في الحاجة إلى بوعبيد
قبل أن يخوض الحسن الثاني في قضايا خطاب افتتاح الدورة التشريعية للبرلمان لسنة 1991- 1992، أصر، رحمه الله، على أن يخصص مقطعا من خطابه لأحد المعارضين السياسيين الشرسين الذين عرفهم تاريخ الحياة السياسية، وكان أن انتبه الملك إلى مقعد بوعبيد الفارغ بعدما علم مسبقا أن المرض قد غيبه عن حضور جلسة. وبفطنة الملك الراحل التي تميز بها، توجه إلى مشرعي الأمة قائلا: «أريد أن أقول بتأثر، إنني أرى هنا مقعدا فارغا، هو مقعد رفيقنا في الكفاح، وصديقنا القديم الذي بقي صديقنا الحميم، السيد عبد الرحيم بوعبيد، وإننا بهذه المناسبة لنرجو له من صميم الفؤاد الشفاء العاجل حتى يستأنف عمله بصفة عامة ونشاطه هنا في هذا المجلس الموقر بصفة خاصة».
سنة بعد هذا الخطاب، رحل أصغر الموقعين سنا على وثيقة المطالبة بالاستقلال سنة 1944، تاركا وراءه حزبا قويا قبل أن يتعرض لعملية تفتيت ممنهجة، لينتهي به المطاف إلى الانقسام حتى في توقيت زيارة قبر المؤسس والتحول إلى نصف حزب يرجح كفة الأغلبيات ويتبع الأحداث ويتأثر بها، بعدما كان يصنعها ويؤثر فيها.
لم يكن الملك الحسن الثاني ليخصص مقطعا من خطابه لبوعبيد أمام البرلمان لو أنه لم يكن مقتنعا بكون وزير الاقتصاد في حكومة عبد الله إبراهيم، رجل دولة من طينة نادرة وليس مناضلا حزبيا عابرا. ورغم اختلافه بالاحترام الواجب في الرأي مع القصر آنذاك، سواء حين رفض مرافقة الحسن الثاني إلى مؤتمر منظمة الوحدة الإفريقية من أجل مساندة مقترحه الداعي إلى تنظيم استفتاء في الصحراء، والذي تسبب في حبسه بسجن ميسور، أو خلال انخراطه بكثافة وعن قناعة في الحملة ضد المشاريع الدستورية لـ1962 و1970 و1972 و1992، إلا أنه بقي يحظى بتقدير خاص من أعلى سلطة في البلد، وباحترام جيل بأكمله مهما اختلفت إيديولوجيته وعقائده السياسية.
أمثال بوعبيد الذي تحل ذكرى وفاته في 8 يناير، قطع نادرة من الآثار السياسية النادرة التي تذكرنا بالزمن السياسي الجميل، وأننا قد مررنا من مرحلة كان فيها السياسيون رجال دولة، إلى مرحلة أصبح فيها السياسيون مجرد بهلوانات وانتهازيين يلتصقون بالدولة، ومؤسساتها فقط لتحقيق مصالحهم الشخصية، والمكانة الاجتماعية ومنافع السلطة، دون إمكانات حقيقية تؤهلهم لشغل تلك الأماكن، أو لنيل تلك المكانة.
ذكرى وفاة بوعبيد تفرض حقيقة واحدة، مفادها أن بلدنا في حاجة إلى نخبة سياسية من طينة رجال الدولة المتشبعين بقضايا وطنهم، متجاوزين انتماءهم الحزبي الضيق وتضخم الأنا النرجسية، نخبة لديها قدرة على تمثل رؤية مستقبلية للبلاد، متمكنة من إدارة الاختلاف بينها دون تشنج أو تجريح أو إقصاء أو ضربات تحت الحزام، نخبة باستطاعتها إدارة الملفات والأزمات بالحكمة والكفاءة والاتزان، وتغليب المصلحة العامة وعدم الانجرار وراء الأجندات الحزبية الضيقة أو الضرورات الانتخابية التي تكون غايتها الانتصار لحجة السياسي، والتلاعب باللغة الشعبوية والعدمية لخداع الجماهير لتحقيق مصالح خاصة.