شوف تشوف

الرأي

فيروس كورونا ومجاز الأفاعي

صبحي حديدي
خلال أزمنتنا المعاصرة تنقلت البشرية بين سلسلة من الأوبئة الكونية: تارة جنون البقر وجنون الدجاج، وتارة أنفلونزا الخنازير وأنفلونزا الطيور؛ ليس من دون المرور على فيروس إيبولا، الذي قضى على الآلاف، في غرب إفريقيا، وهدد بالعدوى 550 ألفا إلى 1.4 مليون نسمة. وأما الزائر الأحدث فهو فيروس كورونا، الآتي من الصين، والذي تشير بعض التقارير الطبية إلى أنه، ليس قرين ما عرفنا حتى الساعة من حيوان وطير؛ بل هو صنيع.. الأفاعي!
وهذا لا يعني أن البشرية لم تشهد أوبئة أخرى كونية الطابع والانتشار؛ إذ يكفي أن نتذكر حال مرض نقص المناعة، الـ«إيدز»، في سنوات ابتدائه، وبلوغه الأوج، قبيل السيطرة الجزئية عليه، كي نتيقن من أن الآدمي، وليس الحيوان والطير والزواحف وحدها، مسؤول عن أوبئة التدمير الشامل. وخلال العصور الوسطى لاح أن الطاعون الدُمّلي (أو النزفي، أو العقدي) وباء لا علاج له لأن منشأه ليس فيزيولوجيا ماديا بل روحيا ميتافيزيقيا، جلبه اليهود تحديدا؛ وقد حصد أرواح 25 مليون نسمة، أو ربع سكان أوربا يومذاك، خلال أربع سنوات فقط، بين 1346 و1350، واستحق التسمية الشهيرة «الموت الأسود».
في كل حال، ومن جانبي شخصيا، لست أتوقف عن إقامة الرابطة الوثيقة بين مشاهد تلتقط آلاف الجياع على هذه الأرض، نابشين في التراب بحثا عن عِرْق يابس يقيم الأود بين الجلد والعظم، كي لا نتحدث عن حاويات القمامة في الشوارع؛ وبين مشاهد رديفة تصبح سمة ملازمة لانتشار هذا الفيروس أو ذاك، وتصوّر رمي آلاف من قطعان الماشية والدواجن إلى النيران، اتقاء لشرور ما قد تحمله للآدمي من كوارث، بعد أن كانت تتكفل بإشباع شهيته وإمتاع شهواته. كذلك لا أغفل العلاقة المباشرة بين كونية الاعتلال، وبين الأطوار الراهنة من العولمة، والوحشية منها على وجه الخصوص. ففي المستويات التكنولوجية والتجارية، كيف للمرء أن يتجاهل عواقب الأعلاف الحيوانية التي ألغت، أو نابت عن، الأعلاف الطبيعية، لاعتبارات تتوخى التسمين غير الطبيعي، لتحقيق مزيد من الأرباح السريعة. وفي المستوى الثقافي والنفسي، ألا يأخذ الوباء (من الطاعون الأسود وحتى فيروس كورونا) صفة خواف جماعي في نهاية الأمر، ورعب معمم يبدل الميول والسلوكيات والأعراف؟ وفي المستوى السياسي، الذي لا يغيب عنه الاقتصاد بالطبع، ألا تتبدى البراهين ساطعة جلية في الصراعات الخفية والعلنية، حول تصدير مواشي وطيور بلد دون سواه، وعزوف المستهلك عن البضاعة بأسرها، وما يعنيه ذلك من إفلاس صناعات، وإخراج الآلاف من سوق العمل إلى سوق البطالة؟ وإذا كان المزارع الأمريكي قد نجا، بدرجة ملموسة، من شرور البقرة المجنونة التي تعالى خوارها الرهيب في أرجاء القارة العجوز أوربا، ومن الطائر الوديع الجميل الذي صار حمّال فيروسات قاتلة تهاجر طي الأجنحة والمناقير؛ فإن أوبئة تحملها الخنازير، أو يستحدثها جنود «عاصفة الصحراء»، تمكنت من عبور المحيط واختراق القلعة اليانكية. فالعالم، شاءت جدران دونالد ترامب أم أبت، ليس جزرا منعزلة، وسواء جاءت الأوبئة من جنوب أو من شمال، فإن الكرة الأرضية بأسرها سوف تنتظر الاعتلال. هذا مع التشديد على أن العالم، في الآن ذاته، ليس متساويا في آلام الخضوع للجائحة، وفي أزمنتها ونطاقاتها؛ الأمر الذي يعيد التشديد على تلك الهوة العتيقة الفاغرة: بين شمال وجنوب، وتخمة ومجاعة، وعافية وعياء، ورفاه وتخلف. اليوم تُتهم أفاعي الصين، والأسواق الشعبية التي تتاجر بلحوم الحيوانات في منطقة ووهان تحديدا، بأنها حاملة فيروس الرعب الراهن؛ الذي بدأ، بالفعل، يستعيد مناخات رهبة جَمْعية اقترنت، على مر التاريخ في الواقع، بظهور هذا الوباء أو ذاك، ونجاحه السريع في الفـــتك بالعشرات.
وهكذا يترسخ مجاز الأفعى، إذن، بعد مجازات البقر والدجاج والخنزير والطيور، في انتظار أن تُهمل التحليلات العلمية والمخبرية الرصينة لصالح تصعيد خطابات استعارية أخرى حول المرض والوباء والجائحة، لا تنطلق من الفيزيقي لأنها لا تتشهى إلا الميتافيزيقي!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى