شوف تشوف

الرأي

في الحاجة إلى مشروعٍ عربيّ

عبد الإله بلقزيز

حين ترسُم الدّراسات المستقبليّة ودراسات الاستشراف سيناريوهات (=مَشاهد) محتَملة لما سيكون عليه العالم غدًا، ولتوزيع موارد القوّة بين دوله، لا نَلْحظ مكانًا ومكانةً للدّول العربيّة في تلك المشاهد. وليس مردّ ذلك إلى أنّ الأعظمَ الأغلب في تلك الدّراسات هو ممّا أنجزتْه مراكز أبحاث غربيّة؛ وأنّ هذه مسخّرة لأداء وظيفةٍ في خدمة دول الغرب والكيان الصّهيونيّ و، بالتّالي، ليس من الوارد عندها إنصاف بلدان الوطن العربيّ أو توقّع صيرورة بعضها أكبر حجمًا ممّا هي عليه اليوم، بل لأنّ واقع الحال يشهد، فعلاً، أنّ تعثّراتها وأزماتها الرّاهنة، وتواضع مواردها وإمكانيّاتها لا تتيح لها أن تصير، غدًا، في عداد القوى الكبرى في العالم، أو أن يُحسب لموقعها في النّظام الدّوليّ حساب.

لسنا، هنا، نجحد حقيقة ما أحرزه البعضُ القليل من الدّول العربيّة في مضمار البناء التّنمويّ: الاقتصاديّ والاجتماعيّ، في العقود الثّلاثة الأخيرة، لكنّنا ندرك – في الوقت عينه – أنّ التّنميّة هذه تحتاج إلى أن تتعزّز بتنميّة الاقتصاد الإنتاجيّ (الصّناعيّ والزّراعيّ والتكنولوجيّ)، ووجود سوق الاستهلاك الدّاخليّ الكبير؛ وتحتاج إلى القوّة العاملة الماهرة الوطنيّة والقوميّة، لحِفظ الأمن السكّانيّ والتّوازن السكّانيّ، وتحتاج إلى أمنٍ قوميّ ذاتيّ يحميها من أيّ مخاطر خارجيّة. وهذه جميعُها، وسواها من مستلزمات التقدُّم، ممّا لا تَقْوى عليه دولةٌ واحدة، من دول الوطن العربيّ، بإمكانيّاتها الذّاتية المحدودة. حتّى دول كبرى، في المحيط العالميّ، أُجبِرت على أن تتّحد في نظامٍ إقليميّ كبير حتى تقْوى على مواجهة التّحدّيات الكبرى التي باتت تُلقيها العولمة على بلدان العالم كافّة: على اقتصاداتها وأمنها.

عالمُ اليوم عالمُ الكبار. إنْ لم يكن هؤلاء دولاً قوميّة كبرى بحجم الولايات المتّحدة والصّين وروسيا والبرازيل والهند، بمواردها الطبيعيّة والبشريّة الضّخمة، وأسواقها القوميّة الهائلة، فليس من سبيل إلى صيرورة الصّغار كبارًا إلاّ من طريق الاتحاد في أطرٍ إقليميّة كبيرة جامعة يكون بها تعظيمُ الموارد وتوسعةُ الأسواق. ولقد سعت إلى هذا المسعى دولٌ لا روابط قوميّة أو لغويّة أو ثقافيّة بينها سوى روابط الجغرافيا؛ وتلك، مثلا، حال الاتحادات التي قامت في أوروبا وآسيا (الاتّحاد الأوروبيّ، رابطة الآسيان بين دول جنوب شرق آسيا)، فما الذي يمنع، إذن دولاً عربيّة تنتمي إلى الأمّة عينِها، وتشترك في ثقافةٍ واحدة ولغة واحدة، ويربطها مصير مشترك، من أن تَنْحُو هذا المنحى من التكتّل والاتحاد على النّحو الذي تَصنعُ لنفسها به القوّة والمهابة والمكانةَ في النّظام الاقتصاديّ والسّياسيّ الدّوليّ، وتحمي به حقوقها ومصالحها؟

في الوضع الإقليميّ المحيط فقط – حتّى لا نتحدث عن الوضع الدّوليّ – ثمّة مشهدٌ لمشاريعَ ثلاثة تمتحن وجودَنا وتتحدّاه، وتفرض على حاضرنا ضغوطًا متفاوتة الحجم، بل يبلغ تهديدُ بعضها، أحيانًا، للأمن الوطنيّ والقوميّ حدود الاحتلال السّافر للأرض ونقص السّيادة. ونعني بهذه الثّلاثة: المشروع الصّهيونيّ، والمشروع القوميّ التّركيّ، والمشروع القوميّ الإيرانيّ. لا حاجة بي إلى القول إنّ الصّراع مع المشروع الصّهيونيّ صراعُ وجود: يكون هو أو يكون الوطن العربيّ، وما من منزلةٍ في هذه الحال بين منزلتين. ومع ذلك، ينبغي أن لا نتجاهل التّحديات التي تفرضها علينا سياسات المشروعين التّركيّ والإيرانيّ في منطقتنا، وفي مواجهة الكثير من مصالحنا ومن حقوقنا التّرابيّة.

الغائب الأكبر في المشهد الإقليميّ، المحيط بالمشرق والخليج والمغرب العربيّ، هو المشروع العربيّ: المشروع المعلّق على صليب الانتصار إلى ما شاء اللّه، أو المشروع القوميّ الوحيد الذي لم يتحقّق في العصر الحديث! وفي كنف هذا الغياب، لن يكون في مُكْن العرب أن يواجهوا مشاريع الأعداء والخصوم المحيطة بهم، وسيحاولون – عبثًا – أن يكُفّوا عنهم أخطارها وهم مُجَزّؤون لا حوْل لهم ولا قوّة. ولن ينوب عنم أحدٌ في العالم ليحميَهم من مغبّة أخطار هذا وذاك إن لم ينهضوا هُم بواجب تأمين أنفسهم. حتّى القانون الدّوليّ نفسُه سيظلّ عاجزًا عن إنصافهم في النّزر اليسير ممّا اعترف به من حقوق لهم؛ «فما حَكّ جلدُك غير ظفرك» كما يقول المثل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى