في التعددية الحضارية
د. محمد ديـرا
يعد التعايش الإيجابي بين الحضارات والشعوب والأديان، والتنافس فيما بينها في المنافع والخيرات شرطا أساسيا لقيام مجتمع عادل تُصان فيه الحقوق وتُحترم فيه الكرامة، ذلك أن تعددية الشعوب والحضارات وتَفَرُّدِ كلٍّ منها بخصوصياتها الدينية والحضارية لا يمثل عقبة في طريق خيرِ الإنسانية وتوحد جهودها، بل يمثل إثراء للتجربة الإنسانية. إلا أن سيطرة حضارة منفردة على العالم وتسلطها وجبروتها وتحكمها من شأنه أن يؤدي إلى انعدام السلم والأمن كما هو حاصل الآن، وإلى محاولات فرض النموذج الذي يؤدي إلى مجتمع شمولي يتسم بضياع الحقوق وامتهان الكرامة.
وإذا أمعنا النظر في تاريخ الحضارات الإنسانية فإننا نستطيع أن نتبين بوضوح أن التعددية الحضارية كانت دائما هي القاعدة على الرغم من الطبيعة الواحدة للإنسان في كل زمان ومكان والتي يشترك فيها الجميع. وإذا كان الله قد خلق كل فرد بشخصيته المستقلة التي تميزه عن غيره من أبناء جنسه وأعطانا لذلك رمزا محسوسا يستحيل معه وجود شخصين يتفقان في بصمتي إبهاميهما، فإن الأمر كذلك بالنسبة للحضارات التي بناها الإنسان ولا يزال، إذ تتميز كل حضارة ببصمتها الخاصة بها. والتمايز الحضاري لم يكن في يوم من الأيام يمثل عقبة في سبيل التفاعل والتواصل بين الحضارات، لذلك لا يمكن أن تجد حضارة إنسانية عريقة نمت وتطورت دون أن تتأثر بغيرها من الحضارات، فالتراث الإنساني أخْذٌ وعطاء، ولا توجد أمة عريقة في التاريخ إلا وأعطت كما أخذت من هذا التراث، ولم تشذ حضارة من الحضارات الكبيرة عن هذه القاعدة. ومن هنا نجد أن الحضارة الإسلامية قد شيدها المسلمون شيئا فشيئا في تبادل حي مع الحضارات الأخرى التي التقت بها، ويؤكد ابن رشد أهمية الالتقاء بين الحضارات، مبرزا ضرورة الاطلاع على ما لدى الآخرين من ثقافات، ومبينا أن ذلك يعد واجبا شرعيا، ويضيف قائلا: «فما كان منها موافقا للحق قبلناه منهم وسُررنا به وشكرناهم عليه، وما كان منها غير موافق للحق نبهنا عليه وحذرنا منه وعذرناهم» (ابن رشد، فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، ص 13…).
وقد اهتم المسلمون منذ البداية بالحضارات الأخرى اليونانية والفارسية والهندية، ودرسوا بصفة خاصة المؤلفات الفلسفية والعلمية اليونانية التي ترجموها إلى اللغة العربية وأَثْرَوْهَا بتعليقات هامة، ومن خلال البحث المستقل في كل ما تعرفوا عليه من ثقافات استطاعوا أن يضيفوا أفكارا وتصورات جديدة، وأن تكون لهم ثقافتهم وفلسفتهم الخاصة بهم، كما أن أوربا من جانبها قامت بترجمة مؤلفات العلماء والفلاسفة العرب والمسلمين إلى اللغة اللاتينية، وقد تعرفت لأول مرة على الفلسفة اليونانية عن طريق المؤلفات العربية. وفي النصف الثاني من القرن الخامس عشر الميلادي، أي بعد فتح القسطنطينية على يد الأتراك العثمانيين وهجرة العلماء اليونان إلى إيطاليا بدأ الأوربيون في ترجمة المؤلفات اليونانية مباشرة من اليونانية إلى اللغة اللاتينية.
ويبقى الحوار هو الوسيلة الوحيدة والفعالة لاستفادة الحضارات بعضها من بعض بعيدا عن الهيمنة والإملاءات بشرط أن نتوفر على ملكة نقدية تجعلنا نميز بين المفيد وغير المفيد، وأن نستحضر القواسم المشتركة، ونبتعد عن الاختلافات العقائدية التي لا طائل من وراء الاشتغال بها، وبهذا يصبح الطريق ممهَّدا أمام التوصل إلى ما فيه الخير والسلام والأمن للجميع.