يسرا طارق
كان على الإنسان في ما مضى، ليحصل على منبر يخطب فيه ويتوجه للناس عارضًا أفكاره، أن يعمل لسنوات في المجال السياسي مثلا، ويتدرج في سلم المهام والمسؤوليات ليصل بعد جهد جهيد إلى حق الخطابة في الجموع. كان على من يريد أن يعتلي منبرًا ليتكلم في شؤون الدين أن يحفظ ويدرس سنوات الأصول وأمهات الكتب ليستحق، بعد سنوات من الكد والتقوى، اعتلاء تلك الدرجات المهيبة ومواجهة الناس. كان الوصول إلى مقام مخاطبة الناس متعبا وشاقا، ويتطلب تضحيات جساما، وسلك طريق طويل من إعداد النفس لتلك اللحظة الحاسمة. كل هذا لم يعد ضروريا اليوم، فبنقرة واحدة صار الإنسان يهب لنفسه الصورة التي يريد والمقام الذي يريد، وأصبح بإمكانه أن يتكلم في ما يريد وكيفما يريد، بنقرة واحدة يدخل الواحد عالما افتراضيا لا سلطة لأحد فيه ولا معايير تحكمه.. عالم لا يتحقق من الهويات ولا يطلب شهادات ودبلومات، ولا يشترط الصدق ولا يراجع المعلومات، عالم حافل بالألقاب التي يمنحها الشخص لنفسه، وبالكلام الجميل والاحتفالي الذي توجهه الذات لنفسها، عوض انتظار ذلك من الآخرين، وبالقدر الذي سحقت فيه الأزمنة الحديثة الفرد وسجنته في أقفاص إسمنتية سمتها سكنا، وأخضعته لجبروت السلعة وسمت ذلك قدرة شرائية، ولم تعد تريد من الإنسان إنسانيته، بل تريد منه أن يكون زبونا متلهفًا على استهلاك كل ما يعطى له، سواء كان ذلك غذاءً أو لباسًا أو فكرةً أو موقفًا.
لقد شلت الأزمنة الحديثة، أو تكاد، الإنسان وحرمته من مباهج وحرارة الحياة المشتركة، حرمته من عفوية الساحات العمومية، حيث يلتقي الناس ليفرحوا ويرقصوا ويتبادلوا الحكايات والتجارب، وليحتجوا ويثوروا أيضًا، وعوضته عن كل هذا بعوالم افتراضية، تمنحه وهم تحقيق كل ما يريد، ولكن في عالم غير حقيقي. لم يعد الناس يتكلمون مع بعضهم البعض، مثلما كانوا في الماضي، كانت الصداقات وبعض المصائر المشتركة، تولد بين الناس وهم يركبون المواصلات العامة، أو ينتظرون دورهم في طابور. كانت النفوس تُفرغ هواجسها وكل ما يؤرقها لأول غريب يفتح الكلام معه شرارة البوح، أما الآن فكل واحد صار يدفن رأسه في عالمه الخاص، يجاور الآخرين بجسده فقط، أما عقله فيسبح في ملكوت خاص به. لم يعد الناس يرون أنفسهم في أعين ووجوه الآخرين، وإنما في شاشات هواتفهم التي لا تعطيهم إلا ما كانت تعطيهم إياه المرآة، وإن بكثير من الأوهام…(يتبع)