شوف تشوف

ثقافة وفن

في الحاجة إلى قراءة إدوارد سعيد من جديد

تقديم وإعداد: سعيد الباز
الاستشراق.. المفاهيم الغربية للشرق
.. إذا اعتبرنا أواخر القرن الثامن عشر إلى حد بعيد نقطة انطلاق عامة للاستشراق، استطعنا أن نناقش ونحلل الاستشراق بصفته المؤسسة الجماعية للتعامل مع الشرق، والتعامل معه معناه التحدث عنه، واعتماد آراء معينة عنه، ووصفه، وتدريسه للطلاب، وتسوية الأوضاع فيه، والسيطرة عليه: وباختصار بصفة الاستشراق أسلوبا غربيا للهيمنة على الشرق، وإعادة بنائه، والتسلط عليه. وقد انتفعت هنا بالفكرة التي طرحها ميشيل فوكو عن «الخطاب»، على نحو ما عرضها في كتابه «علم آثار المعرفة» وفي كتابه الآخر «التأديب والعقاب»، في تحديدي لمعنى الاستشراق. والحجة التي أطرحها تقول إننا ما لم نفحص الاستشراق باعتباره لونا من ألوان «الخطاب» فلن نتمكن من تفهم المبحث البالغ الانتظام الذي مكّن الثقافة الأوروبية من تدبير أمور الشرق –بل وابتداعه- في مجالات السياسة وعلم الاجتماع، وفي المجالات العسكرية، والأيديولوجية، والعلمية، والخيالية، في الفترة التالية لعصر التنوير. ولقد بلغ من توطيد مكانة الاستشراق أنّ أحدا لم يكن يقدم على الكتابة أو التفكير أو اتّخاذ أيّ إجراء بصدد الشرق دون أن يأخذ في حسبانه القيود التي يفرضها الاستشراق على الفكر والعمل. وموجز القول إنّ الشرق لم يكن، بسبب الاستشراق، مجالا لحرية الفكر أو العمل (ولا يزال الأمر كذلك). وليس معنى هذا أنّ الاستشراق هو الذي يحدد من جانب واحد ما يمكن أن يقال عن الشرق، ولكنه يعني أننا نواجه شبكة كاملة من المصالح التي تتدخل (وهي لذلك تشارك دائما) في أيّ مناسبة تتعلّق بذلك الكيان الغريب الذي يسمّى «الشرق». أمّا الأساليب التي يجري بها ذلك فهي ما يحاول هذا الكتاب أن يعرضه ويشرحه. وهو يحاول أن يبيّن أيضا كيف زادت الثقافة الأوروبية من قوتها ودعمت هويتها من خلال وضعها لذاتها في مقابل الشرق باعتبارها ذاتا بديلة أو حتى دفينة.
المقدمة ص 45 ص 46

.. أمّا في السينما والتليفزيون فترتبط صورة العربي إمّا بالفسوق أو الخيانة وسفك الدماء، فهو يظهر في صورة صاحب الشهوة الجنسية الطاغية، المنحل المنحط، القادر ولا شك على أن يحيك مؤامرات خبيثة بارعة، لكنه في جوهره يتلذذ بتعذيب غيره، خؤون، وضيع. ومن الأدوار التقليدية للعربي في السينما دور تاجر الرقيق، وسائق الجمال، والصراف، والوغد الجذاب، وكثيرا ما يظهر القائد العربي (لعصابة لصوص أو قراصنة أو جماعة من «الأهالي» المتمردين) في صورة من يسخر من البطل الغربي الذي أسروه مع صاحبته الشقراء (وصورتهما تنضح بالخلق السوي) قائلا «سوف يقتلكما رجالي، ولكنّهم يريدون التسلّي أوّلا». وهو يرمقهما بنظرات خبيثة موحية أثناء حديثه، وهذه هي الصورة المنحطة الحديثة لشخصية الشيخ التي قام بها فالنتينو. وأمّا في النشرات أو الصور الإخبارية فالعربي يظهر دائما في حشود كبيرة، وينتفي اعتباره فردا يتمتع بخصائص أو خبرات شخصية. ومعظم الصور تمثل الغضب الجماهيري الجامح والبؤس، أو الحركات غير العقلانية (التي تبدو شاذة وميؤوس منها). وخلف جميع هذه الصور يكمن التهديد بخطر الجهاد، أو الخوف من أنّ المسلمين (أو العرب) سوف يستولون على العالم.
الاستشراق الآن ص 438 ص 439

.. ومن الملامح البارزة للاهتمام الأمريكي الجديد بالشرق من منظور علم الاجتماع تجنّبه الغريب للأدب، فقد تقرأ صفحات لا تحصى ممّا يكتبه الخبراء عن الشرق الأدنى الحديث دون أن تصادف إشارة مفردة للأدب، إذ يبدو أنّ «الخبير» بالإقليم يهتم أشدّ اهتمام بما يعتبره «حقائق، وربما أدّى النص الأدبي إلى «اضطراب» في هذه الحقائق. وحصيلة تأثير هذا التجاهل العجيب للوعي الأمريكي الحديث بالشرق العربي أو الإسلامي هو حبس الإقليم وسكان الإقليم في قالب فكري مغلق، بعد اختزال هذا وذاك في «مواقف» و«اتجاهات» وإحصائيات، وباختصار بعد سلبهما الطابع الإنساني. فلما كان الشاعر أو الروائي العربي، وما أكثر أعدادهما، يكتب عن خبراته وعن قيمه وعن إنسانيته (مهما تبلغ غرابتها) فإنّه يؤدي في الواقع إلى ارتباك شتى الأنساق (أي الصور، أو القوالب اللفظية أو التجريدات) التي تمثل الشرق. فالنص الأدبي يتكلّم مباشرة، إلى حد ما، عن حقيقة واقعة حية، لا ترجع قوتها إلى كونها عربية أو فرنسية أو إنجليزية، بل تكمن في حيوية الكلمات التي تؤدي.. إلى سقوط الأصنام من أيدي المستشرقين وإرغامهم على التخلي عن تلك الأطفال المشلولة العظيمة، أي أفكارهم عن الشرق، التي تحاول أن تزعم أنّها الشرق.
الاستشراق الآن ص 444

تغطية الإسلام.. كيف يتحكّم الإعلام في رؤيتنا لسائر بلدان العالم
.. والذي أعنيه ببساطة هو أنّه لا يكتب اليوم كاتب في الغرب شيئا عن «الإسلام»، دون استثناء تقريبا، وهو يدرك بوضوح أنّ ذلك «الإسلام» يعتبر ثقافة معادية، وأنّ أيّ شيء يقوله كاتب محترف عن الإسلام يقع في منطقة نفوذ الشركات والحكومة، وأنّ كلا من هذين يلعب دورا بالغ الضخامة في إخراج هذه التفسيرات، ومن بعدها المعرفة بالإسلام، وجعلها «في خدمة المصلحة القومية». وخير مثال على هذا موقف لينارد بايندر، في الحجة التي قمت بتحليلها آنفا، إذ إنّه يشير إلى هذه المسائل ثم يجعلها تختفي في الجملة التي يعرب فيها عن التبجيل لروح المهنة و«المباحث العلمية» التي تعتبر وظيفتها الجماعية الأسلوب الفعّال القادر على رفض كلّ ما من شأنه المساس بقناع الموضوعية العقلانية الذي تضعه على وجهها. وهذا مثال على المعرفة المقبولة اجتماعيا التي تمحو الخطوات التي أدّت إلى إنتاجها.
ولنزد الآن من إيضاح معنى «الاهتمام» باعتباره جانبا من جوانب التفسير بأمثلة عملية. فالغربي لا يتصادف أن يهتم بالإسلام أو بالثقافة الإسلامية أو المجتمع الإسلامي، والمواطن الذي ينتمي إلى دولة صناعية غربية اليوم لا يلتقي بالإسلام إلا بسبب أزمة سياسية نفطية، أو بسبب التركيز الإعلامي المكثف، أو بسبب التقاليد العريقة للخبراء «بالإسلام»، أي للمستشرقين، في شرح الإسلام وإيضاحه في الغرب. وانظر إلى أيّ باحث شاب في التاريخ يرغب في التخصص في التاريخ الحديث للشرق الأوسط. إنّه يبدأ دراسته للموضوع في ظل العوامل المؤثرة الثلاثة المذكورة، وكلها يشترك في تشكيل وصياغة السياق الذي يدرك الباحث فيه «الحقائق» أي ما يفترض أنّه البيانات الأولية. وبالإضافة إلى ذلك تتدخل عوامل أخرى، مثل التاريخ الشخصي للفرد، وحساسيته، ومواهبه الذهنية، وهي في مجموعها تشكّل قدرا كبيرا من اهتمامه بالموضوع: ونرى التوازن بين حب الاستطلاع الخالص وبين الأمل في حصول على وظيفة مستشار بوزارة الخارجية الأمريكية أو بإحدى شركات النفط، والرغبة في تحقيق الشهرة في البحث العلمي، أو في «إثبات» أنّ الإسلام نظام ثقافي رائع (أو حتى رهيب) والطموح في أن يكون جسرا بين هذه الثقافة وتلك، والرغبة في المعرفة. وإلى جانب ذلك نرى أنّ النصوص والأساتذة والتقاليد البحثية، واللحظة التاريخية المعينة، قد بدأت تطبع بطابعها ما سوف يدرسه الباحث الصغير.
.. فمعرفتنا بأيّ ظاهرة بالغة التعقيد والمراوغة، مثل الإسلام، تأتينا من خلال نصوص وصور وخبرات لا تجسد الإسلام تجسيدا مباشرا حاضرا (وهو الذي لا نفهمه إلا من خلال الأمثلة عليه) بل تعتبر تفسيرات له أو حالات تمثله. وبعبارة أخرى، تأتي المعرفة بالثقافات أو المجتمع أو الأديان الأخرى من خلال التمازج بين الأدلة غير المباشرة وبين الوضع الشخصي للباحث الفرد، وهو الذي يضم الزمن والمكان والمواهب الشخصية والأوضاع التاريخية، إلى جانب الظروف السياسية العامة. أمّا ما يجعل تلك المعرفة دقيقة أو غير دقيقة، أو يقطع بأنّها فاسدة أو صحيحة أو أدنى من سواها فيتعلّق أساسا بمتطلبات المجتمع الذي تنشأ فيه هذه المعرفة. ويوجد، بطبيعة الحال، مستوى بسيط للصدق الواقعي يستحيل دونه وجود أيّ معرفة، فكيف يتسنى للمرء أن «يعرف» أحد شيئا عن الإسلام في المغرب دون أن يعرف اللغة العربية، ولغة البربر، ودون الإحاطة ببعض المعلومات عن البلد والمجتمع الذي يعيش فيه؟ أمّا إذا تجاوزنا هذا المستوى فسوف نرى أنّ المعرفة بالإسلام في المغرب لا تنحصر في مجرّد اتفاق ما يوجد هناك مع ما نراه هنا، أي التوافق بين شيء لا حياة فيه وبين من ينظر إليه، بل هي تفاعل ما بين الاثنين.
الفصل الثالث/ المعرفة والتفسير ص 325 ص 326

صادق جلال العظم وإدوارد سعيد.. الاستشراق والاستشراق معكوسا
..يؤكد إدوارد سعيد أنّ أبشع ما في هذه الصورة هو القناعة المحورية التي تنطوي عليها وجود فارق أساسي وجذري بين الجوهر المزعوم لكل من الطبيعة الشرقية من ناحية، والطبيعة الغربية من ناحية ثانية لصالح التفوق الكامل للطبيعة الغربية المزعومة. أي أنّ الصورة التي بناها الاستشراق الأكاديمي-الثقافي الغربي عن الشرق تقوم على التبني الكامل لأسطورة الطبائع الثابتة والمتمايزة حكما عن بعضها بدرجة تفوقها وكمالها ورقيها. وبإمكاننا أن نسمّي هذه القناعة بميتافيزيقا الاستشراق لأنّها تفسر الفوارق بين ثقافة وأخرى بين شعب وآخر.. إلخ، بردّها إلى طبائع ثابتة وليس إلى صيرورات تاريخية متبدلة. على سبيل المثال، ترى ميتافيزيقا الاستشراق ضمنا (وأحيانا صراحة) أنّ الخصائص التي تميّز المجتمعات الغربية ولغاتها وثقافاتها.. إلخ، هي على ما عليه. في التحليل الأخير، لأنها تنساب من طبيعة «غربية» معينة متفوقة في جوهرها على باقي الطبائع وبخاصة على الطبيعة «الشرقية». لذلك يؤكد إدوارد بأنّ «جوهر الاستشراق هو التمييز الذي لا يمحى بين التفوق الغربي والدونية الشرقية».
يؤدي العرض الموجز الذي قدمته لأطروحة إدوارد الأولية إلى استنتاج يفيد أنّ الاستشراق –من حيث هو مؤسسة من جهة، ومن حيث هو ميدان من ميادين الدراسات الأكاديمية المنتظمة من جهة ثانية- يشكّل ظاهرة ما كان يمكن أن توجد، بالمعنى الدقيق للعبارة، قبل صعود أوروبا البورجوازية وتثبيت سلطانها وتوسيع حدودها. لذلك نجد أنّ إدوارد يحدد، في موضع معين من معالجته للموضوع، بدايات الاستشراق عند عصر النهضة. لكنّ إدوارد لا يميل كثيرا، كما سنرى في هذه الدراسة، إلى استخلاص جميع النتائج التاريخية والمنطقية المترتبة على طروحاته استخلاصا صارما دقيقا ومنتظما.. يتضح هذا المنحى في تفكيره بتخليه السريع عن الاتجاه الذي عرضناه في تفسير نشأة الاستشراق وتطوره، لصالح تفسير آخر يتعارض مع الأول تعارضا واضحا. ويتجلى الاتجاه الثاني في قيامه بإرجاع أصول الاستشراق وبداياته، عبر إسقاط تاريخيّ هائل إلى الخلف، إلى هوميروس وإسكيلوس ويوربيديس ودانتي، بدلا من عصر النهضة. أي أنّ ما بدا لنا أوّل الأمر أنّه ظاهرة أوروبية حديثة حقا في بدايتها وتطورها (استجابة لظروف واحتياجات مرحلة تاريخية معينة) ليست كذلك على الإطلاق، بل ترجع إلى أصول سحيقة وعميقة في التاريخ الأوروبي والغربي.. يبدو لي أنّ النتيجة المنطقية البعيدة لهذا الاتجاه في تفسير ظاهرة الاستشراق هي العودة بنا، من الباب الخلفي، إلى أسطورة الطبائع الثابتة (التي يريد إدوارد تدميرها) بخصائصها الجوهرية التي لا تحول ولا تزول، وإلى ميتافيزيقا الاستشراق (التي كتب إدوارد كتابه ليفضحها ويجهز عليها) بمقولتيها المطلقتين: الشرق شرق والغرب غرب، ولكل منهما طبيعته الجوهرية المختلفة وخصائصه المميزة. هنا لا تعود ظاهرة الاستشراق وليدة شروط تاريخية معينة أو استجابة لمصالح وحاجات حيوية ناشئة وصاعدة، بل تأخذ شكل الإفراز الطبيعي العتيق والمستمر الذي يولّده «العقل» الغربي» المفطور بطبيعته، كما يبدو على إنتاج وإعادة إنتاج تصورات مشوّهة عن واقع الشعوب الأخرى ومحقّرة لمجتمعاتها وثقافاتها ولغاتها ودياناتها في سبيل تأكيد ذاته والإعلاء من شأن تفوقه وقوته وسطوته.

إدوارد سعيد: شعوري الدائم أنّي في غير مكاني
تخترع جميع العائلات آباءها وأبناءها وتمنح كلّ واحد منهم قصة وشخصية ومصيرا، بل إنّها تمنحه لغته الخاصة.
وقع خطأ في الطريقة التي تمّ بها اختراعي وتركيبي في عالم والديّ وشقيقاتي الأربع. فخلال القسط الأوفر من حياتي المبكرة، لم أستطع أن أتبيّن ما إذا كان ناجما عن خطئي المستمر في تمثيل دوري أو عن عطب كبير في كياني ذاته. وقد تصرّفت أحيانا تجاه الأمر بمعاندة وفخر. وأحيانا أخرى وجدت نفسي كائنا يكاد أن يكون عديم الشخصية وخجولا ومترددا وفاقدا للإرادة. غير أنّ الغالب كان شعوري الدائم أنّي في غير مكاني.
هكذا كان يلزمني قرابة خمسين سنة لكي أعتاد على «إدوارد» وأخفف من الحرج الذي يسببه لي هذا الاسم الإنكليزي الأخرق الذي وُضِع كالنير على عاتق «سعيد» اسم العائلة العربيّ القحّ. صحيح أنّ أمّي أبلغتني أنّ سمّيت إدوارد على اسم أمير بلاد الغال (وارث العرش البريطاني) الذي كان نجمه لامعا عام 1935، وهو عام مولدي، وأنّ سعيد هو اسم عدد من العمومة وأبناء العام. غير أنّ تبرير تسميتي تهافت كليا عندما اكتشفت أنّ لا أجداد لي يحملون اسم سعيد. وخلال سنوات من محاولاتي المزاوجة بين اسمي الإنكليزي المفخّم وشريكه العربيّ كنت أتجاوز «إدوارد» وأؤكّد على «سعيد» تبعا للظروف، وأحيانا أفعل العكس، أو كنت أعمد إلى لفظ الاسمين معا بسرعة فائقة بحيث يختلط الأمر على السامع. والأمر الوحيد الذي لم أكن أطيقه، مع اضطراري إلى تحمله، هو ردود الفعل المتشككة والمدمّرة التي كنت أتلقّاها: إدوارد؟ سعيد؟
مذكرات إدوارد سعيد ص 25/ 26

محمود درويش: كن نرجسيا إذا لزم الأمر
نيويورك. إدوارد يصحو على كسل
الفجر. يعزف لحناً لموتسارت. يركض
في ملعب التنس الجامعيّ. يفكّر في
هجرة الطير عبر الحدود وفوق الحواجز.
يقرأ (نيويورك تايمز) يكتب تعليقَهُ
المتوتّر. يلعن مستشرقاً يرشد الجنرال.
إلى نقطة الضعف في قلب شرقيّة.
يستحمُّ. ويختار بدلَتهُ بأناقة دِيكٍ.
ويشرب قهوته بالحليب. ويصرخ
بالفجر: هيّا، ولا تتلكَّأ/
على الريح يمشى. وفي الريح
يعرف مَنْ هُوَ. لا سقف للريح.
لا بيت للريح. والريح بُوصلةٌ
لشمال الغريب.
يقول: أَنا من هناك. أَنا من هنا
ولستُ هناك، ولستُ هنا
لِيِ اسمانِ يلتقيان ويفترقان
ولي لُغتان. نسيت بأيَّهما
كنتُ أَحلُمُ،
لي لُغَةٌ إنجليزيَّةٌ للكتابة،
طيِّعةُ المفردات,
ولي لغةٌ من حوار السماء مع
القدس، فضيَّةُ النَّبْرِ، لكنها
لا تُطيعُ مخيّلتي!
والهويَّةُ؟ قلتُ
فقال: دفاعٌ عن الذات..
إنَّ الهويةَ بنتُ الولادة, لكنها
في النهاية إبداعُ صاحبها. لا
وراثة ماضٍ. أَنا المتعدِّد. في
داخلي خارجي المتجدِّدُ.. لكنني
أَنتمي لسؤال الضحيَّة. لو لم
أكن من هناك لدرَّبْتُ قلبي
على أن يُربِّي هناك غزال الِكنايَةِ.
فاحملْ بلادك أَنَّى ذَهَبْتَ..
وكُنْ نرجسيّاً إذا لزم الأَمرُ/
منفىً هو العالم الخارجيُّ
ومنفىً هو العالم الداخليُّ.
مقاطع من قصيدة: طباق/ في رثاء إدوارد سعيد
نجلاء إدوارد سعيد: لقد كان ذلك أبي
(نجلاء إدوارد سعيد وغلاف كتابها «البحث عن فلسطين»)
بالنسبة للأشخاص الأذكياء وأولئك الذين يدرسون كثيرًا، كان إدوارد سعيد هو «أبو الدراسات ما بعد الكولونيالية».
كان بالنسبة للآخرين مؤلّف كتاب «الاستشراق»، الكتاب الذي قرأه الجميع في مرحلةٍ ما من دراستهم الجامعية، سواءٌ أكان ذلك في التاريخ أم في السياسة أم البوذيّة أم الأدب، وقد كتبه عندما كنتُ في الرابعة من عمري. الفكرة الرئيسة للكتاب كما شرح لي مرةً بعد أن أصررتُ على أن يشرحها لي بلغةٍ إنجليزيةٍ بسيطة «أن الشرق، تاريخيًا وعبر الفن والأدب، كان يُنظر إليه من خلال عدسة الغرب، فأصبح منحطًا ومنحرفًا، ولذا فإن أي شيءٍ ما عدا ما كنا نحن الغربيين نراه مألوفًا، لم يكن غريبًا وغامضًا وحسيًا فحسب، بل كان وضيعًا أيضًا». مثل علاء الدين كما تعرف.
يعود الفضل لأبي بشكلٍ رئيسيٍ أنهم صاروا يقولون اليوم «آسيوي أمريكي» بدلًا من «شرقي».
يراه الآخرون رمزًا لحق تقرير المصير للفلسطينيين، ونصيرًا لحقوق الإنسان والمساواة والعدالة الاجتماعية، «رجلًا إنسانيًا» لا يتملّق السلطات. وما زال هناك آخرون يصرون على وسمه بالإرهاب، برغم أن ذلك يبدو كمن ينعت غاندي بالإرهابي!
أما بالنسبة لي، فقد كان أبي، الرجل المتأنق الذي يرتدي بدلة من ثلاث قطع يصنعها له خياط في لندن، الرجل العجوز اللطيف الذي يصرخ بي بحبٍ بلكنته الغريبة، البريطانية أحيانًا والأمريكية أحيانًا أخرى، ثم ينسى ما الذي أغضبه (بعد خمس دقائق فقط)، الرجل الذي اعتاد أن يجلب لي الهدايا من كل أنحاء العالم، الذي ناقشني في رواية جين آير- روايتي المفضلة في عمر الثانية عشرة- والذي كان يعانقني حين أبكي. الرجل الذي كان يلعب التنس والإسكواش ويقود سيارة «الفولفو»، ويدخّن الغليون ويجمع الأقلام، الأستاذ الجامعي. لقد كان ذلك أبي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى