شوف تشوف

الرأيالرئيسية

فوائد التنويع

ربما كان الصوفي الكبير ابن عربي هو من رسخ شعار «الوحدة في التنوع»، باعتباره صاحب فكرة «وحدة الوجود»، وربما كان لغيره إسهامات في ترسيخ الشعار من الصوفيين والفلاسفة عبر التاريخ. وإذا كان التسامح يعني قبول الآخر المختلف، فإن الوحدة في التنوع تعني ما هو أكثر، أي أن التنوع أساسي، بل وربما ضروري لاستدامة وجود البشرية على الأرض وإعمارها.

الفكرة إذا قديمة، ربما قدم التاريخ، لكنها تكتسب في أيامنا هذه دلالات أوسع بكثير. وذلك أمر طبيعي مع تعقد حياة البشر وتطورها. فمن تنويع مصادر الدخل، وتنويع الاقتصاد للدول والكيانات إلى تنويع مستلزمات حياة الأفراد والأسر. ففوائد التنويع كثيرة وتكاد لا تحصى.

تلك المقدمة تفسر تطورا مهما يحدث الآن في العالم، ويكاد أن يغير شكل علاقات دوله وجماعاته في المستقبل ربما ليس بالبعيد. ذلك هو السرعة التي «تنوع» بها كثير من دول العالم سلة العملات في احتياطياتها من النقد الأجنبي، مع تقليل نصيب الدولار الأمريكي منها. ليس معنى ذلك أن العالم سيتخلى بسرعة عن الدولار كعملة رئيسية عالميا، لكن المعدل الذي تفقد به العملة الأمريكية مكانتها في التعاملات الدولية عموما وفي احتياطيات النقد الأجنبي خصوصا، يعني أن ذلك اليوم الذي لا تصبح فيه الورقة الخضراء مهيمنة على النظام المالي العالمي يقترب.

صحيح أن نصيب الدولار من إجمالي احتياطيات النقد الأجنبي لدى دول العالم ينخفض منذ مطلع القرن، هابطا من أكثر من سبعين في المائة في بداية القرن الحادي والعشرين إلى أقل من ستين في المائة، لكن ذلك كان بسبب إطلاق العملة الأوروبية الموحدة، الأورو، التي أكلت من نصيب الدولار في سوق الاحتياطيات العالمية. وإذا كان نصيب الأورو من تلك الاحتياطيات بلغ نسبة عشرين في المائة أو أكثر قليلا، فإنه تقريبا توقف عند هذا الحد حتى ما قبل العام الماضي.

منذ اندلعت الحرب في أوكرانيا وبدأت الولايات المتحدة والغرب في فرض عقوبات مشددة على روسيا، أهمها هو حظر البنوك الروسية من النظام المالي العالمي إلى حد ما، ارتفع معدل تخلي كثير من الدول عن الدولار في سلة احتياطياتها الأجنبية بنحو عشرة أضعاف متوسط ما كان يحدث سنويا منذ مطلع القرن الحالي. ولم يعد الأمر يقتصر على نصيب الدولار من الاحتياطيات العالمية، بل إن المبادلات التجارية بين كثير من الدول أصبحت تجري بالعملات المحلية لتلك الدول، أو أنها على وشك أن تكون كذلك في سياق التخلي عن الدولار في تلك التعاملات.

بالطبع كان سعي روسيا منذ العام الماضي إلى التعامل بعملتها، الروبل، مقابل العملات المحلية لشركائها التجاريين، بغرض مواجهة العقوبات الصارمة المفروضة عليها من أمريكا وأوروبا. لكن أيضا الصين وجدت في ذلك الوضع فرصة لزيادة جهودها لتعزيز المكانة الدولية لعملتها، اليوان، سواء في معاملاتها التجارية مع روسيا، أو في علاقاتها مع عدة دول أخرى من الدول الصاعدة والنامية.

وتسارعت بقوة في غضون أشهر قليلة محاولات تخلي كثير من الدول عن الدولار في معاملاتها التجارية، وحسم التبادل بالعملات المحلية. مثال على ذلك ما بين البرازيل والأرجنتين، والاتجاه إلى توسيع اتفاق البلدين ليشمل ثلاث وثلاثين دولة في أمريكا اللاتينية والكاريبي. ومع أن كل تلك التحركات تحتاج إلى مدة طويلة كي تؤدي إلى التخلي تماما عن الدولار في تعاملات تلك الدول، إلا أن البدء فيها بالفعل يعني بداية نهاية هيمنة العملة الأمريكية على العالم.

والعامل الأكثر تحفيزا لهذا التحول نحو تنويع دول العالم عملات احتياطياتها وعملات تبادلها التجاري والاستثماري، هو زيادة استخدام واشنطن لعملتها كوسيلة ضغط سياسيا. فمنذ العقوبات غير المسبوقة على روسيا لم يعد ممكنا إزالة مخاوف كثير من دول العالم من أن أمريكا تحول عملتها إلى سلاح في سياق التوسع في فرض العقوبات، سواء على روسيا أو الصين أو غيرهما. ولم يعد التنويع في العملات لتلك الدول من قبيل التحوط التقليدي، أي ألا «تضع البيض كله في سلة واحدة»، وإنما فك ارتباط مع ما تراه سلاحا أمريكيا دائما.

وإذا كانت أمريكا اتهمت روسيا بأنها استخدمت إمداد الطاقة لأوروبا كسلاح، فالواقع أن أمريكا هي من تصعد في تسليح الاقتصاد ليس فقط تجاه روسيا، وإنما أيضا ما تقوم به الآن من الضغط على أوروبا لمشاركة واشنطن في حصار الصين اقتصاديا. ولا يمكن لوم الدول الصغرى إذا ما رأت أنها يمكن أن تكون اليوم قبل الغد عرضة لاستخدام أمريكا السلاح ذاته ضدها، إذا رفضت أيا من تلك الدول الضغوط الأمريكية في مسألة ما.

مرة أخرى، لن تزيح عملة أخرى الدولار عن عرش النظام المالي العالمي قريبا، فليست هناك عملة بهذا القدر من السيولة والسهولة في تعاملات الأسواق الدولية. كما أن وراءها اقتصاد ما زال هو الأكبر في العالم، بل والأكثر مرونة وقدرة على امتصاص الصدمات والأزمات. لكن السياسات الأمريكية دفعت بالفعل كثير من دول العالم إلى الجرأة للسعي نحو التخلي عن الدولار. وهذا ما يمكن أن يقود إلى تجاوز فوائد التنويع التقليدية، إلى الإضرار بالسطوة الأمريكية ودورها العالمي بلا مبالغة.

 أحمد مصطفى

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى