في الحاجة إلى كيسنجر
معن البياري
يذهب المحرر في «نيويورك تايمز»، باري غوين، إلى «أن العالم في حاجة ماسة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى أفكار هنري كيسنجر ومواهبه، في خصوص كيفية تجاوز الفوضى في عالم لا يعمل جيدا». يطرح قولته هذه في كتاب له صدر، أخيرا، في نحو 450 صفحة، عن سيرة وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، الأشهر، الذي يتم في ماي المقبل 98 عاما. ويكتب مايكل هيرش، في «فورين أفيرز»، في يونيو الماضي، إنه «لا بد من وجود كيسنجر في العالم ثانية، أقله بالنسبة إلى واشنطن». ويكاد المنصت إلى ما يواظب السياسي الأمريكي العتيد، منذ أعوام، على إشهاره بشأن العلاقات الأمريكية الصينية، أن يصدق على «حماسة» المعلقيْن الخبيريْن، فيرمي (ولو مؤقتا) كل مسبقات لديه عن ثعلب السياسة العجوز، بداعي فائض الحكمة في تحذيرات الرجل المتواترة مما سيذهب العالم إليه، إذا لم تصل الولايات المتحدة والصين إلى «تفاهم» على نظام عالمي جديد لضمان الاستقرار. يقول هذا، يوم الجمعة الماضي، في كلمة عبر «زووم»، في ندوة نظمها المعهد الملكي للشؤون الدولية في لندن، ويوضح أن العالم إذا لم يتم هذا الأمر، سيكون في الوضع الذي سبق الحرب العالمية الأولى في أوروبا، حين كانت الصراعات تُحَل فورا، لكن أحدها كان يخرج عن السيطرة، «فيما الحال الآن أكثر خطورة». ويسترسل كيسنجر إن الأسلحة فائقة التكنولوجيا التي يمتلكها الجانبان (الصين وأمريكا) قد تؤدي إلى «صراع خطير للغاية». وستجد الولايات المتحدة، على الأرجح، أن «من الصعوبة بمكان أن تتفاوض مع خصم، مثل الصين، سرعان ما سيتفوق، ويصبح أكثر تقدما في بعض المجالات».
لم يعد كيسنجر عضوا في مجلس السياسة الدفاعية التابع للبنتاغون، منذ نونبر الماضي. ولم يكن لبقائه، بصفته الاستشارية في المجلس، ليؤثر في شيء، في غضون التوتر المتصاعد في العلاقات مع الصين، وهو الذي وصف، قبل سنوات، إنجازات هذا البلد بأنها «لا تصدق». ونصيحته أعلاه، المتجددة المكررة، ليس باديا أن إدارة الرئيس بايدن تكترث بها، وهي تواجه «التحدي الصيني». ليس فقط لأن شخصا اسمه جاك سوليفان يرأس مجلس الأمن القومي، وأن ملف الصين في المجلس يتولاه شخص اسمه كورت كامبل، واثناهما يتبنيان «الاستعداد لمرحلة المواجهة» مع الصين، وإنهاء الشراكة معها في غير شأن، على ما كتبا في «فورين أفيرز» في 2019، بل أيضا لأن أهم ما عُرف عن مباحثات ألاسكا، الأسبوع الماضي، في أول حوار مباشر بين إدارة بايدن وبكين (هل بيجينغ الأصح؟)، شارك فيه وزيرا الخارجية ومسؤولون رفيعون، هو الحدة والتراشق الكلامي، وأن «عنجهية» بدت في كلام المسؤولين الصينيين، على ما قيل. وأيضا لأن الحوار الهاتفي ساعتين بين الرئيسين، بايدن وشي جين بينغ، قبل أزيد من شهر، لم تُلمَس في عقابيله أي علائم تهدئة في اللغة الخشنة التي لم تتوقف من واشنطن وبكين، من قبيل قول بايدن إنه لن يسمح بأن تكون الصين الدولة الأولى في العالم، طالما هو رئيس الولايات المتحدة. وثمة وثيقة «التوجيه الاستراتيجي المؤقت للأمن القومي الأمريكي»، الصادرة في مارس الجاري، أوردت في صفحاتها العشرين الصين 15 مرة، منها ضرورة أن تتأهب الولايات المتحدة لمخاطر هذا البلد، وهو «المنافس الوحيد القادر على الجمع بين القوة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية، وتحدي النظام الدولي المنفتح المستقر».
الخلافات بين البلدين كثيرة ومعلنة، يعرفها كيسنجر الذي لم تمنعه سنه المتقدمة، ولا مسافة 20 ساعة طيران، من القدوم إلى بكين، قبل أقل من عامين، ليحذر في منتدى فيها، من حرب أسوأ من العالمية الأولى، وليقول إن الولايات المتحدة والصين تقفان عند حافة حرب باردة جديدة. وفي أكتوبر الماضي، ينصح، وهو أستاذ التاريخ الذي طبخ تدشين انفتاح الولايات المتحدة على الصين الشيوعية، إبان ماو تسي تونغ ونيكسون، في 1972، قادة البلدين بأن يضعا حدودا للمواجهة، حتى لا يتم تجاوز التهديدات… وأمام عظات مثل هذه، يلح عليها كيسنجر، وهو الذي يقول إن التقدم التكنولوجي غير المشهد الجيوسياسي في العالم إلى حد كبير، ويشدد على عمل تعاوني مع الصين لتفادي انزلاق العالم نحو كارثة، يكاد واحدُنا يرى ما رآه باري غوين ومايكل هيرش عن حاجة العالم إلى كيسنجر العاقل.. لا كيسنجر إياه، بماضيه إياه.