فلسفة الهجرة (2- 2)
بقلم: خالص جلبي
إن الناس تهاجر عندما تصبح الحياة لا تطاق، والبدو يرتحلون عندما تضن الأرض بخيراتها، وتطير الطيور، حيث الحب الهضيم بعيدا عن الصيادين. ويفر البشر إلى مواطن الحرية. ويطير المال، حيث الأمان والاستقرار السياسي. وتطير العقول، حيث تجد الإمكانات والتشجيع، ولم يكن لـ«أحمد زويل» أن يأخذ جائزة نوبل في تحطيم وحدة الزمن، لو بقي يقوم بتجاربه في صعيد مصر أو مخابر القاهرة؛ فهذه قوانين مثل الانحلال والتفاعل في الكيمياء وتوازن الحموضة والقلوية في الفيزيولوجيا.
في الفيزياء ينزح الماء بين وسطين مختلفي التركيز، يفصل بينهما غشاء نصف نفوذي، باتجاه الوسط الأكثر تركيزا بالأيونات. وفي قوانين المياه المستطرقة، إذا اتصلت أوساط مختلفة الحجوم فإن الماء يتحرك حتى يحدث السواء في الارتفاع. وبرادة الحديد تنجذب حول القطب المغناطيسي تحت قانون الاستقطاب. وطيور السنونو تغادر بحثا عن الحب والدفء. وشلالات نياغارا تتدفق من عل، فتولد الكهرباء في مولدات التشغيل. والعقول تفر، حيث كرامة العلماء ومراكز البحث. والمال يطير بجناحين من يورو ودولار، حيث الأمان والنمو. فهذه قوانين وجودية لا علاقة لها باختيار وتفكير، بل هي تشفط العقول والأموال والكفاءات بأشد من تيار النينو الأطلسي، فتنهض أمم وتزول أخرى.
وعندما تمتنع على الناس إمكانية ممارسة العيش المشترك، يتشظى المجتمع ويبدأ الفرار في ثلاثة اتجاهات: من أسعفه الحظ ففر إلى الخارج ونجا. ومن انسحب «اجتماعيا» إلى الداخل، فمارس هجرة داخلية، كما تفعل القطة بإخفاء صغارها. أو من انتحر بمسبحة المتصوفة، أو كهوف تورا بورا.
والسؤال الكبير لماذا يفر الإنسان من وطنه؟ لماذا نزح موسى بشعب كامل؟ لماذا فر أصحاب الكهف فاستبدلوا الفراش اللين ببرودة الكهف، وفضلوا أن يهرب الكلب معهم فلا يعيش في مجتمع لا أمان فيه للكلاب؟
إنه كلام ليس للتسويق، ففي أيام «الحاكم بأمر الله الفاطمي» تم تدشين مذبحة جماعية للكلاب، فقتل في يوم واحد 30 ألف كلب. ونام أهل القاهرة بدون صوت كلب واحد يزعجهم.
وفي عهد «ماو تسي تونغ»، جاءت التعليمات بالتخلص من العصافير والأعشاب والشجر، فهرع الناس ضربا بالصنج والطناجر يفزعون الطيور، فلا تستطيع الجلوس على غصن، حتى ماتت إعياء. وتم تسخير كل المعارضين السياسيين لينكبوا على الأرض، فينتزعوا بأظافرهم كل أعشاب الأرض. وتم قطع ملايين الشجر من أجل إيقاد أفران لا تنطفئ لإنتاج الفولاذ، بدعوى اللحاق بأمريكا في خمس سنوات. فأهملت الزراعة إكراما لتعليمات الطاغية، ومات في ثلاث سنوات 30 مليونا من الأنام.
لماذا هاجر إبراهيم لوحده، وموسى بشعب كامل، ومجموعة من أصحاب الكهف؟ وهرب لوط فقال له الله: «ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون». لماذا دشن نوح لأهل بيته سفينة تقلهم إلى الأرض الجديدة، فلم يبق على الأرض من الكافرين ديارا؟
إن القرآن يضع فلسفة محددة لقانون الهجرة وهي إما إلى مجتمع لا استضعاف فيه، وإما بناء مجتمع لا أثر للاستضعاف فيه. وأهمية هذه النقلة أنها مضاعفة التأثير، فهي حركة تحرر للجنس البشري بدون توقف، كما فهم ذلك الفيلسوف «كانط» أن استعمار الأرض تم من خلال هجرة الناس المضطهدين (المستضعفين)، وبالمقابل فإن هذه المجتمعات أطلقت قوة لا مثيل لها من طاقة تحرير الشعوب التي فارقتها، كما انفجرت الثورة الفرنسية تأثرا بالثورة الأمريكية.
وفي آية الهجرة بعدان، «سعة» بالتحرر من ضيق الأرض والرزق والعقيدة، إلى رحابة الأرض، وسعة الرزق والتسامح الديني. وهي «مراغما»، أي قوة تجبر المجرمين وترغم أنوفهم بتغيير مسلكهم تجاه شعوبهم من المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا. فحركة الهجرة تعتبر بذلك نواة التغيير غير المباشرة والمعكوسة ضد أماكن اضطهاد الناس، فهي ضرورية، سواء طلبها الناس أو فروا إليها.
نحن نفكر لماذا تنصب على رؤوسنا المصائب؟ ولكن المشكلة تشبه قصة جحا، فلو ناقش العرب جميعا عما سيحدث، فإننا مثل من لا يملك في جيبه دولارا ويريد دخول أسواق الأسهم للمضاربة بأسهم شركة «نورتيل» أو «نوكيا».
نحن نشبه تلك الغنائم التي وضعت الألوية الرومانية يدها عليها في العالم القديم، وكانت جاهزة لأي نهاب خارجي أو مافيا داخلية، وهي تتفق مع الرؤية الكونية لابن خلدون عن عمر الدول، وكيف أنها تستمر في البقاء ليس لقوة ذاتية فيها، بل لانتفاء الطالب.
وأمريكا اليوم هي روما الجديدة، ونحن لا نزيد على كوننا أشياء مسخرة تلعب بنا ما تشاء، فقد تنصب «قرضاي» جديدا في العراق، فيحكم كاتبغا المغولي بدلا هولاكو. وقد تستبدل جنرالا جديدا في أرض الحمدانيين. أو قد تضع الزير أبو ليلى المهلهل بدل درة المتقين، أو امنحوتب بديلا عن بيبي الثاني. أو أن تمد يدها إلى بلاد التركمان، فترفع تركمانباشي الذي غير التاريخ فوضع اسمه واسم أمه بدل أبريل وجون «يونيو»، وصفق مجلس القرود له خشعا على ركبهم نصف ساعة، يستعطفونه أن يبقي على رقابهم إلى يوم القيامة. كما خرجت الملايين في استقالة عبد الناصر تطلب منه أن يتابع القيادة، بعد أن رسب في الامتحان.
إنها أمور لا تحدث إلا عندنا، ولكن من يمشي على رأسه يخسر رأسه ورجليه معا.
إن الوثنية مرض عجيب حلله، منذ عام 1562، إيتيان دو لابويسيه، فاعتبره مرضا إنسانيا مثل القراد الذي يضرب قبائل النحل، فلا يبقي قفيرا ولا عسلا.
وقف جحا يوما بين أصحابه وقال: أنا جاهز بكل الشروط للزواج من ابنة السلطان، قالوا: حسنا يا جحا وما الذي يمنعك من الزواج؟ قال: بقي شرط واحد لم يكتمل، قالوا: وما هو؟ قال: أن ترضى ابنة السلطان الزواج بي.
نافذة:
القرآن يضع فلسفة محددة لقانون الهجرة وهي إما إلى مجتمع لا استضعاف فيه وإما بناء مجتمع لا أثر للاستضعاف فيه