شوف تشوف

الرئيسيةثقافة وفن

في الأدب الأمريكي اللاتيني

إعداد وتقديم: سعيد الباز

مقالات ذات صلة

حظي الأدب الأمريكي اللاتيني بالكثير من الاعتبار والتقدير عكسه الإقبال الشديد على الاحتفاء به على مستوى القراءة والمتابعة، ناهيك عن حجم الجوائز الأدبية التي استطاع هذا الأدب بفضلها أن يؤكّد حضوره وتميّزه. لكن، في الوقت ذاته، كان الأدب الأمريكي اللاتيني، منذ نشأته ومراحل التطور التي عرفها، يواجه من جهة إشكالية الهوية وتحديد المفهوم، ومن جهة أخرى تعدده على المستوى اللغوي وتياراته الفكرية والسياسية المختلفة. فعلى سبيل المثال، الروائي والناقد الأرجنتيني ريكاردو بيجليا Ricardo Piglia يسير على خطى سلفه لويس بورخيس في الغوص في مناخات ثقافية متعددة ومختلفة. أمّا الشاعر والروائي كارلوس ليسكانو Carlos Liscano من الأوروغواي فيعبّر عن جانب آخر من الأدب الأمريكي اللاتيني الذي يصوّر واقع الاعتقال السياسي، في حين تلتزم الروائية المكسيكية لاورا إسكيبيل Laura Esquivel، خاصّة في روايتها «الغليان»، بالواقعية السحرية على مستوى المزج بين الواقع والخيال.

ريكاردو بيجليا.. القارئ الأخير

ثمّة صورة يظهر فيها بورخيس وهو يحاول فكّ حروف كتاب ملتصق بوجهه. يجلس مقرفصا في أحد الدهاليز المرتفعة بالمكتبة القومية بشارع مكسيكو، بنظرة مثبّتة في صفحة مفتوحة.
القارئ الأكثر إقناعا الذي عرفناه، والذي نستطيع أن نتخيّل أنّه فقد بصره وهو يقرأ، يحاول رغم كلّ شيء أن يواصل القراءة. هذه الصورة يمكن أن تكون الصورة الأولى للقارئ الأخير، القارئ الذي قضى حياته قارئا، وحرق عينيه تحت ضوء المصباح. «أنا الآن قارئ صفحات، بعينين، لم تعودا تريان».
ثمّة حالات أخرى، وبورخيس ذكّرنا بهم، كأنّهم أسلافه (مارمول، جروساك، ميلتون). قارئ أيضا هو من يسيء القراءة، من يُشوّه النصّ، من يتلقّاه بشكل مبهم. في عيادة فنّ القراءة، ليس من يملك بصرا أفضل هو من يقرأ أفضل.
«الألف»، عنصر قصر البصر السّحري، نقطة الضوء حيث يُرتّب العالم كلّه أو يغدو فوضويا، بحسب وضع الجسد، هو النموذج لديناميكية الرؤية وفكّ الشفرة، وعلامات الصفحة، غير المرئية تقريبا، تُفتح على عوالم متعدّدة. وعند بورخيس، القراءة هي فنّ المسافة والنطاق.
كان كافكا يرى الأدب بالطريقة نفسها. وفي خطاب له إلى «فيليس باور»، يعرّف قراءة كتابه الأوّل هكذا: «في الحقيقة، به فوضى لا يمكن علاجها، ومن الضروري الاقتراب كثيرا لرؤية أيّ شيء».
المسألة الأولى: القراءة فنّ الميكروسكوب، فنّ المنظور والفضاء (ليس الرسّامون وحدهم من ينشغلون بهذه الأشياء). المسألة الثانية: القراءة مسألة خاصّة بالنظر والضوء والبعد الفيزيائي.
كان جويس يستطيع رؤية عوالم متعدّدة في خريطة اللغة المصغّرة. وفي إحدى الصور يظهر أنيقا مثل داندي، بعين مغطاة بقطعة قماش، فيما يقرأ بعدسة مكبّرة.
تعدّ رواية «يقظة فينيغان» معملا يُخضع القراءة لأكبر اختباراتها، فكلّما تقدّم المرء، تحوّلت السطور الممحوّة إلى حروف، والحروف تعلو وتنصهر، والكلمات تتبدّل وتتغيّر، فيغدو النصّ نهرا، سيلا متكاثرا، يتوسّع على الدوام. نقرأ بقايا، قطعا منفردة، مقاطع، ووحدة المعنى ليست إلّا سرابا.
أمّا التمثيل الفضائي الأوّل لهذا النوع من القراءة، فنجده عند ثيربانتس، تحت شكل الأوراق التي يرفعها من الشارع. هذا هو الوضع المبدئي للرواية، أو فلنقل مقترحها. «كنتُ أقرأ حتّى الأوراق الممزّقة التي كنتُ أعثر عليها في الشارع». يقول الكيخوتيه في الجزء الأوّل، الفصل الخامس.
قد يمكن أن نرى هنا الشرط المادّي للقارئ الحديث: يعيش في عالم من العلامات، محاطا بكلمات مطبوعة (في حالة ثيربانتس، كانت المطبعة بدأت تنتشر قبله بقليل)، وفي ورم المدينة، يتوقّف ليرفع الأوراق الملقاة في الشارع، يريد أن يقرأها.
لكن، الآن فقط، كما يقول جويس في «يقظة فينيغان»، أقصد في الطرف الآخر من القوس المتخيّل الذي يفتتح بدون كيخوتيه، تضيع الأوراق الممزّقة في حاوية قمامة، بعد أن نقرتها دجاجة، كانت تحفر بمنقارها. تختلط الكلمات، يغطّيها الوحل، تغدو الحروف متوارية، لكنها لا تزال مقروءة. نعم فعلا أنّ فينيغان محض رسالة، ضلّت طريقها لحاوية قمامة، أنّه «كتلة من الوحل والبقع، من الصرخات والتجاعيد والمقاطع المتراصّة بجوار بعضها». و«شاوم»، الذي يقرأ ويفكّ الشفرة في نصّ جويس، مدان بـ«الحفر بشكل لا مثيل له حتّى يغرق حتّى رأسه، ويفقد عقله، والنصّ موجّه إلى هذا القارئ المثالي الذي يعاني من أرق مثالي».
القارئ المدمن: القارئ الذي لا يستطيع التوقّف عن القراءة، والقارئ الأرِق: القارئ المتيقّظ دائما، هما تمثيلان متطرّفان لما تعنيه قراءة نصّ، وتجسيدات سردية لحضور القارئ المعقّد في الأدب. قد أسمّيهم القراء الأنقياء، والقراءة بالنسبة إليهم ليست ممارسة، بل أسلوب حياة.

إيزابيل الليندي: مثل شخص آخر يقوم بالكتابة من خلالي

… في ذلك اليوم، الثامن من يناير، الذي هو يوم مقدس بالنسبة لي، أحضر إلى مكتبي في الصباح الباكر وأكون وحدي، أوقد بعض الشموع للأرواح وعرائس الإلهام، أتأمّل لبعض الوقت، ودائما أحيط نفسي بالأزهار والبخور، ثم أفتح ذاتي كلّيا على التجربة التي تبدأ في تلك اللحظة. لا أعرف أبدا على وجه الدقة ما الذي سأكتبه. ربما أكون قد انتهيت من كتاب ما قبل أشهر وربّما أعدّ لشيء ما، لكن حدث مرتين أنني حين أجلس إلى الكمبيوتر وأقوم بتشغيله، يطرأ لي شيء آخر. إنّ الأمر يبدو كما لو كنت حبلى بشيء ما، وهو ما يشبه حبل الفيلة، حيث يتخلّق شيء ما لفترة طويلة من الزمن ويأخذ في النمو، وحينئذ أكون قادرة على الاسترخاء تماما وفتح ذاتي على الكتابة، حينها يخرج الكتاب الحقيقي إلى الوجود. أحاول أن أكتب الجملة الأولى في حالة من الغشية، كما لو أنّ أحدا آخر يقوم بالكتابة من خلالي الجملة الأولى تلك عادة ما تحدد مسار الكتاب بأكمله. إنّها باب ينفتح على أرض مجهولة يتوجب عليّ أن أستطلعها مع شخصياتي. وببطء أثناء كتابتي تأخذ القصة في الكشف عن ذاتها، على الرغم منّي، إنها تحدث فحسب. لست من ذلك النوع من الكتاب الذين يخططون لكتابتهم، أو يتحدثون عن الكتابة إلى أيّ شخص، أو يقومون بقراءة أجزاء من كتابتهم أثناء عملية الكتابة –إلى أن تكون الكتابة الأولى جاهزة- وتلك الكتابة قد تستغرق شهورا، وهي عادة ما تكون شهورا طويلة ولا أكون عارفة بفحوى الكتاب. إنني أجلس فقط كلّ يوم وأقوم بتفريغ القصة. وحين أعتقد أنّها انتهت، أقوم بطباعتها، وأقرأها لأوّل مرة. في هذه المرحلة أكون عارفة بفحوى القصة، وأشرع في إلغاء كل ما لا مساس له بها.
…إنني أمضي من عشر إلى اثنتي عشرة ساعة يوميا وحدي في الكتابة. لا أتحدث مع أحد ولا أتلقى مكالمات هاتفية. أنا مجرّد وسيط أو أداة لشيء يحدث لي، أصوات تتكلم من خلالي. إنني أخلق عالما روائيا ولكنّه لا ينتمي لي، إنني مجرّد أداة. ومن خلال هذا التدريب الطويل اليومي والمضني اكتشفت الكثير عن نفسي وعن الحياة… إنني لست واعية لما أقوم بكتابته. إنّها عملية غريبة، كما لو أنّك من خلال هذا الكذب في الرواية تتوصل لاكتشاف أمور صغيرة حقيقية عن نفسك وعن حياتك، وعن الناس، وعن كيف يدور هذا العالم.
إنّي أقوم بتسجيل الملاحظات طوال الوقت، وأحتفظ بدفتر في حقيبتي وحينما أرى أو أسمع شيئا مثيرا، أقوم بتسجيله. كما أقوم بأخذ مقتطفات من الصحف وأخبار التلفزيون، أكتب القصص التي يرويها لي الناس، وحين أبدأ في كتاب ما أحضر كل تلك الملاحظات لأنها تلهمني، فأكتب مباشرة على الكمبيوتر دون تخطيط مسبق، متبعة في ذلك غريزتي. وحين تتم كتابة القصة على الشاشة، أطبعها للمرة الأولى وأقرأها، حينئذ أعرف أنّ الكتاب على وشك الإنجاز، المخطوطة الثانية تعنى باللغة والتوتر والنبرة والإيقاع… وأدخل الكثير من التعديل على النص، ولكن ليس بالنسبة للحبكة، فللقصة أو للشخصيات حياتهم الخاصة. لا أستطيع أن أتحكّم فيها، أريد للشخصيات أن تكون سعيدة، وأن تتزوج، وأن ترزق بالعديد من الأطفال وأن تعيش سعيدة، ولكن الأمور لا تجري بهذه الطريقة، وكما أشرت سابقا، فإنّ النهايات السعيدة لا تتوافق معي.

كارلوس ليسكانو.. عربة المجانين

ها قد مرّت أيّام عديدة وأنا في ثكنة الجيش، مقنّعا حتّى الكتفين، وسروالي وألبستي الداخلية وحذائي مبلّلة تماما، أنا في الثالثة والعشرين من عمري. لا أعلم في أيّ يوم نحن ولا كم الساعة. أعرف أننا في ساعة متأخّرة من الليل. أُعدتُ للتوّ من قاعة التعذيب الواقعة في الطابق السفلي، إلى اليسار من أسفل الدّرج. تُسمع صرخات العديد من المعذِّبين الذين يتوالون على قاعة التعذيب طوال الليل. لم أفكّر في أيّ شيء سوى جسدي، أو بالأحرى لم أفكّر فيه إنّما تحسّسته: كان قذرا، تغمره آثار الضربات، منهكا، تفوح منه رائحة كريهة، ناعسا وجائعا. في تلك اللحظة شعرتُ أنّه ليس في الدنيا سوى جسدي وأنا. لم أجاهر نفسي بذلك وإنّما عرفته: لا أحد سوانا. وستمضي سنوات عديدة، تقارب الثلاثين، قبل أن أستطيع البوح بما أحسستُ به. لا أن أبوح «بما يُشْعَرُ به» وإنّما بماذا شعرنا هو وأنا…
مونتفيديو 27 ماي 1972. قبل ثلاثة أيّام، بلغت أختي السادسة عشرة من عمرها، وأُقيمت لها حفلة، ذلك المساء. لم أكن حاضرا ذلك اللقاء العائلي. أعرف أنّ أمّي ستكون قلقة، وأنّ أبي يقول في نفسه إنّني في مكان ما، يعلم الله بأيّ أمر منشغل، وستعتقد أختي بأنني غير مهتمّ بها.
كانت لديّ نيّة الذهاب إلى تلك الحفلة، وكنتُ قد أعلنتُ ذلك، ولكنني لن أذهب. لن أستطيع الذهاب. في الثانية فجرا، جاء العسكر يبحثون عنّي في بيتي. انتزعوني من السرير، حافي القدمين، وبالمايوه. وضعوا لي قناعا، وقيّدوا يديّ خلف ظهري، ووضعوني على الرصيف قبالة الحائط. ثم وضعوني في شاحنة صغيرة وغادرنا.
… لم يكن الموت تحت التعذيب مرغوبا لدى الجلّادين، وببساطة أيضا، لم يكونوا يفعلون شيئا لتجنّب ذلك. لم يفعلوا كلّ ما بوسعهم. لقد قتلوا من أرادوا قتله، بطلقة، أو رميا في النهر، أو من علوّ، من شرفة. لا تهمّ الطريقة كثيرا، لقد قتلوا هؤلاء الأشخاص لأنّهم كانوا قد قرّروا قتلهم. ولكن الموت تحت التعذيب لم يكن مخطّطا له. وهذا لا يرفع عنهم مسؤوليته، ولا يقلّل من خطئهم. كانت لديهم هيئة طبية، تخبرهم باستمرار إلى أيّ حدّ يمكنهم الذهاب في التعذيب، ومتى عليهم التوقّف وترك المعتقل يرتاح. ولكنّ الجلّاد لا يستشير الطبيب قبل الشروع في عمله. كما لا يسأل المعتَقَل إن كان التعذيب «مناسبا أو غير مناسب» له. هذا لا يشكّل جزءا من أدبيات المهنة. لا يحصل الموت تحت التعذيب صدفة، وإنّما بسبب البطش وإهمال الجلّاد ورؤسائه والأطباء. الأطباء العسكريون ليسوا مدرّبين في الثكنات، بل في الجامعة. قد يتساءل المرء كيف تُدرِّب الجامعة نفسها الأطباء الذين يموتون تحت التعذيب وأولئك الذين يشرفون عليه. كانت الليلة مشوّشة وصاخبة، بدأ التعذيب حوالي الساعة العاشرة أو الحادية عشرة، إذ نادرا ما يتمّ التعذيب أثناء النهار… هناك جلّاد شرّير وآخر لطيف. يقول اللطيف للمعتقل إنّه لا يريد أن يُعذِّب، ولكنّ زميله رجل فظّ، صموت، عنيف، وخليق بما هو أسوأ. ولإثبات ذلك، يتكلّم الشرّير. وإذ يفعل ذلك، سوف يفهم السجين في الحال كيف تسير الأمور هنا.
ولكنّ اللطيف لم يتخلّ بعد عن منهجه اللطيف، ويواظب عليه. إنّه لا يُريد أن يُمارس التعذيب. ولكن ما لم يتكلّم المُعتقل عن طيب خاطر، سيكون اللطيف مرغما على أن يدع زميله السيئ الطباع يتصرّف.

أرض الحكَّائين

متعة الحكي وغواية اللغة

هند بن محجوب

«لن يتغير في أرض نوران شيء مادام الحكاؤون يقولون ما لا يفعلون، ويكذبون على أنفسهم وعلى الآخرين بتلك الحكايات». أرض الحكَّائين، حنان أحمد الفياض، ص 42

يستوقفك العنوان وتشدك صيغة المبالغة في كلمة «الحكَّائين» التي تلفك برفق نحو هذه الأرض؛ أرض تستدعيك للغوص في طينتها المختلفة عن غيرها، أرض يمارس أهلها غواية الحكي ويمارون من خلالها ما يمارون من قيم لا يملكونها، يمارسون مهنة الغاوين الذين يقولون ما لا يفعلون، ويهيمون في أرضهم بما لا يشعرون !
اختارت حنان أحمد الفياض «الحكَّائين» بصيغة المبالغة عمدا، وأقرت بذلك إقرارا؛ لأنها صيغة تلصق الفعل بصاحبه وتثبته عليه، ولما لهذا العنوان من دقة المعنى وقوة الدلالة، ناهيك عن تثمين للدور الذي يقوم به الحاكي، الذي يعمل على نقل الحدث مستثمرا كل أدواته وآلياته مخلصا لخلفياته ومؤمنا بقيمه.
إن الحكَّاء على صيغة الفعَّال هو شخص منذور بالحكي، موقن بجذب المتلقي له، مؤمن برسالته، متشبث بقيمه؛ لكن الحال في رواية «أرض الحكّائين» أن الحكَّاء وهم كثر- بصيغة الجمع- هم أهل نوران، مخالفون لكل ذلك، فهم لا يؤمنون برسالتهم، ولا تعني لهم القيم التي يدعون لها شيئا، يمتهنون الحكي لكسب المال، وإن كان ذلك على حساب ما يقولون وما يفعلون.
إن قوة رسالة حنان أحمد الفياض تكمن في هذه الجمالية التي جعلت الكشف عن هذه التناقضات في المجتمع العربي تمر عبر أقدم مهنة مارسها العرب، الشعر والحكي والخطابة، وهم جعلوا منها ديوان أخبارهم في سالف أزمانهم، صحيح أن الثقافة العربية عرفت التدوين بعد حاجتها لجمع القرآن وتوثيقه، والحديث الشريف وتخليصه من الموضوع والضعيف وغيره؛ إلا أن هذه الثقافة نفسها فطنت من خلال احتكاكها بالأمم المجاورة أهمية الكتابة والتدوين، وخصوصا أن الكتاب الحكيم دعا إلى الكتابة والتوثيق، لئلا تضيع الحقوق وتغمط الواجبات، فالحكي يبقى ثقافة شفهية، ويظل إرثا في ذاكرة جماعية لا يوثقه سوى إعادة حكيه، وعندما تطاله السنون يتغير بتغير الحاكي كل حسب روايته ورؤيته للحدث.
لكن العرب لم ينكروا قيمة الحب التي أنكرها أهل نوران بهذه القوة، لأنهم يؤمنون أن الضعف الذي يلبس الإنسان جراء الحب، جعلهم ينفرون منه رجالا كانوا أم نساء، إن الحب الذي سيذل صاحبه ويسلبه القوة التي تمنحه التمكين والمنعة، لا حاجة لأهل نوران به ولا طائلة لهم منه، إن امتلاك القوة كان بطل الرواية بامتياز، ولا يلتقي الحب مع القوة في أرض نوران، وكل المنبوذين من أهل نوران ساقهم الحب لمدارك الذلة والتهميش والفقد والاندثار.
لم تحد الرواية عن لغة العرب فهي في فصاحتها وأناقتها وقوتها تجعلك مشدودا منذ البداية مشدوها لتصل إلى محطة النهاية، في هذه الرواية امتزج المضمون والمتن الحكائي مع اللغة الفياضية الخاصة بحنان أحمد الفياض، لغة أنيقة مهذبة مطواعة للغرض، مطواعة للتجربة الإنسانية، للرسالة التي تدعو لها الكاتبة وتدافع عنها بكثير من الذكاء والجدية والاحتراف، وبذلك لم تكن صيغة المبالغة التي تلقفك في العنوان بالمجانية أو العفوية؛ بل هي مفتاح كل الرواية ومقصدها؛ الغلو في الحب، والغلو في الحكي، والغلو في اعتناق القوة والسلطة، وهي تتكرر عبر صفحات الرواية على وزن فعّال : الفوّاز- العمّار- العبّاد- بكّاءة – السنّاء… لتذكر القارئ بمقصدية النص، فالحكي إذا لم يحمل صاحبه من خلاله قيما يدافع عنها لا قيمة له ولا طائلة منه، وإن صار كثير الحكي متخصصا فيه ماسكا بزمامه، مشهورا به بين قومه وعشيرته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى