شوف تشوف

الرأيالرئيسية

في الحاجة إلى دور العجزة

رغم ما قد يثيره هذا العنوان من اشمئزاز واستنفار للحفائظ المناهضة لهذه الدور، من منطلقات ذات طابع ديني أو تحت طائلة ثقل الوزن الثقافي.. وأمام هذا الرفض المقبول بعنفوانياته المرجعية، يبدو أننا اليوم في أمس الحاجة إلى «دور العجزة» أكثر من أي وقت مضى… ليس من باب زج الأبناء لآبائهم بهذه الدور، وإنما من كون أننا على أبواب «شيخوخة» مجتمع، ستكون به فئة المسنين ممن لا أبناء ولا معيل لهم… أكثر عرضة للتشرد والتمزق المجتمعي.

فأين الملجأ لهذه الفئة من المجتمع المغربي، بعد الله؟

ومن حيث الإحصائيات الرقمية فقد أشارت في مجملها إلى أن البنية الديموغرافية للمجتمع المغربي قد سارت، خلال العشر سنوات الأخيرة، إلى مجموعة من التحولات التي طبعت سيرورتها مجتمعيا واقتصاديا وحتى صحيا. فكان موضوع «الشيخوخة» أحد أهم المستجدات التي أقلقت مسار هذا التغير. إذ أقر المسح الوطني حول السكان وصحة الأسرة لسنة 2018م أن جل فئة المسنين ببلادنا، إن لم نقل كلهم، يعيشون في كنف عائلاتهم إما في شكل أرباب أسر أو مع أسرهم الممتدة في مسكن عائلي، حيث تظل هذه الأخيرة الأكثر تهديدا بما ينذر به المستقبل القريب.

كما قدمت المندوبية السامية للتخطيط إحصائيات مرعبة لسنة 2021، مفادها أن فئة الشيوخ (60 سنة فما فوق) ستعرف زيادة في معدل نموها السنوي داخل البنية الديموغرافية للمجتمع المغربي، وذلك بما معدله 4.3 ملايين نسمة بنسبة بلغت 11 في المائة من مجموع السكان، مقابل 2.4 مليون نسمة سنة 2004 بما نسبته 8 في المائة. الإحصائيات ذاتها أشارت إلى أن استمرار هذه الوتيرة سيزيد خلال السنوات القليلة المقبلة، إذ يتوقع ارتفاع هذا الرقم إلى ما يزيد على 6 ملايين نسمة في أفق سنة 2030، الأمر الذي ينذر بما نسبته 15.4 في المائة من مجموع المسنين داخل هرمنا السكاني.

وفي تقريب تاريخي لهذا التحول الديموغرافي ببلادنا، يمكننا القول إن أزمة الشيخوخة ببلادنا اليوم انطلقت إرهاصاتها الأولى مطلع ستينيات القرن الماضي؛ فأطفال هذه المرحلة هم اليوم شيوخ بيننا، وها هي قاعدة هرمنا الديموغرافي معهم قد أضحت تتسع، مصنفة إياهم داخل فئة المسنين. وباعتبار أن أطفال الستينيات والسبعينيات قد زامنت مرحلة شبابهم فترة تسعينيات القرن الماضي، وما واكب هذه الأخيرة من ضعف لوتيرة النمو الاقتصادي واستفحال ظاهرة البطالة؛ فإن قدرة احتوائهم توظيفا من لدن الدولة زمنئذ، قد كان شبه منعدم لغالبيتهم. الأمر الذي لم يكن يسعف أكثرهم في تكوين أسر، ومعها إنجاب أبناء، ليكونوا قادرين على إيوائهم بعد سنوات من الكفاح… لذا فقد عاش أغلبهم عازفين عن فكرة الزواج وما يرافقها من سياقات أسرية.

أمام هذا الواقع البئيس، الذي يمكن وصف مستقبله القريب بالمخيف، تقيدنا مجموعة من التساؤلات الاستفهامية التي تحاصر بلادنا اليوم، حكومة ومعها باقي الأطياف السياسية والمدنية المسؤولة ببلادنا. ومن هذه التساؤلات، كيف سيكون واقع هذه الفئة اجتماعيا، خصوصا داخل الأسر المعوزة من مجتمعنا؟ وهل في مقدور هذه الأسر أن تكمل، في ظل الظروف الاجتماعية والاقتصادية الهشة، رسالتها في تثمين أواصر التضامن والتضحية الأسرية، التي عاش عليها المجتمع المغربي ثقافيا ردحا من الزمن، أم أننا أمام مرحلة ستشهد فيها مفاهيمنا المتجذرة تاريخيا ردة وانقلابا؟

إن واقعنا اليوم، بما هو عليه من متغيرات لبنيتنا الديموغرافية، ومستقبلنا القريب، وما ينذر به من ويلات اجتماعية… يؤكدان ضرورة إعادة النظر في علاقتنا مع «دور العجزة»، ومكانتها المجتمعية اليوم.

هنا، ولضيق مجال التحليل، نختم من حيث بدأنا بالتأكيد على حتمية إعادة النظر في علاقتنا بــ«دور العجزة» اجتماعيا ودينيا وحتى إعلاميا، حتى نولد ثقافة جديدة -إن صح القول- ترى مصلحة المسنين بيننا كأساس أولوي، وسط كل ما يحاصرنا من شراسة المستقبل القريب.

ولعل ما نراه من جملة الخطوات التصالحية الأولى مع هذه الدور، هو استنهاض الهمم والعزائم بكل ما للمفهومين من معنى، وذلك بغرض التكفل مجتمعيا بجميع مسنينا دونما استثناء داخل هذه الدور. وأول من عليها تحمل المسؤولية الإنسانية ومعها السياسية تجاه هذه الفئة، هي الحكومة الحالية ومن سيأتي بعدها من الحكومات اللاحقة، للعمل على إقرار أهمية الموضوع داخل أولويات المشاريع الحكومية، فواقع حالنا تجاه هذه الفئة أكبر من أي مساومات أو مزايدات سياسوية. كما على الجمعيات والتعاونيات والمؤسسات العمومية بجميع تلاوينها، إقرار مكانة المسنين كمقدسات داخل أهدافها التنموية من خلال إشراكهم في جميع التظاهرات، تحسيسا منها تجاههم بلزوم الحاجة الملحة إليهم وإلى خبراتهم في العديد من الميادين والمجالات…

ولنجعل من جهة أخرى لهذه الدور من المسميات الإيوائية، ما هو أرحم مجتمعيا من مفهوم «دور العجزة» وما حمله من سياقات التنفير الإعلامي والثقافي، حتى يسهل انسجامنا في القريب العاجل مع الوظيفة التضامنية لهذه الدور.  

عبد اللطيف بلمعطي  

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى