شوف تشوف

الرأيالرئيسيةسياسية

فيسبوكيات (3)

يسرا طارق

 

لأن عالم «الفايسبوك»، على غرار غيره من وسائل التواصل الاجتماعية، سجن الأفراد بداخله، وخلق لهم عالماً افتراضيا يرضي غرورهم ويمنحهم تعويضاً نفسيا مزجيا عن مرارات حياتهم الواقعية، فقد تحول، شيئاً فشيئاً، إلى تدبير ضرب من الوساطة بين الأفراد والعالم الخارجي. فعوض أن تقول الأم لبنتها إنها تحبها، وجها لوجه، صارت تقول لها ذلك من خلال تدوينة، وعوض أن يفخر الأب بأبنائه أمامهم، صار يفعل ذلك في شاشة هاتفه، وعوض أن تكون الصداقة كلمة وموقفاً في وقت الشدة، صارت كلمة فارغة، ينثرها الواحد، هنا وهناك، في وجه من لا يراهم ولا يعرف أي شيء عنهم، بل إن أزواجا يتشاركون كل شيء في الحياة الواقعية، صاروا يكتبون لبعضهم البعض مديحاً أو تعظيماً، وكأن هناك مسافة تفصل بينهم ويحتاجون الكتابة لرتقها.

لم يعد الأفراد يهتمون بما هي عليه علاقتهم حقيقة بالآخرين وبالعالم، صار همهم الأوحد بناء الصورة التي يتصورونها عن أنفسهم والآخرين، لهذا صار كل شيءٍ استعراضاً وفرجة.

العواطف لا تعاش في حرارة وصدق الصلات مع الناس، وإنما تسلع وتمنح للناس في شكل صور وتدوينات، الحياة الخاصة التي كانت مقدسة، ويعمل الشخص على حمايتها من فضول وتلصص الآخرين، صار الفرد نفسه يدعو الآخرين لاستباحتها والخوض فيها. لم يعد لشيء حرمته، المحتضرون يصورون وهم ينازعون الموت، ولا يهم من هم حتى لو كانوا آباء وأمهات، المرضى يصورون وهم في لحظات ضعف وهشاشة، والموتى وحتى هم موتى، يصورون وتنشر صورهم في إشارة إلى أن لا كرامة لأحد ولا لشيء حتى لو كان موتا. لم تعد الأسفار مهمة في حد ذاتها، بما هي اكتشاف للعالم وذهاب للقاء الآخر المختلف، بل صارت فرصة للحصول على صور، مزيد من الصور أو الفيديوهات، التي تُشهد العالم على أن فلانا أو فلانة ذهبا للمكان الفلاني. لم تعد الحياة نفسها، مجابهة لصروف الدهر، ولغزاً وتصريفا لهذا التشابك الحي مع أحداث وأمزجة وأفكار الآخرين، بل صارت صورة، صورة فقط، نتظاهر بالقوة ونحن في أشد لحظات الضعف، نتظاهر بالسعادة ونحن في أحلك لحظات الشقاء، نتظاهر بالكرم وبحفظ حق الصداقة، نتظاهر بالتقوى والورع، نتظاهر بقراءة الكتب ومشاهدة الأفلام، نتظاهر بحس المواطنة والمسؤولية، نريد من العالم أن يصدق الصورة التي نقدمها عن أنفسنا، وننتظر «الجيمات»، كما ينتظر المؤمن إحصاء حسناته، لا شيء في العالم الافتراضي له أهمية علامات الإعجاب، إنها المنى والطلب، حجم ومقام الواحد في هذا العالم هو عدد جيماته وما يصاحبها من تعليقات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى