففي مثل تلك الصباحات كنت دائما عنيدا. «ولكنني أريد القيام بمزيد من التسوّق» قالت. «وأنت هكذا ستوقع الأصابع»، «لا» قلت عاقدا حاجبيّ، ثم وقبل أن أمضي غاضبا، غير عابئ أن أضيعها أو أتيه عنها في المدينة الكبيرة، أضفت «سأنتظرك خارج السوق» «اسمع» صاحت ورائي مثيرة بصوتها انتباه المارة، «انتظرني عند سبتيموس سفيروس».

… كان الميدان خارج السوق فيّاضا بنور الشمس. أمّا الأرض التي بيّضها الوهج تقريبا، فجعلت الأحذية والأجساد الداكنة التي اجتازتها أشبه بأشياء تطفو فوق العالم. ندمتُ لأنني لم أترك أصابع السمسم معها، بعد أن بدأت إبر صغيرة تخزّ ذراعيّ. وبّخت نفسي على عنادها وعلى إلزام ماما شراء الكثير منها لي. ألقيت نظرة عليها بين يديّ، وشعرت أن نفسي تعافها.

اتكأت على القاعدة الرخامية الباردة لنصب سبتيموس سفيروس، وتأملت الإمبراطور الروماني الذي يعلوني، بحزامه المرصع بالفضة يتدلّى تحت بطنه، وذراعه تشير صوب البحر، «يحثّ ليبيا لتنظر تجاه روما»، حسب ما وصف أستاذ رشيد تلك الوضعية. كان أستاذ رشيد يدرّس تاريخ الفن في جامعة الفاتح، وكان والد كريم أعزّ أصدقائي. استرجعت في ذهني قائدنا وهو يقف الوقفة نفسها في يوم الثورة، وقد تهندم بإحدى بزاته العسكرية، وراح يلوّح بذراعه بينما مرّت الدبابات أمامه.

نجوى بن شتوان.. زرايب العبيد

… سوق الجريد مزدحم كعادته، يعجّ بالرجال وبالعبيد من الجنسين، مكان من العيب أن تدخله نساء الأحرار. تجرّأتْ كامرأة حرة وذهبت إليه رفقة مفتاح إلى المكان ثم قال لها إنه سيكون قريبا متى انتهت كي يعود بها.

سيدة شابة في ثياب إفرنجية، غير التي ترتديها النساء المحليات، تبحث عن تاجر يدعى علي بن شتوان. أوصلت له العيون الخبر فترك بيعه وشراءه وجاء مهرولا على عجل. أدرك أنها هي لا سواها. لم يكن هذه المرة في إزاره، بدا لها مختلفا عن المرة السابقة، شعره المكسو شيبا أجمل ما فيه مع طوله ونحافته وبياضه، وجهه وسيم، وزيّه العربي نظيف. إنّ له حقا هيئة تاجر.

سلّم دون مدّ اليد إليها عندما رآها. شعر بالحرج لمجيئها إلى السوق، ففي اعتقاده السوق مكان لا يليق بالنساء ذوات الشأن. قال لها: لماذا أتيت بنفسك؟ لماذا لم ترسلي أحدا ورائي؟

تبسّمت في سخرية: لا تخش عليّ من قالة الناس، فأنا لست من «الحرار» لكي يأبه الناس بسمعتي أو مسيرتي. لا أحد يعرف من أنا وبالكاد يعرفونني باسم عتيقه الممرضة.

-حاشاكِ حاشاكِ.

تقدّمها على حرج مفسحا الطريق أمامها للمرور. إنّه لا يودّ أن تبدأ العلاقة بينهما بهذا الفارق الذي يسعى لإخفائه ويريد التخلص من تبعاته. كان في الدكان عبيد يعملون في ترتيب البضائع فقام بصرفهم، ووضع كرسيا في مدخل الدكان دلالة على أنه مغلق.

جنّبها في جلوسها أن تكون مواجهة للباب، كيلا يراها العابرون من أمام الدكان. كان سعيدا بحضورها وبرؤيتها، إنها متكاملة أمامه لأول مرة كما لن يتخيلها من قبل. حاول قدر المستطاع تلطيف الجلسة الأولى معها. طلب لها الشاي وسألها عن حياتها بشكل عام كيف تسير كمفتتح للحديث، ثم سكت عندما رآها تختصر الردود وتطيل الصمت وكأنها جاءت لتسكت. كانت تقلب نظراتها في الدكان وكأنها تكتشفه، وكانت فرصته ليحدق فيها، فيجدها شابة تميل للاسمرار، طويلة ونحيفة خالفت الصورة التي تخيلها لها، جميلة، وخلافا لفكرته عن النساء فهي لا تلبس اللباس العربي، وتخرج للعمل في مؤسسة.

ليقطع الصمت بينهما قال: هذا دكان جدي الأصلي الذي انطلقت منه تجارتنا.

هزّت رأسها صامتة، فأضاف: والدكِ كان يعمل هنا، ومكانه الذي يجلس فيه ليس وراء طاولة البيع.

وكأنّها كانت تفكر بشيء آخر عندما سمعته، قالت: ماذا؟ أين؟

أشار إليها: حيث تجلسين الآن.

-هل لديك عمل أشغلك عنه؟

-كلا، كلا، تفضلي! أنا سعيد بمجيئك، قد لا تصدقين ذلك ولكني حقا سعيد.

كانت لها ابتسامة شخص ساخر من عبث ما يحدث أمامه. فجأة عادت الصرامة إلى ملامحها وقالت له: احك لي.

تردد قليلا قبل أن يسألها: ماذا تريدين أن أحكي لك؟ هاجمته نوبة سعال، احمرّ وجهه ودمعت عيناه. انتظرته ليلتقط نفسه وسألته: هل أنت مريض؟

-لا. لا تهتمي بي الآن، واحكي لي.

-أي حكاية؟ ليس عندي ما أرويه.

-ما تحبين معرفته أو أي شيء.

-لماذا بحثت عني؟

وكأنّ سؤالها فاجأه.

 

محمد الأصفر.. شكشوكة

… في بداية قيام الحي لم يوجد به مسجد. تمّ بناء مسجد جميل سمّي على اسم أحد الصحابة رضوان الله عليهم. لكن الاسم الشائع حتى الآن هو مسجد سوق العبيد. مسجد ظريف صغير بمئذنة واحدة وقبة بيضاوية واحدة زاخر أسفلها بالثريات… المسجد بناه مهندسون وعمال مهرة من باكستان. أنجزوه في زمن قياسي، وبمواصفات إبداعية رفيعة الجودة.

بيوت الحي ليست مكتملة. قطع أرض تجانب بعضها. مسوّرة بجدران إسمنتية. كل قطعة لها باب خشب وباب حصيرة معدنية للمرأب وصنبور ماء عند المدخل. على كل ساكن أن يبني داخلها بالطوب الإسمنتي أو الجيري أو الصفيح. غرفة ومطبخ وكنيف لقضاء الحاجة. أما الكهرباء فمازالت آنذاك مقتصرة على مركز الشرطة والبريد والعيادة والسينما والمدارس.

قبل الثورة كان اسم الحي مشروع إدريس بعد الثورة سمي الحي بحي الإسكان الذاتي أو بحي المحيشي. بعد سنوات وعلى إثر محاولة انقلابية فاشلة تزعمها عضو مجلس قيادة الثورة عمر المحيشي تغيّر اسم الحي إلى حي المختار. ثم حي العروبة. ثم حي السلاوي. ثم حي المختار من جديد. لكن الاسم الذي ثبت في ذاكرة الناس هو حي المحيشي نسبة للقب المهندس الذي أشرف على إنجاز المشروع ونسبة لسواني المحيشي وأرضه الملاصقة والمتداخلة مع أرض الحي. هناك اسم آخر شهير معروفة به المنطقة هو المنطقة الدائخة. لا ندري بالضبط من أطلقه عليها. وأطلق عليها لزعمهم بوجود كل مقاطر الخمور المحلية (القرابا) في هذه المنطقة غير المضاءة والمنعزلة والبعيدة نسبيا عن وسط المدينة. من الأسباب التي جعلت البلدية تخصص منطقة حي المحيشي لسكان زرائب العبيد وحلاليق راس اعبيدة والكيش هو قرب هذه الأحياء العشوائية من المدينة وتأثير فوضى وصخب هذه العشوائيات على العمران المنظم المتمتع بكل خدمات البنية التحتية وغيرها. وفكرت أين تنقلهم. الصحيح تبعدهم. في البداية أرادت أن تشتري لهم أرض بن يونس المتاخمة لسبخة السلماني من مالكها. لكن اختلف معها في السعر فلم يبع وباع مالك أرض المحيشي للبلدية مساحة أقيم عليها الحي بسعر معقول. لتقسمها لاحقا قطعا صغيرة وكبيرة وتسورها بترويسة واحدة. أربعة مربعات بارزة على الواجهة. أربعة مستطيلات من المشربيات ذات الفتحات الأربع. طلاء الواجهات كله بني طوبي. القطع الصغيرة بها ثلاثة مربعات وثلاثة مستطيلات من المشربيات خُصصت لأصحاب الأسر الصغيرة رأس ورويس (رجل وامرأة). ولكي تمنح هؤلاء المعدمين ثقة في أنفسهم وسند تملك لهذه القطع طلبت من كل مالك أن يسدد ثمن الأرض وهو مبلغ رمزي صغير، دفعه في متناول الجميع. بعد الثورة منحهم المصرف العقاري قروض بناء حوالي ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف فبنوا هذه القطع بالطوب والزلط وحديد للتسليح والإسمنت لتتحوّل إلى مساكن صحية نوعا ما.

قطن حي المحيشي خليط من كافة القبائل الليبية. معظمهم من ساكني أكواخ الصفيح والزرائب والعشش التي كانت منتشرة في أحياء الصابري ورأس عبيدة والسلماني والرويسات والكيش وغيرها. أناس فقراء. مستواهم الثقافي بالنسبة لأولياء الأمور والكبار ضحل وأكثرهم أميون. لكن بالنسبة للشباب فمعقول وجيد. معظم الشباب اجتهد وتعلم، فأغلبهم يمارس الرياضة يقرأ الكتب والجرائد والمجلات المنتشرة آنذاك. يلعب الشطرنج. يرتاد دور العرض. هايتي. النصر. الاستقلال. النهضة. يحضر الحفلات الغنائية. يشاهد المسرحيات في المسارح، ومنهم من لديه جواز سفر يسافر كلما سنحت له الحالة المادية إلى مصر ومالطا وإيطاليا واليونان…

 

سميرة البوزيدي

شاعرة ليبية من مواليد 1971 مدرسة مادة التاريخ نشرت في العديد من الصحف والمجلات الليبية والعربية، من كتبها الشعرية: أخلاط الوحشة/ يضيء نفسه/ جدوى المواربة.

   

أوقات فراغ

عندي أوقات حافلة بالفراغ

الضجر يبول عليها

والطيور تضع فضلاتها

على رأسها

أين سنذهب هذا الصباح

وأصوات القذائف

ترعد القلوب

ترعد القلوب

يقولون: ابقوا في بيوتكم

وأقفلوا النوافذ

وأنا أتوق لفنجان قهوة

في مقهى خال

بموسيقى خافتة وكتاب في يدي

هذا ترف كبير

هنا ينبغي أن تكون ضمن القطيع

تثغو حتى يتقطع قلبك

وتموت بقذيفة عشوائية

في وقت عشوائي

أنا لا أخاف من القذيفة

أنتظرها

وأفتح نوافذي لها

رفقة الله أفضل من هذه البلاد

والقطيع

والمقهى الوهميّ.

 

قرية حزينة

ليبيا قرية حزينة

ظاهرها وباطنها اختلط

كما اختلط نفطها

بالفقر والحرب والموت

وأشياء أخرى

لا أريد ذكرها

في هذا الصباح الفائح

المهم

الساسة في تكاثر

والحكومات تتناسخ

والناس موتى

وما هم بموتى

كل صباح من شرفتي

التي تطل على مطعم البيض المقلي

استمع للهراء الليبي كله

صفقات السيارات

سعر الدولار

شتم الجلالة التي يستمع ربها أيضا

العراك على ركن السيارة

كأن البيض سيتم

رنين الهواتف

صوت المرأة المسنة نفسه

منذ سبع سنوات: حويجة لله

والله لا تصله سوى الجثث

وزعيق المنابر

استمع إلى السباب الفاحش

حتى حفظته الجدران

سبع عجاف من البيض المقلي

والشعب في الاتجاه المعاكس

لا وصل ولا انتهى

سبع سنوات وشرفتي المطلة

على هذا البؤس

امتلأت بالسخام

ليبيا بلدة حزينة

تصطنع البهجة في الصباح

وفِي الليل تبكي طويلا

تماما مثل جارتي الأرملة.

 

 

جمعة عبد العليم

شاعر من ليبيا له ثلاثة دواوين: «عصيان الكلام وأشياء أخرى» و«عمرآخر» و«نشوة القول».

 

خوف

أخاف أن أحبك

وأنا لا أصلح لشيء..

قلبي قضمته أنياب القسوة

ومفردات الغزل

تحولت لمدافع رشّاشة..

برد فبراير

في غياب الكهرباء

وبكاء الأطفال

لأجل أصابع الموز

وحبات البرتقال

وعواء الرغبات

في أسرة الأرامل

لا شيء يدعو إلى الفرح..

والفخاخ التي نصبناها

لاصطياد اللحظات السعيدة

لم تلتقط إلا فرائس الخيبة..

أخاف أن أحبك

لصوتك العذب

ولكن الصدى

مملوء بصرير الجنازير

ودوي الدانات

وأنين الأطراف المبتورة..

الجمال يتبدد مع الأطفال المشردين

تبتلعه الرمال الباردة

في ليل فبراير

مع الزوجات الصابرات

على ضنك الشوق

المنتظرات لأصوات الأحذية

وهي تخترق جدار الغربة..

لم تترك لنا الحرب شيئًا

الأعشاش تسقط من ذاكرة الوطن

والعصافير بلا أجنحة

والغناء

يضيع في أزيز الرصاص

 

 

سعاد يونس

مواليد طبرق 21-10-1974. حاصلة على الإجازة في علم نفس سنة 1999 عملت في مجال التعليم. لها العديد من النصوص المنشورة في الصحف والمجلات المحلية والعربية. من دواوينها «أراك ولا أراك».

 

الطفولة ودهشة الحرب

نحن
النابتون هنا من أين جئنا؟
يا أمي ..
هل ينمو الخبز معنا
أم نحن من يصنعه؟
يا أمي
ما شكلُ زهرة الرصاص
حينما يُبذرُ فينا؟
وهل يعني الوطنُ يا أمي
أنْ نكون؟!
يا أمي ..
من أين جاء الله
بكُلِّ هذا التراب
كي يصنعَنا؟

 

في مَهَبّ المنفى

ليته لم يزل

الغريب الذي لم يزل

يسكن ظله

يبحث عن نفسه في الملامح

ينتعل الأمس ويمضي

يسكب حيرته

في عيون العائدين

ويسأل ..

من منكم رآني هناك

أنا العائد

قبل قليل من هناك

من منكم ..

رأى وطني يحتويني .

 

 

الكيلاني عون

شاعر وتشكيلي من ليبيا، صدر له: «لهذا النوم بهيئة صيد» و«شائعة الفكاهة».

                 

قتلتُ رجلاً لا أعرفه وجلستُ أبكي عليه

قتلتُ رجلاً لا أعرفه

كان يملأ جيوبه ببذور اليقطين والبازلاء

ولديه سلّة لهاثٍ مطعون للتو

وعلى كتفيه منزلٌ صغير

ورسائل عشيقات ذُبِحْنَ قرب غدير النوم

وحيداً كان يجرُّ خيالَ الحذر المقسوم وراءَ عواءِ

الأزلِ المعذَّب

وحيداً وخائفاً من هدير الشاحنات البعيدة

وهي تلتقط الجثثَ التي تهرول كزياراتٍ عمياء

للصفير

صمته لم يثنني

ونظراته المكسورة لم تكن كافية

لأعرف قلبي

لأتذكَّر من كنتُ وكيف غادرتُ الحربَ

عائداً إلى كنوز المجهول بلا شيءٍ سوى بقيَّة طلقاتٍ

ادخرها لذئبِ اليأس المتربِّص بالظلال

كالمسَّاح يختلس المصائرَ مثل الزوايا المكشوفة

لبراهينه

كان نحيلاً مثل معركةٍ تتخبَّط في الصلح

وكئيباً يشمل الأنحاءَ بدموعه

تمتمَ شيئاً وهو يبتسم للهواء البارد

وأنا أُصوِّبُ إليه بندقيتي أوصاني أن أنام قليلاً

وقال عدني ألا تترك مدينتي في العراء

كان يضحك ودمه يتناثر كالريش

تارةً يحمِّلني صورَ أطفاله

وأخرى يخطّ على الرّمل كلاماً لا أفهمه

قال لي ألف مرَّةٍ: استرح فوجهكَ شاحبٌ

من الجوع والعطش والمسير

والحرب في أول الكأس

 

قتلتُ رجلاً لا أعرفه

وجلستُ أبكي عليه

 

سمعنا الناس 

سمعوا أننا نرسم قلوباً بدل البنادق 
وأننا محونا المجازر من ذهن المدارس 
وحرقنا صور الدبابات ونكات المحاربين البذيئة 
وخلَّصنا بقرة النوم من طين الأرق
وأهدينا لكل عاشقٍ وردة وبرتقالة 
سمعنا الناس 
لكن الحرب كانت بلا أذنين.

 

أيها النجّار اصنع لي باباً ضيِّقاً    

أيها النجار
اصنعْ لي باباً
باباً ضيِّقاً كحنجرةِ العصفور
أخرجُ منه بصعوبة
لا أريده ناعماً كخدِّ الطفولةِ
اتركه قاسياً بمسامير تمدّ سيقانها
خارجَ النوم
دعني أخوض التجربة
فيتمزَّق قميصي وأنا أخرج منه
وتنهش ذئابُ الندوب صدري
ويشرب الهواءُ بعضَ دمائي الملوَّنة بالأصدقاء
وأمشي مثل ولدٍ سيقابل نفسه لأوَّل مرَّة
مثل جريحٍ يتأوّه كلَّما سحبَ مسماراً
من دمعته
وسهماً من مخاوفه

فيراني القناصُ ويومئ لي 
كواحدٍ من ضحاياه السابقين
كواحدٍ من رسائل جنَّتهِ المغلقة 
***
أيها النجَّار 
اصنعْ لي باباً 
ضيِّقاً كعيدِ مدينتي 
لا أستطيع الدخول منه إلى غرفتي 
بوزني وهو يزداد كلَّما عدتُ 
بكلِّ هذه الأشجار 
التي تعتبرني بيتها
وكل هذه الأصوات التي تتعرَّف بداخلي 
على بعضها 
وبكل القطارات التي سارت على جثَّتي 
وكل الظلام وأنا أرسم عليه 
رياحاً بيضاء كالفرس الأخيرة 
في بلاد الكتب المأخوذة بانتصار الغريق 
***

أيها النجَّار 
اصنعْ لي باباً ضيِّقاً 
ضيِّقاً وحسب 
أجلس إليه، أُحدِّثه فيكبر 
وأدخل بحشد هزائمي 
وأتركه مفتوحاً للآتين بأعذارهم

 

فرج بشير أبو شينة

شاعر ليبي من مواليد مدينة الخمس سنة 1965، من أهمّ أعماله الشعرية «الصعود من أسفل» و«العالم يستبدل ثيابه» و«نزاهة السم» و«مرافعة ضد النوم».

 

ضُلوع

سأعترفُ
بكل شيء:

 

أنا الذي
اقتحم غرفة الهدوء
عبث بأغراضها.

نزع عن
حائط الفطنة
مُلصقات السهو.

خبّأَ في الماء
أقراصاً منوّمة.

أشعل حرباً
بين نارين.

أنا الذي
فعل كلّ هذا
تاركًا بصماتي
على مقبض
باب الكتابة.

 

 

ورأيتُ

 

ثلاثة أنفار

   بوجوه مُلثمة

 

   يعبرون الليل:

الأول يحملُ فأسا

الثاني يحملُ سلاحا

الثالث لا يحمل شيئاً.

 

ظلّ اثنان:

واحد يبني حفرة

آخر يصنع جثة.

 

ظلّ واحد:

ليحمل السّر.

 

 

أفلاطون الصغير

جلسَ

أفلاطون الصغير
إلى طاولة الحكمة
وقرر
أن يرسم شجرة.

في المرة الأولى
نسى
أن يرسم للشجرة
ثماراً.

في المرة الثانية
نسى
أن يرسم للشجرة
أوراقاً.

في المرة الثالثة
نسى
أن يرسم
في أعلى الشجرة
غيمة.

في المرة الأخيرة
تعمّد أن يرسم
في أسفل الشجرة
خريفاً يترجّل.

 

 

صالح قادربوه

من أعماله الشعرية «التأويل الوردي لبياض الكوكب» و«تقنية المرح»

 

جرد سريع لأوهام المخيلة

نتصافح بالقرب من تقلب الماء
من تصادم نملتين على حبل العطش
نتصافح بالقرب من أكذوبة الصوت الخفيض
وننتزع أصابع التقاليد في دوخة المصافحة
ثم نتهيأ للجلوس على فكرة الفأر والمصيدة
الفراهيدي لا يوزع ملوحة البحر الكامل
في قناني التفاعيل
إنه يركل كرة الإيقاع إلى شاشة الحاسوب
يقرأ مجلة ميكي بتلذذ العارف
ويتثاءب لأشخاص العقرب لمتابعة مايجري
نتصافح بالقرب من نكتة باردة
لا تكفي لسد فسحة النحيب
دون أيد نؤنس جرعة الكبت اللازم
ونكسر الكلس بعبارات فارغة القصد
ليست بفارعة

نتصافح .. بعيدا جدا عن التمام الصباحي البارد
ونقسم العمل على حرث اللغة بيننا
أختار المسحاة لشبهها في اللفظ بالممحاة
ويختارون الحلي بذارا للتعثر السافر
في تأويل بدائي للرعد
بقدم واحدة يقف اللقلق على خيط الهاتف الخلوي
مستندا إلى بثور في اليقين
أشك أنني فهمت درس النعت
يشد المشاء أذن جاليليو
ويوقف رقصة الكرة في اتجاه واحد
لربما يكذب الصراف في موعد نزول المرتبات
لربما ثرية الشحاذة المقعية جنب الباب
لكنني أفتك من نيوب الجيب الأعور ما تبقى من الحظ
وأدسها في دعاء قد يكون صادقا
أعود لمصافحة مترو الأنفاق المسمى غيبا
وأنسى بطاقة الخروج
فأقفز
كم تبدو الغيمة خجولة قبل المغيب
والنجمة المنفلتة من موعد ارتداء النهار قميص
النوم
تبدو وقحة بما يكفي للتفكير في حساب اليوم
جرد لأشياء تخصني وحدي
مازالت بلاغتكم تعتبرها نثرا بليدا.

 

 

خالد درويش

من أعماله الشعرية «بصيص حلق» و«زقزقة الغراب فوق رأس الحسين»

 

أنا الليبي متّصل النشيد

مرتكب الحضارة في الرمال وفي الكهوف

أسأل عن جدودي في وجودي

عن طريقة الحب القديمة

عن أساليب صيد النار

عن مصارعة الأسود

كيف كانت الحناء في كف العذارى

وهل حقاً هذه الصحراء غادرة

فكيف عاشوا (في الخرائط) في المواعيد

أنا الليبي متسع من الأحمال والأفياء

جبار الوجود

رياحيني بواكير المسافات الهجينة

واختلافات التضاريس من الحدود

إلى الحدود

أنا الليبي متصل النشيد

أنا الليبي متصل النشيد

مقلتان

وينحني الكون المؤله في تراتيلي الحميمة،

مقلتان ويدخل الليبي من طقس الخلود

إلى طقس الخلود.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى