ياسر عبد العزيز
في الأسبوع الماضي، قال وزير الدفاع السابق وعضو الكنيست الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان لصحيفة «معاريف» الإسرائيلية، إن «بناء فيلا في الغابة يكلف مالا كثيرا.. فكل شيء حولنا يحترق»، قبل أن يشرع في ذكر أسماء الدول العربية، التي تعاني عدم الاستقرار أو الاضطرابات والحروب الأهلية.
كان الهدف من حديث «ليبرمان» هذا أن يشرح أن إسرائيل تعيش في محيط من الاضطرابات وعدم الاستقرار الذي يصل إلى مستوى «الحرائق»، وأن ذلك يفرض عليها أعباء وتكاليف ضخمة، إذا أرادت أن تبني مجتمعا حداثيا ودولة رفاهية بهذا المحيط المُهشم، الذي يعاني تكاليف النزاعات والفقر والنزوح واللجوء.
في جانب من حديثه، يبدو أن «ليبرمان» لديه حق؛ إذ إن بناء دولة مستقرة تنعم بالأمن والرفاه (بصرف النظر عن كونها دولة احتلال) في محيط لا ينعم بالاستقرار مسألة في غاية الصعوبة، لأن آثار الاضطرابات والنزاعات ستطولها بكل تأكيد، وهو الأمر الذي يدفعنا إلى السؤال عن السبب الذي جعل محيط إسرائيل يغرق في هذه المعاناة.
ونتذكر واقعة دراماتيكية لن ينساها التاريخ؛ إذ أشعل الفتى التونسي محمد البوعزيزي النار في نفسه، في 17 دجنبر 2010، احتجاجا على الشرطة التي صادرت عربة الخضروات التي يرتزق منها، ليشعل احتجاجات عارمة ونادرة قلبت الأوضاع في بلاده، ثم انتقلت، كما الدومينو، لتطيح بأنظمة في الجوار العربي حكمت لعقود.
بعد مرور 13 سنة من اندلاع شرارة البوعزيزي، تغير حال المنطقة تغيرا جوهريا؛ فقد أُطيح بأنظمة عديدة، وانفجرت انتفاضات هائلة، وقُتل قادة حكموا لعقود أو هربوا أو سُجنوا، واندلعت حروب أهلية، وقوضت سيادات دول، وتفشت جوائح إرهابية، وقُتل مئات الآلاف من المواطنين العرب، وشُرد الملايين.
ما زالت صورة كبيرة للبوعزيزي تتصدر مبنى الحكومة المحلية بمسقط رأسه في محافظة سيدي بوزيد، لكن تلك الصورة تشهد انقساما لافتا إزاءها اليوم، فثمة من يلعنها علنا أو يلقي باللوم على صاحبها في ما آلت إليه الأمور، وثمة من يرى أنه خلّد بـ«استشهاده» دماء العديد من ضحايا الاستبداد والظلم والفساد، وأنه فتح بـ«تضحيته» الطريق للتغيير والإصلاح المنشود.
لكن الأكيد أن عائلة البوعزيزي اليوم تعيش بكندا، وربما تشعر بالأمن والاندماج وتجد مستقبلا في هذا البلد، فيما لا تتوافر الشروط ذاتها لعديد العائلات المشابهة لها بتونس، التي يرى كثير من المحللين أنها تشكل بادرة إيجابية بين دول التغيير العربية، بسبب قدرتها على تخطي الفوضى وانهيار السيادة، وتنظيمها آلية ديمقراطية لتداول السلطة، وحفاظها على قدر ملائم من الحريات وحقوق الإنسان، لكن الأوضاع الاقتصادية ما زالت متراجعة، ومعدلات البطالة تتصاعد، والمد الأصولي يتجذر ويهدد أي مكتسبات.
مع اندلاع الانتفاضات ورد مصطلح «الربيع العربي» إلينا من الغرب، ومع ذلك، فقد استخدمه كثيرون بيننا بحُسن نية، باعتباره «مقدمات لتغيير سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي، سيأخذ هذه المنطقة التي تخاصم الحداثة وتعاند التاريخ إلى مصاف الدول المتقدمة، عبر عمليات انتقال ديمقراطي حان وقتها».
ما زال بيننا من يستخدم هذا المصطلح (الربيع العربي) حتى وقتنا هذا، لكن ما جرى في هذه البلدان التي شهدت الانتفاضات لا يمكن أن يصب أبدا في «خانة الربيع»، رغم استثناءات نادرة ما زالت تحيط بها الشكوك.
وعلى الأرجح، فإن ما جرى بهذه البلدان ساعد في تكريس الفكرة التي تحدث بها «ليبرمان»، وأعاق عددا من البلدان عن الوصول إلى مستويات من الاستقرار والتنمية مناسبة.
في ليبيا واليمن وسوريا، ولاحقا العراق، قادت الانتفاضات هذه الدول إلى «شتاء أصولي» هيمنت الميليشيات الإسلاموية على تفاصيله، وغرقت في حروب أهلية، وفي مصر نجح تنظيم «الإخوان» في سرقة انتفاضة يناير، محاولا تحويل البلاد إلى مطية لأوهام «الخلافة المزعومة»، قبل أن تنجح انتفاضة 30 يونيو في الإطاحة به.
يقودنا هذا إلى محاولة الاستفسار عن الأسباب التي حرفت هذه الانتفاضات عن اتجاهاتها المرجوة، إلى حد أن قطاعات كبيرة من المواطنين العرب أضحت أكثر اعتقادا في أن هذه الانتفاضات كانت «مؤامرات تخريبية مدبرة»، بهدف «إسقاط الدول العربية» التي اندلعت فيها.
إن الانتفاضات أو الثورات ليست مطلبا أو هدفا في حد ذاتها لأي دولة أو مجتمع. ينتفض الجمهور أو يثور حين يكون التغيير ضرورة، وحين يكون الطريق إليه مسدودا.
ويمكن القول إن هذين العاملين توافرا بشكل أو بآخر في معظم الدول التي شهدت التغيرات الحادة، لكن تحول هذه الانتفاضات أو الثورات إلى عملية انتقال رشيدة، تأخذ المجتمعات التي اندلعت فيها إلى أوضاع أفضل، مسألة أكثر صعوبة وتعقيدا.
وطالما أن الدول العربية المحيطة بإسرائيل، وغيرها، لم تجد طريقا آمنا للإصلاح وتحقيق التنمية العادلة والمستدامة، سيظل بوسع «ليبرمان» أن يتحدث عن إسرائيل بوصفها «فيلا»، وعن العالم العربي المحيط بها بوصفه «غابة».
نافذة:
ما زالت صورة كبيرة للبوعزيزي تتصدر مبنى الحكومة المحلية بمسقط رأسه بمحافظة سيدي بوزيد لكن تلك الصورة تشهد انقساما لافتا إزاءها اليوم