شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرملف الأسبوع

فنان وأمني : مطربون وملحنون ومسرحيون وكتاب كلمات بالأسلاك الأمنية

لا يمكن النظر إلى رجل الأمن بمنظار يكرس صورته كشخص له ملامح قاسية ولا يتكلم إلا لغة العنف، ولا ينفذ إلا تعليمات رؤسائه.. رجل الأمن مهما كانت تصنيفاته وانتماءاته هو بشر قد تسكنه ملكة الإبداع التي لا تقتصر حتما على الأدباء والمفكرين والفنانين.

حسن البصري:

صحيح أن ضوابط أسلاك الأمن بكل فصائله ترسم حدودا بين الهواية والمهنة، لكنها أبدا لا تمنع الشرطي والدركي و«المخزني» من ممارسة هوايته والسير في درب إبداعاته، شريطة الحصول على رخصة مسبقة، عندما تكون ممارسة النشاط الفني في متناول الجماهير العريضة. لكن الأمني المبدع غير مطالب بالترخيص إذا تعلق الأمر بإبداع فكري، وراء الكواليس، قد يساهم في الحصول على موارد مالية إضافية دون السقوط في شراك التعدد الوظيفي، لأن الدولة تمنع الجمع بين الوظيفة العمومية وممارسة عمل آخر مؤدى عنه.

كثير من رجال السلطة مارسوا في خلوتهم هوايات فنية تسكنهم، فقد كان المحجوبي أحرضان، وهو وزير للدفاع الوطني، يختلس من وقته ساعات لممارسة هواية التشكيل وكتابة الشعر الأمازيغي، وكان إدريس البصري خبيرا في أدب العيطة، إذ لا يجد إحراجا في تصحيح «بروال» أو تقويم «ميزان» مختل.

لهذا فرجل الأمن لا يشكل استثناء ولا يجب أن ينظر إليه كشخص بدون مشاعر، مهمته الوحيدة مطاردة المجرمين وتنظيم السير والجولان، بل إن ملكة الإبداع قد تسكنه كما تسكن البشر.

يصعب حصر أسماء رجال الأمن من مختلف الفصائل، الذين اختاروا طوعا دخول معترك الفن والفنانين، فقليل منهم كشفوا عن هويتهم وقلة منهم اختاروا الإبداع في خلوتهم وفضلوا الأسماء المستعارة تجنبا لأي طارئ.

عزوزي.. ضابط دركي يقع في عشق الفن

عرف عمر عزوزي بصداقته العميقة لكثير من الصحافيين الرياضيين كما اشتهر بأنه يجمع بين الفن والدرك الملكي. بدأ مشواره المهني كضابط في صفوف الدرك الملكي في ستينيات القرن الماضي، قبل أن يقرر تغيير بوصلته ويتحول إلى فنان متعدد الأدوار يطل على الجمهور عبر الشاشة الصغيرة.

وبالرغم من أصوله المراكشية، فإن عمر استقر طويلا في الدار البيضاء، وكان قريبا جدا من الوسط الفني، حيث نسج علاقات عميقة مع محيطه بفضل حسه الفكاهي والاجتماعي، بالرغم من أن الدرك مرادف للصرامة.

في سنة 1991، سيخلع عمر عزوزي بذلة رجل الدرك، ليلبس رداء الممثل والفنان، عندها لم يستسغ أحد أن يقدم دور رجل أمن الذي أبدع فيه. في أكثر من حوار صحفي أوضح عمر مدى الغضبة التي انتابت زوجته وأفراد عائلته وحتى أقرب أصدقائه، خاصة وأنه قضى ربع قرن في هيئة الدرك الملكي.

استغرب الكثيرون لهذا القرار، وتساءلوا كيف يمكن لضابط أن يتحول إلى ممثل في مهنة غير مضمونة الدخل. لكن يبدو أن الفن انتصر على السلطة، وكأني بالرجل شعر بالاختناق داخل الجهاز الأمني فاختار التحليق خارج محيط السلطة.

قال عزوزي، في حوار سابق مع جريدة «الشرق الأوسط» متحدثا عن هذه النقلة النوعية في حياته: «لم يتقبل معظم السينمائيين فكرة وإمكانية أن يستقيل رجل أمن من مهنته ليلج ميدان الفن والتمثيل. يمكن القول إني عشت معاناة حقيقية، بحيث أغلقت في وجهي الأبواب، كانوا شبه مقتنعين بأني جاسوس مدسوس بينهم لكي أتقصى وأنقل أخبارهم إلى رؤسائي. لكن مع مرور الوقت والاشتغال ضمن أفلام ومسلسلات وأعمال فنية مختلفة، تفهم كثيرون وضعيتي واقتنعوا باختياراتي، بعدما تأكد لهم أن ميدان الإبداع والفن يفضح من يتعاطاه لغايات خفية، وبالتالي يسهل التمييز بين المدسوس، والذي يمكن أن يضحي بمهنة تضمن له إعالة أسرته فقط، لكي يشبع غرورا فنيا ويلبي نداء الفن في داخله. وإلى الإبداع، وقف السينمائيون والفنانون على الجهد الذي كنت أقوم به في المحافظة العامة، وتهيئة ظروف العمل الفني، واقتنعوا أكثر حين أصبت في يدي، في غمرة تصوير فيلم سينمائي».

لكن الضابط الدركي الذي غير جلده، سيفوز في عام 1993 بجائزة أحسن ممثل. فوز أوقف الجدل الذي كان قائما حول هذا التغيير، وسينهي تهمة «المخبر»، ويؤكد للمشككين أنه فعلا رجل عصامي حاصل على شهادة عليا في علم الإجرام في سلك الدرك ويملك خبرة التحقيق، بل ويجيد الأدوار البوليسية.

شارك عزوزي في التنشيط الفني والثقافي، على هامش دورة ألعاب البحر الأبيض المتوسط التي أقيمت في المغرب عام 1983، ودورة الألعاب العربية السادسة التي أقيمت عام 1985، والألعاب الفرنكفونية، التي أقيمت عام 1989. كما شارك في مهرجانات مسرح الهواة بأسماء مستعارة. وداخل الثكنات كان يقيم حفلات يقلد فيها رؤساءه. وحين قدم استقالته لم يتم قبولها «كان علي أن أستعين بوساطات لكي تتم الاستجابة لطلب الاستقالة لمعانقة التمثيل والفن».

في رصيده عشرات الأعمال المميزة، على غرار: «صقر قريش» و«ربيع قرطبة» و«ملوك الطوائف»، وفيلم «وبعد؟» و«السيمفونية المغربية» و«طيف نزار» و«درب مولاي الشريف» و«حرب شارلي ويلسن»، و«أنا وأمي وبثينة» واللائحة طويلة.

سباطة.. رجل أمن بالاستعلامات العامة وشاعر غنائي

هو شاعر غنائي قبل أن يكون عنصرا من عناصر الأمن الوطني في ولاية الرباط، وتحديدا في مصلحة الاستعلامات العامة، قبل أن يعلن تفرغه الكامل للفن ويصبح واحدا من أشهر كتاب كلمات الأغاني المغربية الأصيلة.

ولد الطاهر سباطة سنة 1942، وتوفي في ماي 2012 عن عمر يناهز السبعين سنة، وعلى الرغم من انشغاله بمهمته كرجل أمن في مصلحة حساسة، نطم الشاعر الطاهر سباطة عددا من الأغاني في الفترة الذهبية للأغنية المغربية في الستينات والسبعينات والثمانينات من القرن العشرين، دون أن يخلف وعده مع الوظيفة الأمنية، حيث يقول أحد رجال الأمن الذين رافقوه في رحلته الوظيفية في الأمن الإقليمي للعاصمة الرباط إلى جانب أقطاب تلك الفترة لمزايتي، رئيس أمن الرباط سلا ورمزي والتباع وحلمي ومالك ولكحل، بل إن الطاهر كان يكتب الكلمات التي كان يتلوها كبار رجال الأمن في المناظرات والحفلات.

بالرغم من انشغاله، فقد كان اسمه حاضرا بقوة في المشهد الطربي، حيث لفت نظر المسؤولين الأمنيين حين كتب كلمات «عندي بدوية» التي غناها محمد الإدريسي سنة 1963 ولحنها الموسيقي محمد بن عبد السلام، من هنا كانت بداية شهرته، ومن بعدها أغنية «شفت الخاتم» للفنانة نعيمة سميح ولحن عبد الرحيم السقاط.

كتب الطاهر سباطة أشعاره في جميع المجالات وجميع الاتجاهات، دون أن ينسى المدن المغربية من طنجة إلى الكويرة، كما جاء في شهادة الصحفي يوسف الدباغ عن الفنان الطاهر سباطة أنه محب الخير للناس ولغيره، وتشجيعه للمواهب الشابة صنع شهرة الكثيرين، رغم مرضه فإن قلمه لم يتوقف عن الكتابة والإبداع، لاسيما بعد اعتزاله المهنة الأمنية.

اشتغل الفنان الطاهر سباطة في حياته كرجل أمن في الإذاعة الوطنية بالرباط، ما جعله قريبا أكثر من الحياة الفنية ونسج علاقات مع الفنانين ولجنة الكلمات التي وجدت في كتاباته روح إبداع حقيقي.

كان الشاعر الغنائي الفنان الطاهر سباطة، فصيحا بشكل جعله مقربا من أصحاب القرار، خاصة حين يرتجل كلماته وينتقيها بعيدا عن لغة المحاضر الأمنية الصارمة التي لا دخل فيها للإبداع.

يزيد «ريبيرتوار» الفنان الطاهر سباطة عن 80 أغنية، تحتفظ بها الخزانة الصوتية للإذاعة الوطنية، ما بين الوطني والعاطفي والديني.

حمدوشي.. «كولومبو» الشرطة يصبح كاتب سيناريوهات بوليسية

قبل وفاته وخاصة في نهاية مشواره المهني، ظل ميلود حمدوشي، أو «كولومبو الشرطة المغربية»، حريصا على قراءة الصحف اليومية والروايات البوليسية وكتابة ما يخالج فكره من إبداعات. في أيامه الأخيرة انقطع الرجل عن الأكل، بعد أن عانى من سرطان القولون الذي اكتشفه بشكل متأخر، حسب إفادة أحد الأطباء، لكن الوضع الصحي لم يمنعه من «أكل» الكلمات.

ظل الرجل يحذر شقيقه محمد من مغبة «الاعتكاف» في الوظيفة وتضييع الوقت خلف مكاتب الإدارة العمومية، داعيا إلى التمرد على الوظائف التي تعطل همم المبدعين وتحولهم إلى مجرد مستخدمين، كما أوصى أفراد أسرته خاصة نجلاه حاتم وإيمان بالمزيد من القراءة لأنها تنمي الفكر.

قال مولاي حفيظ بن هاشم، المدير العام السابق للأمن الوطني، في تصريح صحفي قبيل دفن جثمان حمدوشي، «رغم انقطاع الصلة المهنية، إلا أن العلاقة الإنسانية ظلت قوية ومتواصلة بيننا، وأذكر أن آخر اتصال بيننا جرى يوم عيد الأضحى، حين اتصل بي الراحل مباركا لي العيد، لكنه لم يخبرني بمرضه، كما لو كان الأمر يتعلق بالاتصال الأخير، وكذلك كان مع أمنيين آخرين».

وكان آخر ظهور رسمي لميلود، بفضاء كلية الحقوق بالدار البيضاء، حين حاز المراقب العام حميد بحري، نائب والي أمن الدار البيضاء على دكتوراه في العلوم السياسية وذلك صباح يوم السبت13 يوليوز 2019، حيث التقى بمجموعة من رفاق دربه الأمني، وأوصاهم بالتمرد على روتين الوظائف والكتابة والقراءة.

فضل العميد الإقليمي المتقاعد، والروائي ميلود حمدوشي، الخلوة الروحية والفكرية في مسكنه بمنطقة طماريس ضواحي الدار البيضاء، حيث كان يشم نسائم البحر ويرتب أفكاره ويمني النفس بإبداعات أخرى تنظم إلى مكتبته، قبل أن يشتد المرض وينقل إلى إحدى المصحات حيث لفظ آخر أنفاسه يوم الجمعة 30 غشت 2019.

قدم ميلود استقالته من سلك الشرطة لأسباب خاصة، فعرض عليه المدير العودة إلى العمل بما يخدم مصلحة الوطن، فاستجاب لطلبه كمستشار قانوني في الإدارة العامة للأمن الوطني، ثم عين مديرا للمعهد الملكي للشرطة في القنيطرة.

رفض الوظيفة العمومية وسجل بهيئة المحامين بالدار البيضاء في يوليوز 2016 بعد أن مارس المحاماة بهيئة باريس كما اشتغل محققا خاصا في الديار الفرنسية، وكان قبل ذلك استاذا للقانون الجنائي بكلية الحقوق جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، فضلا عن انشغاله بكتابة الرواية البوليسية التي منحته صفة كانت سيناريوهات بوليسية.

اجضاهيم.. وال للأمن ومؤلف أشعار غنائية

يعتقد البيضاويون أن اسم أبو بكر اجضاهيم يقترن فقط بعالم كرة القدم، باعتباره رئيسا سابقا للوداد الرياضي وأحد قيادييه أو ما تبقى منهم، لكن الرجل يحمل أكثر من قبعة، فهو السياسي الذي خبر تضاريس الأحزاب حين نشأ في أسرة استقلالية كان معيلها أمينا لمالية الحزب، وهو رئيس جمعية أبناء الشهداء وأسر المقاومين، وأول رئيس لمركز الشرطة الرهيب «الساتيام» بعد الاستقلال، قبل أن يتقلد مناصب أمنية أخرى جعلت منه شاهدا على العصر في كثير من الأحداث، أبرزها واقعة انفجار فندق أسني بمراكش التي تعتبر أول عمل إرهابي يهز المملكة.

اجضاهيم ليس فقط مراقبا عاما متقاعدا، وليس وجها مألوفا في المنصة الرسمية لملاعب الكرة، وليس حامل مسدس يرعب الحكام كما جاء في أهازيج “إلتراس” الرجاء، بل هو مساهم أساسي ومؤثر في مجريات أحداث كبرى كحرب الرمال وعارف بملف الاغتيالات السياسية، اعتزل مهنيا لكنه ظل متابعا للشأن السياسي والرياضي في البلاد متحديا عوامل الزمن حريصا على طراوة ذاكرة تختزن الكثير من الأحداث مصرا على اقتسام ما فيها من وقائع مع الأجيال.

في حديث مع «الأخبار»، كشف أبوبكر عن بداية عشقه للكلمة، «أولى قصائدي كانت في صحيفة الصحراء المغربية التي كان يشرف عليها علال الفاسي، وكان يخصص الصفحة الأخيرة لإبداعاتي وأعمالي الشعرية، وكلها تقريبا قصائد وطنية وقومية، ومنها من كان يتعلق بنداء استرجاع سيدي إفني، كالقصيدة التي يقول مطلعها «إفني الحبيبة ما دعاك». ويمكنكم الرجوع لأرشيف جريدة العلم للوقوف على أشعار كثيرة صدرت في منابر كانت تابعة لحزب الاستقلال. أذكر أن مفدي زكرياء الشاعر الكبير التقاني في فاس حين كنت رئيسا للأمن الإقليمي وقال لي إنه يحتفظ بأشعار والدي، فقلت له والدي لم يكن شاعرا إنها قصائدي أنا، ففوجئ ببوليسي شاعر».

نعم كانت لاجضاهيم العديد من الأبيات الشعرية التي ترتبط بكرة القدم، والتي لطالما رددتها المدرجات:

نحن وجيراننا أشقاء من صلب النضال

ننحدر

ما كنا في يوم من الأيام أعداء بل أنداد منافسات نداول بيننا صدارتها

ونحتكر

وهناك أشعار مرتبطة بالحدث ولها علاقة بما يقع في المشهد الرياضي، سواء تعلق الأمر بشغب الملاعب أو قرارات الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم، كقصيدة حول «الوي كلو».

ما آن الأوان للجنة أخلاقياتنا/ أن تبعد عنا بشاعة ويكلواتها

فإفراغ مدرجات الملاعب من جماهيرها/ قرار ما كان ببال العاقلين سيخطر

من اعتمدوه حلا قتلوا إبداع فصائلنا/ وقتل الإبداع في كل شرائع جريمة لا تغتفر

أتسأل الفصائل عن شغب يفسد أعراسها/ وأمننا بألوان أطيافه لكل التظاهرات يؤطر

أليس كل فعل إجرامي له بالتحديد فاعله/ والمحاكم وحدها لا غيرها بالقصاص تحكم

هل كان بعض اللاعبين ينظمون قوافي الشعر، أم أن الشعر لا يحلق فوق ملاعب الكرة؟

أبرام.. ضابط في رحاب فن الملحون

بدأ مسيرته الدراسية الابتدائية في مدرسة السور العريقة، بسلا والثانوية بالأيوبي، ثم غادر المدينة لخوض تجربة التدريب الفندقي بالمدرسة الفندقية في مدينة ورززات، واشتغل هناك في أحد الفنادق حتى نهاية الثمانينات، حيث قرر الالتحاق بسلك الشرطة بالمديرية العامة للأمن الوطني بعد اجتياز المباراة، وأصبح يعمل ضابطا في مدينة الرباط.

في حواره مع صحيفة «القدس العربي» يتحدث هذا الأمني المبدع الحاضر بقوة في المعرض الدولي للكتاب في الدار البيضاء والرباط من خلال رواق المديرية العامة للأمن الوطني، وفي العديد من المهرجانات والملتقيات الوطنية والعربية، وفي برامج تلفزية وإذاعية عديدة، عن التجاذب القائم في دواخله بين الأمني الصارم والفنان المرهف الأحاسيس.

كان توفيق من المتأثرين بمدارس شيوخ سلا القدامى من قبيل الشيخ عبد الرحمن حمدوش والشيخ محمد الشليح رحمهما الله، وكان يسعى دوما إلى نشر فن الملحون بين الأجيال المقبلة من خلال إدارته لورشات في التعريف بهذا الفن الأصيل.

«منذ صغري كنت محبا لكل الألوان التراثية والصوفية المغربية والإيقاعات، والمسرح الذي كانت لي فيه مشاركات سواء أثناء الدراسة، أو من خلال بعض الفرق آخرها نادي الفصول المسرحي أيام مسرح الهواة حيث كانت لكل مدينة فرقة أو فرقتان».

ويضيف: «بدأ حبي وشغفي بهذا الفن في سن الثانية عشرة، وساهم في ذلك ظهور نهضة فنية وثقافية مغربية في بداية السبعينات، ولم يكن جيلنا ليسلم من الجرعة التي كانت تضم شيئا من الغيوان وجيل جيلالة ومسرح الصديقي والجوق الوطني للملحون وحدث المسيرة الخضراء واحتفالات عيد العرش، كل الظروف كانت مواتية لصناعة فنان مغربي».

يحمل الرجل على كتفيه مسؤولية جعل مدينة سلا قلعة من قلاع الملحون على غرار مكناس ومراكش وفاس وأزمور وتارودانت وآسفي والرباط، ويحرص على أن يبحث عن الجديد في عوالم الكلمة الموزونة، عبر دواوين شعرية وسيرة ذاتية تعيد كتابة مراحل حياته بين الدراسة والفن والأمن.

 

الكوكبي.. ضابط مراكشي جمع بين الوتر والسلاح

جمع العربي الكوكبي بين الإحساس المرهف للفنان وصرامة العسكري بين العود والسلاح، دون أن يشعر أصدقاؤه بهذا التحول، وظل على امتداد مشواره الفني يؤسس لمدرسة فنية أصيلة طبعت تاريخ الأغنية المغربية العصرية لحنا وكلمة. من منا لا يذكر «أش داني»، «الحبيب الغالي»، «يا قاسي القلب»، «ضاعت لي نوارة»، «الله أكبر»، «في كل خطوة سلامة»، «كورنيش طنجة»، وهي نماذج من القطع التي خلفها الراحل، الذي اشتهر أساسا بكلمات ولحن أغنية «خفة الرجل» التي أداها إسماعيل أحمد وكثيرون من الفنانين بعده. كما برع الفقيد في تلحين الأغنية الوطنية الشهيرة «نشيد القسم»، مقابل صرامة تحملها صفته العسكرية كـ «كومندار» في الحرس الملكي.

ارتبط اسمه طويلا بأغنية «آش داني» وتردد في الوسط الفني أن الملك الحسن الثاني هو من كتب كلماتها، وأسندها إليه، وهو ما نفاه الكوكبي في أكثر من حوار صحفي.  مقابل اعتراف بكون الحسن الثاني كان يتمتع بحاسة موسيقية وذوق فني رفيع، وإلمام واسع بقواعد الفن، لكن انشغالاته السياسية لم تكن تسمح له.

كان الكوكبي من نفس جيل الحسن الثاني، بل إنه ولد في نفس السنة التي ازداد فيها الملك، وهي سنة 1929، قبل أن تجمع بينهما الظروف في العديد من اللقاءات، إذ كان الراحل الكوكبي من المترددين على القصر الملكي للمشاركة في إحياء كثير المناسبات.

في سنة 1959 حين تلقى الكوكبي الدعوة من قبل الملك الراحل محمد الخامس، للمشاركة في إحدى الحفلات الفنية بالقصر الملكي بالرباط رفقة جوق النصر المراكشي، وخلال هذه المناسبة تعرف على الراحل الحسن الثاني الذي كان وليا للعهد، وهو الذي عرض على أفراد الفرقة البقاء بعد أن أعجب بأدائها.

«قال لي الراحل الحسن الثاني: «من يريد أن يتعامل معكم دائما آش يدير. فأجبته: سيدي نحن رهن إشارتكم وقتما تشاؤون». عاد الجوق مجددا إلى القصر وحل موعد عيد الأضحى والتمس منه الكوكبي ورفاقه إجازة العيد لكن الحسن الثاني قلصها إلى يومين فقط. «جاءت سيارات حملتنا مجددا إلى الرباط لنحيي سهرة فنية بالقصر، وكان في نية الراحل الحسن الثاني أن يلحقنا بالجوق السيمفوني الملكي الذي كان يرأسه الكومندان عبد القادر الرتبي».

فوجئ أفراد الجوق بشخص من القصر يفرض عليهم ارتداء الزي العسكري، وطلب منهم بناء على أوامر الحسن الثاني بتناول وجباتهم في الثكنة العسكرية بالرباط، مما أكد التحاقهم بالسلك العسكري وأصبح أعضاء الفرقة مجندين، تداول مع رفاقه مقترح الجندية وتبين أن رفضه هو عصيان قد يغضب الملك.

«تم تأهيلنا بدنيا للمهام الجديدة في المركز الرياضي بالرباط، ولم يكن ذلك في علم الحسن الثاني الذي شكوت له الأمر في ما بعد وأخبرته أنني جلبت معي أولئك الشباب باعتبارهم موسيقيين لا غير، وهكذا التحقنا بالجوق السمفوني الملكي الذي كان يشرف عليه الرائد عبد القادر الرتبي».

 

الكاملي.. غادر الأمن من أجل الفن فأخطأ الاختيار

تشبع يوسف الكاملي، من مواليد مدينة مراكش عام 1956، منذ طفولته بالفن المسرحي قبل أن يصبح واحدا من أبرز فناني عاصمة «البهجة» سيما بعدما لمع نجمه كفنان مسرحي في مسرح الهواة وقدم باقة من الأعمال المسرحية والسينمائية والتلفزيونية، عبر مشاركته في مسلسلات مغربية وسورية نال فيها إعجاب المخرجين، سيما في الأعمال العربية بسبب فصاحته اللغوية.

خاض تجربة في سلك الأمن قبل أن يعلن رفضه للضوابط الصارمة، ويفضل الفن الذي يمنحه هامشا كبيرا للحرية، بعيدا عن التعليمات التي لا تقبل النقاش، فضل التقيد بتعليمات المخرجين المغاربة والأجانب، واعتبر اختياره للفن خيار القلب والوجدان، قبل أن ينتهي به المطاف في الهامش.

قال يوسف في أكثر من حوار صحفي، إنه معاناته كانت مع بعض المخرجين المغاربة الذين يتعاملون مع الفنان المغربي بدونية وازدراء، عكس المخرجين الأجانب الذين يحرصون على منحه حقوقه كاملة، لاسيما كبار المخرجين والمنتجين السوريين الذين اشتغل معهم. ولأنه كان يرفض الاشتغال فقط من أجل ملء فراغ الزمن، فقد دخل مكرها في نفق الخصاص، سيما بعد أن أصبح اسمه ممنوعا من التداول، فلم يجد سوى البحث عن لقمة عيش خارج المحيط الفني، إذ أصبح يبيع الحلويات للصغار والسجائر للكبار في ركن من الحي الذي يقطنه، بل إنه وجد صعوبة في إيجاد غرفة تأويه وتقيه من شر التشرد، «حيث ظل يعيش في غرفة كئيبة لا تتعدى مترين، وينام فيها وتحت سقفها»، كما قال أحد أصدقائه في كتابة بحبر الألم.

الرجل الذي صفق له الجمهور وانحنى له المنتجون وطلب وده المخرجون، يعيش اليوم وضعا اجتماعيا مهينا يتطلب من المجتمع الفني التدخل لانتشاله من الهشاشة المزمنة، دون مساءلته عن مسؤوليته في اختيار الإبداع ولو تطلب الأمر الانسحاب من المحيط الأمني.

رئيس فرقة الدراجين كاتبا لأغاني رويشة

ظل حميد لمنور، الدراج الأمني المسكون بالكتابة الزجلية، يكتم ملكة إبداعه ويحاول مصادرتها عبثا حين يجد نفسه مطوقا بمسؤوليات أمنية تمنعه من الانشغال بالفن. لكن هذا الهوس سكن حميد منذ أن كان تلميذا في إحدى داخليات مدينة صفرو، حيث عرف بين زملائه بكتابة الشعر وتمثيل أدوار مسرحية خاصة في الحفلات المدرسية، وكلما تردد على العاصمة الرباط التحق بمقر الإذاعة والتلفزة حيث يعرض إبداعاته الفنية على سميرة لشهب رئيسة لجنة الكلمات التي شجعته على السير أبعد في مسار نظم القوافي.

يقول حميد لـ «الأخبار»: «حرصت على أن أختلي بنفسي كي أبدع دون أن يشعر بي الآخرون، خاصة بعد أن التحقت مبكرا بسلك الشرطة، بل إنني كنت أعرض أشعاري على برامج أدبية وفنية في الإذاعة الجهوية لفاس، وكان مثلي الأعلى هو الطيب لعلج كبير الزجالين الذي كنت أتردد عليه وأعرض عليه أعمالي حيث كان يشجعني دوما، لكنه يلاحظ وجود مسحة حزينة في كتاباتي حيث تحضر الشكوى والألم والدموع والفراق». كما كان العوني منارته في كثير من الأعمال بحكم إقامته في مدينة سلا التي قضى بها حوالي ثلاثة عقود.

تغنى العديد من الفنانين بإبداعات لمنور، ونهلوا من دواوينه على غرار الحجاوي ورأفت وأيضا الفنان محمد رويشة الذي جالسه في كثير من الأمسيات ومنحه زجلا حوله رويشة إلى قطع أمازيغية بذات المضامين التي سعى إليها لمنور.

يضيف هذا الدراج المبدع، المبحر دوما في رحاب الشعر الغنائي، إنه ظل يتستر على موهبته، حتى لا يفطن به رؤساؤه في العمل، لكنه ظل حريصا على الكتابة بالرغم من صعوبة إيجاد الوقت الكافي للإبداع الفني، بل إنه اهتم بكتابة الشعر القابل للتحول إلى قطع من فن الملحون.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى