في أن الظلم مؤذن بخراب العمران
لم يعرف الفرنسيون الأصليون حقيقة عنف قوات الأمن الذي كان يتحدث عنه فرنسيو الضواحي المنحدرون من أصول إفريقية وشمال إفريقية إلا عندما ولدت حركة السترات الصفراء وأطلقت الدولة ضدهم قوات أمنها لكي تذيقهم أصناف العنف الذي كانوا فقط يسمعون عنه. فمن المتظاهرين من فقد عينه ومنهم من فقد يده وملامح وجهه. والحصيلة كانت ثقيلة: 11 قتيلا و2500 جريح. كلهم فرنسيون أصليون.
في الإعلام فتح نقاش حول العنف المبالغ فيه لقوات الأمن انتهى بإحالة بعضهم على القضاء الذي حكم ضد عدد منهم بثلاثة أو أربعة أشهر حبسا موقوف التنفيذ.
هناك العنصرية البدائية الفطرية التي يتربى عليها الأشخاص منذ الطفولة في البيت والشارع والمدرسة، والتي توجد في كل المجتمعات بدرجات متفاوتة، وهناك العنصرية المؤسساتية التي تكون ناتجة عن سياسة الدولة. في فرنسا هناك الاثنتان معًا.
ولذلك فالبعض يقارن بين أسباب المواجهات التي تحدث في المدن الأمريكية بين الأمريكيين خصوصا السود وبين الشرطة، أي مقتل المواطن فلويد على يد، عفوا، على ركبة الشرطي، وبين ما وقع لمواطن من أصول مالية على يد رجال شرطة بباريس سنة 2016 والذي تقول تقارير الخبرة القضائية إنه مات بشكل طبيعي فيما تقول خبرة أنجزتها عائلته إنه قتل بنفس الطريقة التي قتل بها الأمريكي فلويد، أي خنقا.
أولًا لنتفق أن أصل المشكل في أمريكا وفرنسا واحد وهو العنصرية. في أمريكا البيضاء، أو جزء كبير منها، يعتبرون عبودية السود خطيئة النشأة بالنسبة للمجتمع الأمريكي، ولا أحد من الجانبين سواء الذين كان أجدادهم سادة والذين كان أجدادهم عبيدا سوف ينسى هذه الخطيئة، بل كل ما يمكنهم فعله هو التعايش معها.
أحيانًا تصدر عن أحد الطرفين سلوكيات ترمي الملح في الجرح فينزف مجددًا، وهذا ما يحدث هذه الأيام.
والعنصرية نوع قبيح من أنواع الظلم، وعمران الأرض كما شرحه ابن خلدون في “المقدمة”، وبالتحديد في الفصل الثالث والأربعين الذي عنوانه “في أن الظلم مؤذن بخراب العمران”، لا يأتي إلا برفع الظلم عن الناس حتى يطمئنوا على أنفسهم وحقوقهم وممتلكاتهم، وذلك لن يستقيم إلا بالعدل بين الناس بغض النظر عن ألوانهم وأعراقهم.
في فرنسا هناك أيضا مشكل تاريخ مبني على العبودية، فأجداد أبناء الضواحي من الأمازيغ والعرب والأفارقة
تم استقدامهم جماعيًا وعلى امتداد سنوات من مستعمرات فرنسا لكي يشتغلوا في المناجم ويحفروا أنفاق الميترو ويضعوا خطوط السكك الحديدية ويشيدوا القناطر والطرق، وأيضا لكي يحاربوا إلى جانب الجيش الفرنسي في حروب توسعية لا تعنيهم وليست لديهم أية عداوات مع شعوبها. وهنا أفتح سريعًا قوسا وأغلقه حول شعوري بالاستفزاز قبل شهر عندما نشر رؤوف أوفقير ابن الجنرال أوفقير مفتخرا في صفحته بالفيسبوك وثائق تظهر حجم النياشين والأوسمة التي منحها الجيش الفرنسي لوالده لشجاعته وبسالته في حروب الهند الصينية، ومن وجهة نظر الفرنسيين فأوفقير بطل مغوار لكن من وجهة نظر مواطني الهند الصينية فهو مجرد مجرم حرب، إذ كيف يمكن تحويل الذهاب إلى الهند الصينية لترويع بلد آمن من أجل استعماره وتقتيل أبنائه ثم نعتهم بالثوار والخارجين عن القانون من أجل الحصول على أوسمة من البلد المحتل؟
من وجهة نظر فرنسا ورؤوف أوفقير فما نشره وثائق تؤرخ لانتصارات، لكن من وجهة نظر الطرف الآخر فهذه وثائق تؤكد حدوث جرائم حرب.
عندما أرسلت فرنسا مبعوثيها لكي يتفقدوا أيدي وأسنان مئات الآلاف من الأفارقة والعرب والأمازيغ لشحنهم نحو موانئ فرنسا من أجل استعبادهم في مناجمها وحقولها وحروبها وأوراشها لم توطنهم في المدن بل أسكنتهم في أحياء خارج المدن تشبه الغيتوهات، مثل غيتوهات السود في أمريكا، وحرمتهم من أبسط حقوق العيش الكريم. أحفاد هؤلاء المهجرين من بلدان إفريقيا هم الذين يصرخون اليوم في الشوارع احتجاجًا على القمع والعنف الذي تمارسه ضدهم المؤسسة الأمنية الفرنسية.
ومثلما تم احتقار وتهميش أجدادهم فإنهم أيضا بسبب ألوان بشرتهم وأسمائهم التي تثير الريبة يتعرضون للإقصاء في الشغل ويعيشون العنصرية في الشارع ويتعرضون للإهانة من طرف رجال الأمن الذين يتفحصون هوياتهم دون غيرهم رغم أنهم فرنسيون من الجيل الثالث.
وحسب تحقيقات صحافية أجرتها مؤسسات إعلامية محترمة فإن إرسال فرنسي من أصل عربي أمازيغي أو إفريقي سيرة ذاتية تتضمن اسمه كاف لكي يتم إقصاؤه لصالح سيرة ذاتية تحمل اسما فرنسيا خالصا.
الحالة الوحيدة التي يسمحون فيها لأجانب من هذه الأصول باحتلال وظائف خاصة بالفرنسيين ذوي العرق الخالص هي المهن التي لديهم فيها خصاص حيوي كالطب والهندسة المعلوماتية والذكاء الاصطناعي والصناعات الدقيقة والبحث العلمي وغيرها من التخصصات بالغة الدقة والأهمية.
أما البقية، وهم الغالبية الساحقة، فمكانهم الطبيعي هو أحياء الضواحي المبنية على شكل مؤسسات سجنية يعيش أغلبها تحت سيطرة التيارات الدينية المتطرفة وعصابات المخدرات والمنحرفين. إلى درجة أن هناك إحصاء رسميًا صدر يضع لائحة بأسماء أحياء في الضواحي ممنوع دخولها على رجال الأمن.
وإذا كانت أمريكا لديها مشكل عنصرية البيض المسيحيين ضد السود المسيحيين، وبدرجة أخرى عنصرية مضادة يمارسها السود ضد البيض مع فرق في الإمكانيات والوسائل والأثر، فإن العنصرية في فرنسا فيها عنصرية الفرنسيين البيض المسيحيين ضد الفرنسيين المسلمين من أصل أمازيغي وعربي وإفريقي.
بمعنى آخر الصراع في أمريكا قائم بين أعراق تدين بنفس الديانة، فيما في فرنسا وأوروبا فالصراع قائم بين السكان الأصليين المسيحيين وبين أبناء المهاجرين الأوائل المسلمين في الغالب، هناك ما بين خمس إلى ستة ملايين مسلم في فرنسا.
ولو أن ما حدث أيضا في أمريكا يحضر فيه المسلم بشكل ما، فصاحب المحل الذي اتصل بالشرطة ليبلغ عن جورج فلويد بسبب استخدام هذا الأخير ورقة 20 دولارا مزورة لشراء علبة سجائر، هو مواطن عربي أمريكي من أصل فلسطيني يدعى محمود أبو ميالة. كما أن المدعي العام لولاية مينيسوتا الذي سيشرف على محاكمة رجال الشرطة الذين تسببوا في مقتل جورج فلويد، مسلم يدعى كيث أليسون.
من أجل التصدي لما يسمونه “الزحف الأخضر” أنشأت فرنسا مؤسسة “إسلام فرنسا” ووضعت على رأسها مسيحي هو جون بيير شوفينمان وزير الداخلية السابق، وهذه المؤسسة هي بمثابة الكليرجي، أو الإكليروس، ولكي يدروا الرماد في العيون عينوا فيها الطاهر بنجلون كعضو بمرسوم رئاسي، وكتبت لوفيغارو مبتهجة أن الطاهر لم يعد يصلي صلواته الخمس منذ مدة، مع أنه في الإسلام ليست هناك وساطات بين المسلم وربه، إذ لا رهبانية في الإسلام.
وليس صدفة أن تتحدث نادين مورانو مرشحة اليمين للرئاسيات سابقا عن غزو إسلامي لفرنسا، وأن يحذر مثقفو فرنسا من حرب أهلية قادمة بين المسلمين والفرنسيين.
هل هي مصادفة، إذن، أن تتزامن كل هذه النكبات على مسلمي أوروبا في هذه الظروف الاقتصادية الصعبة التي تعيشها القارة العجوز؟
ليس هناك مكان للصدفة، كل شيء مخطط له بإحكام شديد، فالقرن الواحد والعشرون، كما تنبأ له بذلك أندريه مالرو، سيكون دينيا أو لا يكون.
علينا أن نعرف أنه بحلول عام 2050 سيشكل المسلمون نسبة 20 % من سكان أوربا بعد أن كانوا لا يزيدون عن 5 %، أي أن الأسماء التي ستكون أكثر تداولا في أوربا بعد أربعين سنة من الآن هي محمد وعائشة وآدم وريان وأيوب ومهدي وأمين وحمزة وفاطمة، وهذا وحده يشكل بالنسبة إلى الفاتيكان، المحرك الحقيقي لسياسات قادة الدول المسيحية، كابوسا مخيفا.
لذلك، بدأت كل الحكومات الأوربية منذ سنوات التنسيق في ما بينها على الصعيد الأوربي لوقف هذا “الزحف الأخضر”، فجاءت قوانين فرنسا لحظر ارتداء الحجاب في المدارس قبل سنوات، وتبعها حظر ارتداء البرقع الأفغاني، مع أنه لا علاقة له بالإسلام بل هو زي ابتدعته طالبان، وتبعتها بريطانيا عندما وضعت قوانين جديدة لمكافحة الإرهاب، اتضح أنها كانت موجهة أساسا لتجفيف منابع تمويل الجمعيات الإسلامية الخيرية في بريطانيا، ووصلت هذه الحمى إلى إسبانيا عندما منعت مدارسٌ دخولَ طالبات بالحجاب، ومنع قاض محامية مسلمة تضع الحجاب من دخول قاعة المحكمة، مرورا بكارثة تصويت السويسريين لصالح منع بناء المآذن في المساجد الإسلامية فوق أراضيهم استجابة لدعوة عنصرية أطلقها الحزب اليميني وباركتها الحكومة من وراء الستار بقبولها عرض المسألة للتصويت.
ورافق التشدد والصرامة في تطبيق هذه القوانين تراخ واضح في التصدي للجرائم العنصرية التي يتعرض لها المهاجرون المسلمون في كثير من الدول الأوربية.
والرسالة التي تريد هذه الحكومات الأوربية إيصالها إلى مسلمي أوربا واضحة بما لا يدع مجالا للشك، وهي أن المكان لم يعد يتسع للجميع، عليكم أن تختاروا، إما أن تندمجوا معنا كليا أو أن ترحلوا إلى بلدانكم حيث تستطيعون القيام بما يحلو لكم.
هذا هو عمق دعوة المفكرين الفرنسيين حول قضية “الهوية الوطنية”، فإما أن يقبل المسلم في فرنسا بالانسلاخ والتجرد من جذوره الإسلامية العربية أو الإفريقية أو الأمازيغية لكي ينتمي بالكامل إلى العرق الفرنسي والثقافة الفرنسية والهوية الفرنسية المسيحية الأصول، وإما أن يعود إلى حيث توجد جذوره التي يفتخر بها.
إن وضع أوربا، كقارة تجمع دولا تتفق جميعها على احترام المبادئ الديمقراطية، لا يسمح لها بأن تقوم بإحياء محاكم تفتيش جديدة على الطريقة الكاثوليكية لطرد العرب والأمازيغ والمسلمين من أراضيها كما وقع في إسبانيا، ولذلك تلجأ إلى استعمال القوانين للضغط وإحراج ومضايقة وإهانة هؤلاء المهاجرين، مثلما فعلت الشرطة الفرنسية مع فرنسي من أصول إفريقية عندما قامت باغتصابه بعصا، حتى يفهموا أن الأمن والخلاص يكمن في عودتهم إلى بلدانهم.
إنها، في نهاية المطاف، حلقة جديدة ومعدلة ومنقحة من مسلسل «محاكم التفتيش» التي اعتاد الغرب المسيحي القيام بها كلما أحس بزحف الإسلام والمسلمين على أراضيه. لكن يبدو أن هذه المرة لن تمر المحاكمة من دون شهود وجمهور، فالعالم كله يتفرج على المباشر ولم يعد هناك مجال لإخفاء الجرائم، ببساطة لأن القتل أصبح يتم في الشارع ويتم تصويره ونقله على الهواء مباشرة ليتفرج عليه العالم.
العالم الذي لن يظل صامتًا يتفرج على الظلم فيما ضميره يطعن أمامه.