
الموت عند المدربين كالحب يبدأ بنظرة وإشاعة، وينتهي بتأبين ونسيان.
إذا مات المدرب ينقطع عمله إلا من جمهور يدعو له حين يرفع «تيفو» في المدرجات ليستحضر ذكراه، أما الميت فلا يخشى الموت.
ودعنا أول أمس الأسطورة جيست فونتين، مدرب المنتخب الوطني السابق والهداف التاريخي للمونديال، مات الرجل الذي يحجز في قلبه مساحة حب للمغرب، ليس لأنه مراكشي المولد بيضاوي التألق، بل لأنه ظل يحرص على نسج خيوط الود بين تولوز والدار البيضاء ومراكش.
قبله مات كثير من مدربي المنتخب الوطني في صمت رحلوا دون دقيقة صمت ترحما على أرواحهم. مات العربي بن مبارك أول مدرب للفريق الوطني، وظل أبناؤه يطاردون عقارا مغتصبا ليتبين لهم أنهم يطاردون خيط دخان، اكتشفوا زيف القول المأثور «لّي ولد ما مات».
مات ماصون وكليزو بعد أن عاش كل منهما حياته الأخيرة على كرسي متحرك وبأقدام مبتورة، وانتهى المطاف باللوزاني ومديح والسطاتي والعماري في ما يشبه العزلة.
يموت المدرب فيرسل الفريق حافلة النادي إلى المقبرة لنقل المشيعين، ويكتب المسؤول بلاغ تأبين يعدد فيه مناقب الفقيد، وفي أحسن الأحوال يعطي تعليماته بتحمل نفقات الجنازة. يرحل المدرب إلى دار البقاء فيسأل زملاؤه عن آخر شواهده في التدريب، ويسأل حفار القبور عن الراعي الرسمي للجنازة، ويسأل هواة السير خلف الجنائز عن موعد عشاء الميت، ويسأل الصحافيون عن صديق للفقيد لازال يحمل في ذهنه أشلاء ذكريات صالحة للنشر.
تنتهي حياة المدربين كما تنتهي مباريات الكرة، تارة في وقتها القانوني وتارة بشوطين إضافيين وركلات جزاء، وصيتهم لأبنائهم: «لا تقربوا الكرة إنها كائن محشو بالجحود».
لا تصدق أرامل المدربين وعود ليلة التأبين، لأنها مجرد كلام ليل يمحوه النهار. ولا يثق أبناء الفقيد في كلام يبدأ بـ «سوف» لأنه حرف تسويف وتنفيس. لهذا لا تقام للمدرب الراحل مباريات تأبين ولا يزور قبره لاعبون أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف.
نعود إلى مدرب منتخبنا جيست فونتين، الذي استعد للرحيل حين مات الأساطير تباعا، حزم حقيبة السفر ورتب كؤوسه وميدالياته وتذكاراته، وحجز لنفسه قبرا بل وحرص على تحديد العبارات وانتقاء الكلمات التي ستكتب على شاهد قبره. بالرغم من المرض الذي أنهك جسد هداف المونديال التاريخي كان يبدو وكأنه يقوم بعملية إحماء قرب المقبرة يستعجل الدخول إلى ملعب الأموات، كلاعب احتياطي أنهكه طول الجلوس على دكة البدلاء.
قبل وفاته زار جيست فونتين ملعب العربي بن مبارك، وكان برفقة فريق تلفزيوني فرنسي قدم إلى الدار البيضاء لإنجاز فيلم وثائقي حول مساره. لم يتمكن جيست من مصادرة دموعه وهو يقف في ملعب كان يحمل اسم «فيليب».
قال فونتين: «لقد افتقدنا لأشخاص يتبرعون بقطع أرضية لبناء ملاعب كما فعل السيد فيليب»، وعبر عن استيائه من وضعية الملعب وغضب لإطلاق اسم العربي بن مبارك على منشأة يلفها الإهمال: «هذا جرم عار أن نعذب العربي وفيليب في قبريهما».
زار فونتين مقهى رفيق دربه الملاكم الراحل مارسيل سيردان، وجدد الرحمات على نجم الكرة المغربية الفقيد عبد الرحمان بلمحجوب، حين أصر على زيارة أرملته ليلى، ولقاء لاعبين أشرف على تدريبهم في مرحلة صعبة من تاريخ الكرة المغربية، قبل أن يشد الرحال إلى مراكش ويزور البيت الذي ولد فيه بحي كيليز، ويودع ما تبقى من رفاق زمن مضى.
يقول رفاق درب جيست، إن أسطورة الكرة الفرنسية ظل قبل وفاته حريصا على قراءة كتب الأديب جان دي لافونتين، الذي يعتبر أشهر كاتب قصص خرافية في تاريخ الأدب الفرنسي، والتي تدور أحداثها على ألسنة الحيوانات.
حلل وناقش.
حسن البصري