حوار هذا الأسبوع يجريه الملحق الثقافي لجريدة “الأخبار” مع الروائي السوري فواز حداد، الذي عرف نفسه للقارئ المغربي بأنه عربي سوري، أقام بمدينة دمشق مسقط رأسه، التي يعيش حاليا مغتربا عنها، لكنه ينتظر العودة إليها.
ويؤكد فواز حداد أنه منذ بلغ الأربعين يعيش متفرغا للرواية، يعيش بها ولها، إذ استقر نشاطه الأدبي على الرواية، قبل عقدين وبعد كتابة أربع روايات، أدرك أنه لن يستطيع الجمع بين الرواية وأي عمل آخر فتفرغ نهائيا للكتابة لها رغم كل الظروف الصعبة التي مر منها.
واعتبر فواز أن الرواية شكلت عامل جذب حتى للعلماء والأطباء، وكأنها أصبحت مادة صالحة للتعبير للجميع دونما استثناء، خاصة أن قراءة الرواية تمنح المتعة والفائدة والترويح عن النفس، ويعتقد الكثيرون أن بوسعهم كتابتها لمجرد أن لديهم تجربة شخصية تستحق أن توضع في هذا القالب، وبخصوص الرواية التي تكتب خارج سورية فقد أكد أنها ازدهرت خلال سنوات الثورة والحرب، وصدرت مئات الروايات، صحيح أن أغلبها يدور حول الحدث السوري، لكنها روايات تمتلك حرية كانت محجوبة طوال نصف قرن.
وتحدث فواز أيضا عن الفساد الضارب في الوسط الثقافي، ومساهمة بعض المثقفين في استشرائه.
حوار مع الروائي السوري فواز حداد
قال إن الجابري والعروي أكثر ما حظي بالقراءة في أوساط القراء السوريين
حاوره: محمود عبد الغني
— نريد من الأستاذ فواز حداد أن يقدم نفسه للقارئ المغربي: النشأة الأولى، الدراسة، كتابة الأدب والرواية على الخصوص.
– نحن السوريين، نقدم أنفسنا عادة تحت هذا التعريف فنقول عربي سوري، ليس من باب المشاعر القومية، بل امتنانا للعروبة. أنا من مدينة دمشق، لم أخرج منها، إلا أخيرا بسبب قيام الثورة في سوريا عام 2012 ولم أرجع بعد، فلنقل إنني بانتظار العودة، تنقلت بين عدة دول، بيروت وقطر وبريطانيا. بدأت الكتابة مبكرا، وكتبت في الأنواع الأدبية كلها عدا الشعر، وتنقلت بين الرواية، القصة القصيرة، المقال، السيناريو، المسرح، وكانت كلها عبارة عن تدريبات غير مثمرة، وتجارب مبتورة. هذه المحاولات تخليت عنها، لم أنشر إلا بعد الأربعين، اعتقدت أنني فعلت حسنا. حصلت على شهادة الحقوق من الجامعة السورية، لم أعمل بها، اشتغلت بأعمال حرة. استقر نشاطي الأدبي على الرواية، قبل عقدين وبعد كتابة أربع روايات، أدركت أنني لن أستطيع الجمع بين الرواية وأي عمل فتفرغت نهائيا للكتابة ضمن ظروف صعبة واستمررت. أما روايتي الأولى، فكانت «موزاييك – دمشق 1949» صدرت عام 1991، نشرتُ حتى الآن خمس عشرة رواية ومجموعة قصصية واحدة.
— كيف تنظر إلى فن الرواية اليوم، في سوريا، العالم العربي والعالم؟
– في الواقع، ليست الرواية فقط، بل الأدب برمته منقسم في سوريا، إنها مرحلة صعبة، فالانقسام بين موال ومعارض حاصل اليوم في الرواية، في الداخل هناك من يكتب روايات تشيد بالنظام، وتكافأ بالجوائز، وروائيون احترفوا تقديم أنفسهم في الخارج على أنهم معارضون، بينما هم إلى جانب النظام لئلا يخسروا الأضواء، هناك أيضا روائيون كبار ما زالوا يكتبون بشجاعة، ولا يتاجرون ببقائهم في الداخل. أما اتحاد الكتاب فمؤسسة تابعة للدولة، في الواقع تبدو بلا هوية، تضم الأخيار والأشرار معا. الفساد ضارب في الوسط الثقافي، يقوم عليه المسؤولون عن الصفحات الثقافية. المفكرون المؤثرون رحلوا أو معتزلون، لم يتواطؤوا مع الانحدار الحاصل.
الرواية التي تكتب خارج سورية ازدهرت خلال سنوات الثورة والحرب، وصدرت مئات الروايات، صحيح أن أغلبها يدور حول الحدث السوري، لكنها روايات تمتلك حرية كانت محجوبة طوال نصف قرن. الرواية السورية خرجت من القمقم، الثورة كانت العامل الرئيسي لتدفق كم هائل من الكتابات المتنوعة أيضا. كانت ثورة حقيقية، قبل أن تختطف وليست زلزالا كما يزعم ناقد أدبي موال، كتخريجة تحيل الثورة إلى إرهاب. أعتقد أن الرواية باتت مشرعة على الكثير من التجارب، هناك مشاريع روائية جدية، وروائيون سوريون مازالوا علامات، مثل خيري الذهبي وممدوح عزام وخليل الرز ومازن عرفه، مع توالي ظهور شبان الرواية؛ هيثم حسين، عبد الناصر العايد، سومر شحادة، فادي عزام وغيرهم. إن الهدف الذي يعمل عليه هو التواصل بين الخارج والداخل.
في العالم العربي، يبدو النتاج الروائي فوضى، فالفيضان الروائي لم يعد من الممكن التحكم فيه، مهما يكن هي حالة صحية، ساهمت الجوائز في التحريض على الكتابة بسبب القيمة المالية الكبيرة، كذلك الشهرة بسبب الدعاية المفرطة، يمكن القول إنها تسيئ في النهاية إلى الرواية، فالنتائج لن تكون لصالحها، لاختلاط الجيد بالوسط والرديء. الصحافة لا تستطيع التعامل معها، ولا التمييز بينهما، لافتقار الصحفيين إلى الثقافة الروائية، هذا لا يمنحهم الحق في التقييم، أكثر المراجعات لا تخفي هشاشتها، ولا تزيد عن الإفراط في المديح المجاني، أو استعراض الرواية بما ينبئ عن قراءة سطحية.
لكن يجب الإشادة بكثرة التجارب تحت تأثير الاستجابة للكثير من المؤثرات، كالروايات المترجمة والأفلام السينمائية، وإن غلب عليها التسرع والتكلف، لكنها مغامرات مشروعة سواء في الشكل أو المضمون، لا يمكن تصويبها أو الحكم عليها إلا بحركة نقدية جادة، لئلا يمر هذا الدفق الروائي من دون إحداث نقلة نوعية، كما يخشى ضياعه من دون التعرض للضوء، أو التلاشي بفعل الإحباط.
أعتقد بالنسبة للعالم، هناك أزمة في الرواية، نلاحظها في توزيع جوائز نوبل والبوكر وجونكور، باتت هذه الجوائز تستنجد بإفريقيا والفرانكوفونيين، كذلك العرب، لِمَ لا؟ للأسف لا تصمد الروايات الفائزة أكثر من موسم الجائزة، بعدها تذهب مع الفائز لأقدارها. فالغرب، رغم كل شيء، لا يريد لها أن تشكل علامة في تاريخ الرواية، فيمنحها جوائز ترضية سياسية أو أخلاقية وإنسانية لا أكثر. حتى كتاب الغرب في السنوات الأخيرة، ما الذي أضافوه بعدما حصلوا على الشهرة؟ ما أنتج بعدها لا يسترعي الا ذلك الاهتمام التقليدي من دور النشر، للإبقاء على الكاتب صالحا للاستثمار.
قد يكون من الطبيعي ألا تظهر القيمة الحقيقية للرواية إلا بعد مضي زمن طويل، يتحقق بعدما يثبت الروائي إسهامه بهذا الفن، من دون تلك الظروف المصاحبة والمساعدة، كالدعاية وتدخل الدول ولغط الجوائز.
— هاجر الكثير من الأدباء، خصوصا الشعراء والفلاسفة.. إلى جنس الرواية، ما السحر الجاذب فيها؟
– شكلت الرواية عامل جذب حتى للعلماء والأطباء، وكأنها أصبحت مادة صالحة للتعبير للجميع دونما استثناء، خاصة أن قراءة الرواية تمنح المتعة والفائدة والترويح عن النفس، ويعتقد الكثيرون أن بوسعهم كتابتها لمجرد أن لديهم تجربة شخصية تستحق أن توضع في هذا القالب، فما بالنا بالفلسفة والشعر؟ بالفعل شهدنا هجرات جماعية من الشعراء والصحفيين والفلاسفة وأخيرا دارسي الفلسفة وعشاقها، كان أحد روادها الفيلسوف المعروف سارتر وصديقته سيمون دي بوفوار، لتسويق فلسفاتهم وآرائهم روائيا ومسرحيا. وإذا كانت بالنسبة للشعر أصبحت ظاهرة، لكنها بدأت في التراجع بعد الزخم الذي كسبته. وكان في تألق اللغة الشعرية والتهويمات والسرحان الطليق في عوالم التخييل، أنها كادت أن تحتل ساحة الرواية وتحولها إلى لا رواية. بينما كانت بالنسبة للفلسفة أداة ممتازة للتفلسف على أرض الواقع، وضخ الحياة في فلسفات بدت وكأنها للمختصين، لكنها غدت بمتناول جمهور من القراء، لم تحلم الفلسفة بالوصول إليهم، لا يعني هذا تبسيط الفلسفة بقدر ما أنها تقول: إن الفلسفة تعني جميع البشر.
— ألا ترى أن من بين «المهاجرين» من أساء للرواية نفسها حين كتبها؟
– لقد أفادوا الرواية بقدر ما أساؤوا إليها، هذا في البداية. إذ جرى الاعتقاد أن الاعتماد على شاعرية اللغة يُكسب الرواية ما ينقصها، ما حدث هو أن الرواية لا يمكن لها المضي قدما نحو الأمام، بينما أخذت تتقدم نحو الخلف، الرواية عمارة من مجموعة عناصر، إذا هيمن الشعر عليها فسوف يكون على حساب العناصر الأخرى، ثم إلى أي حد تحتاج إلى الشعر؟ من حسن الحظ أدركت الرواية ما بوسع الشعر أن يضيفه إليها بحيث لا يفقد الرواية روائيّتها، وسرعان ما احتوت الرواية هذه الطاقة الشعرية واستفادت منها، على أن تستثمر لصالح بنية الرواية، لا أن توظف بطريقة استعراضية.
كذلك الفلسفة، التي بالفعل لم تخل الرواية منها من قبل، فالنظر الفلسفي لا يغيب عن المعنى الكلي للرواية، وإذا كنا قد شهدنا في العقد الأخير روايات نالت شهرة لتركيزها على تسويق فلسفات معاصرة، فما كان إلا تنبيها للرواية بأن الفلسفة من أدواتها الرئيسة وليست عنصرا غريبا عنها، الروائي فيلسوف الواقع بالضرورة، بالتالي كان تأثير دخول الفلسفة بهذا التركيز تجربة جميلة لكن عابرة. قد تؤسس لتعامل إضافي مع الفلسفة، يتحدد باستعراض روائي لفلسفات نيتشه وشوبنهاور وسبينوزا وتأثيرها في البشر وسيرورة العالم.
— هل يقوم النقد الروائي العربي بدوره في مقاربة الرواية العربية، أم أن الأمر لا يتجاوز، في بعض الحالات، الصداقة؟
– إذا لم يحاول النقاد العرب ألا يكونوا أسرى تنظيراتهم الأكاديمية في الرواية، والنزول إلى الواقع الروائي، فلن تكون هناك مقاربة معقولة للرواية العربية التي تبدو اليوم أشبه بجائحة عمت الثقافة. فالواضح أن المراجعات للرواية لا تزيد عن تفعيل علاقات الصداقة والمعارف والمنافع، هذا لا يفيد الرواية ولا يصنعها أو يؤثر فيها، ولو كانت في أحسن أحوالها تشد عصب الموهبة، بينما يرغب الكاتب في معرفة ما الذي فعله؟ هل أحدث كتابه ردة فعل حقيقية؟ هذا لن يعرفه مهما كانت الإشادة بكتابه، إذا كانت مفبركة أو مصطنعة، أي من تصنيعه، عندما يروجون لرواياتهم بأساليب مداهنة وممقوتة، هذا الأسلوب سار، في بلادنا العربية، يمارس بلا خجل، يساعد عليه بعض المتنفذين في الصفحات والمواقع الثقافية. ثمة الكثير من الأمثلة الواقعية المؤسفة.
— كيف تنظر إلى الجوائز المخصصة للرواية؟ هل المال يفيد الأدب؟
– قد لا يفيد المال الأدب، إلا في حال أتاح للأديب ظرفا أفضل، مريحا للكتابة، لا للاسترخاء، فالمال يذهب، ولا يمكن التعيش على شهرة تسوق كتاباته بالمجاملات، وهي في الواقع عارض إلى زوال.
جوائز الرواية كان من الطبيعي أن يلحقها الفساد، ولا غرابة فالفساد ينتشر حيث المال، وبما أنه طاول الثقافة، انتشر في الوسط الثقافي. الملاحظ هو التمييز والاستثناءات والأولويات لدى القائمين عليها، فالرواية الفائزة هي التي لا تستحق الفوز غالبا، وذلك باستبعاد روايات من القوائم التمهيدية لئلا تؤثر على غيرها، ومراعاة كتاب كبار، ولو كانت رواياتهم ليست بالمستوى المطلوب، سمعتهم أكبر منها.
لئلا نغالي في أحكامنا، الجانب السيء الذي لا يمكن تجاوزه، فرض الروايات الفائزة على جمهور عريض على أنها الأفضل، بينما فازت دون وجه حق، هذا ما يؤثر على ذائقة القراء الذين يعتقدون أنهم يقرؤون الأفضل، وعلى الكتاب الناشئين، لمجرد اعتبارها أنها نموذج يحتذى.
اعتقد أنه من الممكن تحسين سوية الجوائز وذلك باستقلالية المؤسسات المانحة، لئلا تتقيد بسياسات الدولة، لأنها تبالغ بها. النظر إلى الرواية على أنها عمل فني مهما كان الموضوع الذي تتعرض له، فالرواية فضاء مفتوح، لا يجب تقييده باعتبارات ظرفية، ولا دينية أو سياسية.
كذلك عدم الأخذ بالتوزيع الجغرافي، ولا بسطوة بعض الكتاب، أو بالعلاقات الشخصية، أو بما تدره من منافع. ويمكن القول وهو الأهم. ومن دونه لا تعني الجوائز شيئا، ولا الجهد الثقافي، إن لم نمتلك ما يدعى بالضمير الثقافي، وهو نادرا ما نصادفه.
— ما جديد الأستاذ فواز؟
– جديدي كان رواية «يوم الحساب» وهي تتناول سردية للمجتمع السوري على الضد من سردية النظام في ظل الثورة والحرب، وفي بعض وجوهها تتطرق إلى الدين وما صار يدعى بقضايا الأقليات، وهي ظاهرة انتشرت سلبياتها خلال السنوات العشر الماضية.
أنا مشغول بمشروع كبير، أكتب عن الربيع العربي الذي تحول إلى جحيم، وانكشاف المجتمع خلاله، وما طرأ عليه من صيرورة تحت وطأة ظروف غير عادية، ومحاولاته التخلص من ثقل قمع عانى منه نحو نصف قرن، ما أحالني إلى تشريح الدولة الشمولية الرثة، وهي الصيغة المنحطة للدول الشمولية في القرن الماضي؛ الستالينية والنازية والفاشية، تلك التي استعانت بأيديولوجيات مغلقة وقهرية، بينما الرثة تعدم الأيديولوجيات بأنواعها، إلا إذا كان الحقد والنهب واللصوصية والخسة والبشاعة والتعذيب والقسوة… أيديولوجية عصر يجدد حماقاته بالجرائم.
إنها عن البشر في الدفاع عن أنفسهم، هزائمهم وانتصاراتهم. لا أكتب عن لحظة فارقة فقط، وإنما عن حياة نجهد ألا تذهب هباء.
— هل قرأت لروائيين مغاربة؟
– قرأت عدة روايات مترجمة للطاهر بن جلون، كذلك تعرفت إلى روايات محمد زفزاف في مرحلة مبكرة. أما محمد شكري فقد تلقفناه بسرعة إثر الشهرة التي حظيت بها كتاباته عن مجتمع القاع، وكان رائدا حقيقيا بجرأته الاستثنائية. لا بد. تلاحظ ضعف التواصل بين البلدان العربية، ما عوضت عنه معارض الكتب الدورية، وتعطله رقابات الدول.
بالمناسبة، أكثر ما حظي بالقراءة في أوساط القراء السوريين، مشروع محمد عابد الجابري، وأيضا عبد الله العروي، وبشكل مبكر لدى صدور ترجمة عمله الأول «الأيديولوجية العربية المعاصرة» عن دار نشر بيروتية.