فلسفة اللغة المنطوقة والمكتوبة والسيميائية
بقلم: خالص جلبي
أرسل إلي الأخ (أحمد المسقطي) وهو يعقب على فكرة السلام التي أنادي بها، انطلاقا من مبدأ (ابن آدم) الذي شرحته ست آيات من سورة المائدة فقال:
«إن مبدأ ابن آدم يمثل صراعا بين الحق والباطل، أو بين الباطل والباطل، على أربعة أشكال:
ـ الأول: لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين، فهذا الرادع هو الخوف من الله.
ـ والثاني: لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك لأني أخافك. فهنا الرادع الخوف من الآخر وبطشه!
ـ والثالث: لئن بسطت إلي يدك لتقتلني أنا باسط يدي إليك لأقتلك. فهذا هو رادع التهديد.
ـ والرابع: لا أنا باسط يدي إليك لأقتلك ولا أنت بباسط يدك لتقتلني، لأننا نخاف دمارنا معا ـ مذهب العقلانية ـ فهذا الرادع هو الخوف من الدمار. فأما رادع الخوف من الله؛ فلا يمكن تعويضه أو تبديله برادع الخوف من الدمار لضمان سلام العالم، فهل رادع الخوف من الدمار وحده يبقى كافيا لإنهاء الحروب ليحل السلام في العالم، أم السلام بالإسلام الذي هو السلام الحقيقي؟
هل هذا الكلام طوباوي مثالي غير واقعي؟ لنر.
لقد تأملت كلمات الأخ الكريم، وخطرت لي خواطر في الموضوع، وهو أن أسلوب التفكير، وكيفية تناول الموضوع، يرجعان إلى نوع معين من أساليب الفهم والفكر.
فكما أن هناك لغة للتفاهم بين الناس، كذلك هناك لغة خاصة لهذا الحقل، ولكننا لم نبتكر بعد كلمة جديدة لهذا الكشف الجديد.
وهناك لغة فكرية هي ليست كلمات وحروف ونطق، وإنما إدراكات وأحكام وقواعد للوجود ولكيفية نقل التصورات.
ولا حرج أن نتعاون لفهم هذا الكشف، ثم لإعطاء اسم لهذا الكشف.
هناك ثلاث مراحل للإنسان أثناء تكونه الفكري:
ـ (الأولى) هي مرحلة نقل الأفكار بواسطة السلوك وتصرف الإنسان.
ـ (الثانية) مرحلة نقل الأفكار بواسطة الكلام باللغة الصوتية.
ـ (الثالثة) مرحلة تلقي الأفكار بواسطة الكتاب والقراءة.
ـ فأما المرحلة الأولى فتبدأ من وقت الولادة مباشرة، بواسطة المعاملة والجو المحيط بها، مثل تعلم الطفل قضاء حاجاته بواسطة البكاء.
وتحدث عن ذلك (مالك بن نبي) في قاعة المحاضرات بجامعة دمشق، بعد هزيمة يونيو 1967م، وأن هذا كان يعكس تصرفات الزعماء السياسيين لاحقا في طريقتهم لحل المشاكل، وهو ما فعله العرب في الهزيمة حين ظنوا أن الصراخ والبكاء للعالم سوف يحل مشكلتهم.
ثم يتعلم الطفل اللغة الثانية بواسطة سحنة الوجوه، وتقطيب الوجه، والابتسام والأصوات الغاضبة، أو الأصوات الراضية، بصرف النظر عن اللغة التي يتكلم بها الإنسان.
ونحن عموما ومن هذه اللغة التي تعلمناها في الطفولة، نعلم أن المتكلم غاضب، وإن كنا لا نعرف من لغته التي يتكلم بها هل هو روسي أم صيني، أم فرنسي أو شركسي؟
والطفل يمتص القيم والمواقف المرضية أو المغضبة، ومعنى العيب والحرام والعورة من موقف الناس منها وتفاعلهم تجاهها.
والطفل دائم التطلع إلى وجوه القوم المحيطين به، ليمتص أو يتعرف على السلوك المقبول أو الشائن والمرفوض، من أصوات الرضا والرفض وسحنة الوجه، بصرف النظر عن نوع الحروف المستخدمة عربية كانت أو إيطالية؛ فإذا تصرف الطفل أي تصرف التفت ونظر إلى هذه التي يمكن أن نسميها (اللغة السلوكية)، أو الفهم من المسلك والتصرف، لا بواسطة اللغة، بل لا بد من ابتكار اسم جديد لهذا الأسلوب من التلقي غير اللغة. لأن اللغة تحدث بأسلوب معين، وإلى الآن لا يوجد مصطلح مُرضي لهذا الموضوع.
البعض يسميه (إبستيمولوجيا) أو نظام الفكر، وبعضهم يسميه (اللغونة) ويمكن أن نسميه (اللغة التحتية)، أو الأسلوب العميق وغير المباشر في نقل المفاهيم عن طريق القيم والإيحاء.
والمفاهيم التي تنتقل بواسطة هذه الوسيلة، يكون إعطاءها وتقبلها عفويا مباشرا، غير واع، لا من قبل المعطي ولا من قبل الآخذ.
وكثيرا ما ننكر أننا نحن الذين أعطينا هذا السلوك أو التصرف مثل الكذب والانفعال والغضب والانهيار أمام المصائب والسرقة، فلا الطفل يعرف بدقة كيف أخذ السلوك ولا نحن نتذكر كيف نقلناه إليه.
وهذا يدفعنا إلى أن نضع هذه المرحلة تحت المجهر، تحت عنوان حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة» فأي فطرة هذه؟
إن هذه الفكرة فجرت الحنين في قلب الغزالي قديما ليكتشفها؛ فغاب في غيبته الكبرى في رحلة عشر سنوات.
وهذه المرحلة تكون في الطفل قبل أن ينطق، خلال السنتين أو الثلاث الأولى من عمره، وإضاءة هذه المرحلة لها أهمية بالغة، والناس لا يلتفتون إلى هذه المرحلة، ولا يعدونها شيئا بارزا في حياة الناس؛ لأنها غير ملاحظة وغير مهمة، وهي أكثر من مهمة وتأسيسية، ومنها يتشكل الإنسان طبقا عن طبق.
هذه اللغة من عالم اللاوعي هي التي تقود الناس في 95 في المائة من التصرفات، ولا أحد منا يشذ عن هذه القاعدة.
وهذا يدخلنا إلى إدراك شيء جديد هو متيافيزيقا التاريخ؛ فلو كان الأمر بيد (بيايزيد) الذي كان يجهز جيشا عام 1402م تعداده نصف مليون جندي لاجتياح أوروبا لفعل، ولكنه فوجئ بتيمورلنك يقفز على ظهره في معركة أنقرة، ويأخذه أسيرا مع زوجته، ويموت قهرا في الأصفاد، لأن الجنين الأوروبي كان يولد آنذاك؛ فأنقذه تيمورلنك من حيث لا يريد.
وحصل الشيء نفسه مع موسى الذي جاء إلى قصر فرعون في التابوت، ويعلق القرآن فيقول: «وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني، وليكون لهم عدوا وحزنا، ويصبح نواة تدمير لفرعون وقومه وما كانوا يعرشون». وحين نطق بوش في حربه على العراق أنه يقود حملة صليبية، فهو يذكرنا بالآية التي تشير إلى هذا العالم الخفي العميق من (السيمياء)، «ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول»، فظهر ذلك من سقطات كلماته وهو لا يشعر. وكما يقول فرويد إن اللاشعور ينز بعبارات يسهل التقاطها للواعي، وتغيب عن الساهي، فاللاوعي يفرز نفسه مثل العرق من الجلد، وكل ما يحتاجه أجهزة التقاط كاشفة ومترجمة، لما يعتلج في المشاعر الخفية حتى عن صاحبها.