شوف تشوف

الرأي

فن الجراحة وجراحة الأوعية الدموية

بقلم: خالص جلبي

إذا كان الجراحون في عمومهم يخافون من نزف الأوعية الدموية، كونها المشكلة الجوهرية التي تقلق بال كل جراح وتقض مضجعه، سواء أثناء العمل الجراحي أو بعده في صورة المضاعفات الجراحية، فإن مجال جراحي الأوعية الدموية هو ينابيع الدم، والسيطرة على النزف فيها، فهم يدخلون إلى أماكن الرعب وكهوف الخوف.
وإذا كان الكثير من بقية الجراحات تقوم بالتفجير أو البتر أو الاستئصال أو القطع، فإن فن جراحة الأوعية الدموية تصنيعي بالدرجة الأولى (RECONSRTUCTIVE)، سواء في إعادة تدفق الدم، أو ترقيع لشريان متضيق، أو تصغير لوعاء منتفخ أو تجاوز لشريان مسدود بشريان جديد أو بتحويل اتجاهات الدم من مكان إلى آخر، ومن نظام إلى نظام. فجوهر جراحة الأوعية الدموية هو بنائي تصنيعي، وعندما نصف هذا الفن بأنه يقوم على ساقي الأخلاقية والفن، فلا يعني أن بقية فروع الجراحة ليست أخلاقا وفنا، بل هو من قبيل الخاص يقصد به العام، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص سبب جراحة الأوعية الدموية، وإلا فماذا نقول عن الدقة المجهرية لجراحة الأعصاب، أو التحليل العقلي البارد في إصابات البطن المغلقة عند الجراح العام، أو الرشاقة الهندسية عند جراح العظام، أو التصور الفراغي المذهل عند جراح التجميل؟
والوقت الطويل والمضني والدقيق في لوحة جراحة الأوعية الدموية، هو من إنجاز هذه اليد الفنانة، فهذه الجراحة الدقيقة هي في الحقيقة لوحة رسم تأخذ بالألباب، فيها سحر الجمال، وروعة التناسق، وانسياب اللون الأحمر مع ظله الأزرق الذي يجمع طيف اللون بكامله.
هذا الفن هو في الغالب عمل فني دقيق، حيث تستحيل يد جراح الأوعية إلى ريشة فنان مبدع، من خلال خياطة دقيقة محكمة، ولطف زائد بأنسجة رهيفة، وعناية فائقة لأوردة هي في حساسيتها أكثر من نعومة المرأة.
ولا غرابة إذا رأينا الزوجية في الحياة كلها بما فيها نظام الأوعية الدموية، فالشريان بقساوته وضخامته يمثل الرجل، والوريد بنعومته وحساسيته وقدرة تحمله التي تفوق الشريان يمثل المرأة، فالزوجية تنظم الوجود في كل مستوياته، بما فيها البناء التشريحي للأوعية.
تأمل قوله تعالى من سورة الذاريات: «ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تتذكرون».
وبعد هذا فقانوننا في التعامل مع الأوعية يقوم على احترام فوق العادة لينابيع الدم هذه، فهم أصدقاؤنا الحميمون يبثون إلينا شكواهم ونجواهم، من رضوض وعدوانية بعض الأيادي الخشنة عليهم، ولكن لا يعني الاعتياد ورفع الكلفة بين الأصدقاء تمزيق حجاب الاحترام.
وبقدر ما ينعدم الخوف من قلب جراح الأوعية الدموية وهو يرى النزوف المرعبة لسواه، حيث يسيطر عليها بسرعة وفنية ونعومة ورشاقة، بقدر ما يعامل الأوعية بمنتهى الاحترام، بل وبحب وذوق، فهو يجمع بين مشاعر الاحترام والحب وعدم الخوف أحيانا، والرهبة والخشوع تارة أخرى، فليس هناك أعظم من انتظام الطاقة الإنسانية بين الأمل والقنوط، لأن الطاقة تتحطم وتنتثر على حافتي اليأس أو الغرور، ويركض الإنسان المطارَد عادة بأعظم طاقة من الزخم، عندما يستقيم شعوره بين حافتي الأمل في النجاة والخوف من اللحاق، وتتباطأ حركته وتتوقف عند الانحسار على إحدى حافتي اليأس أو الأمان.
وجراح الأوعية يتعامل في الواقع مع الأعضاء التي تضخ الحياة إلى بقية أعضاء الجسد، وعندما يأتي الطرف أو العضو قد تهشمت فيه العظام، وتسلخ الجلد، وتهتكت العضلات، وتقطعت الأعصاب، وتمزقت الأوعية؛ يهرع فريق كامل من جراحي العظام والأعصاب والتجميل والأوعية.
ولكن عمل الجميع يرتكز أولا وأخيرا، على نتيجة عمل جراح الأوعية، فإن نجح نجحوا، وإن فشل هووا معه إلى القاع الأسود من البتر أو الموت، وهي النتيجة التي لا يحبها أحد في فريق العمل الطبي، فالدم هو مادة الحياة التي ينتظرها الجميع بفارغ الصبر، كي يستيقظ الجلد، وتنتعش العضلات، وترتخي الأعصاب، ويتماسك العظم، فنتائج جراحة الأوعية فورية، والتداخل سريع في ساعات الإصابة الأولى.
كلها قوانين حيوية في هذا الحقل الطبي التخصصي. والجزاء والثواب فيها من عملتها السريعة نفسها، ففي الوقت الذي تتراوح نتائج أعمال جراحة الأعصاب (الشهور الطويلة) حتى تتحرر الأطراف من قبضة التيبس، ويستيقظ الوعي من السبات، وتسبح جراحة العظام في (أسابيع) طويلة ممضة، حتى ينتصب المريض على ساقه ماشيا بعكازة وجبس.
وجراح البطن يفرك يديه منتظرا (الأيام) بفارغ الصبر متى يأكل المريض ويفرغ أمعاءه؛ فإن جراح الأوعية نتائجه فورية لا تحتمل أي تأجيل، فإذا لم ينطق الشريان بالنبض فورا، ولم تتكلم الأوردة بالانتفاخ والامتلاء، ولم يتحدث الجلد بحرارة، كان معناه أن الموت يحلق فوق المنطقة بظله الأسود، ليرسم الأطراف بهذا اللون المشؤوم، معلنا جرس الإنذار للبتر أو الموت.
نعم إن جراحة الأوعية الدموية هي فن التعامل مع ينابيع الدم التي تتولى إيصال مادة الحياة إلى كل خلية في الجسم؛ فالأكسجين رمز الحياة هو المحمول بذلك العتال (الكرية الحمراء) الذي لا يعرف التعب، في دورة رائعة يسقي الأنسجة العطشى، والخلايا الظامئة من رحيق هذا الإكسير (الأكسجين)، ذلك أن انقطاع الدم أو تدفقه وسفحه خارج وعائه على حد سواء يفضي إلى الموت، إما إلى موت في عضو بحد ذاته مما يؤدي إلى بتره، وإما إلى الموت العام بموت الإنسان، بفقد النسيج الدموي في نزف مجنون صاعق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى