شوف تشوف

الرأيالرئيسية

فلسفة الصيام كإرادة

نحن ولدنا في بيئة إسلامية رأينا آباءنا يصومون فنحن مثلهم نصلي ونصوم، ولكن السؤال المزلزل ماذا لو ولد أحدنا في التيبت أو ألمانيا أو اليابان، أو حتى الناصرية في جنوب العراق؟ يسهل أن نتصور أن أحدنا لو ولد في إيران سيكون شيعيا أو ملحدا، ولو ولد في تركيا سيكون على الأرجح سنيا أو علمانيا، ولكن هل يمكن أن نتصور أن أحدنا لو ولد في «كيرلا» بالهند لكان هندوسيا يقدس البقرة، أو من السيخ لا يستغني عن عمامته ولا يقص شعره الى الممات، ولو ولد في اليابان لكان ربما بوذيا من جماعة «الزن»، ولو ولد في ميونيخ لربما كان قسا كاثوليكيا أو غنوصيا لا أدريا؟ ولو ولد في التيبت لكان حليق الرأس يلبس الأصفر من جماعة «الدالاي لاما»، يقرع الصنج. ولو ولد في مونتريال في الحي اليهودي، لكان يهز برأسه وجسمه وهو يقرأ العهد القديم. ولو ولد في شمال إيرلندا أن يرسو مصيره بين كاثوليكي وبروتستانتي في لظى حرب أهلية؛ فهناك أقدار تتحكم فينا تدفعنا أن نفكر بعمق أمام هذا السؤال المزلزل، فنكون أكثر تسامحا مع الآخرين.

الصيام لا يخص المسلمين فقد كتب على الذين من قبلنا، ولم يكن للمسيح عليه السلام أن يدخل التجربة قبل صيام أربعين يوما، عندما سأله الشيطان أن يقلب له نظام الطبيعة؛ فيحول الحجارة إلى خبز؛ فخرجت الحكمة من ينابيع قلبه على لسانه: مكتوب ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان. والصيام ثانيا قد يكون عن الكلام، عندما نذرت مريم أن تصوم للرحمن فلم تكلم إنسيا، وهو أصعب بما لا يقارن من الصوم عن الطعام. وتم امتحان زكريا في اختبار قاس أن لا يكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا، فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا. والصيام ثالثا ليس تعذيبا للنفس، بل إعلان لولادة (الإرادة) ضد الغريزة، فلم نر قطا صام أو عشبا انتحر، وهو ما يفعله الإنسان فقد ينتحر في إعلان استقالة من الحياة، أو يصوم فيعلن حالة الجوع مختارا متضامنا مع الجياع في حديث مناقض لمواضعات الغريزة.

تخضع الآلة لمبدأ القصور الذاتي، وتمسك الغريزة بسلوك الحشرة، ويعلن الإنسان بالصيام الوعي والإرادة والحرية في مركب ثلاثي متفرد.

تتفاهم النحلة مع رفيقاتها بالرقص، فلم تعلن نحلة يوما أنها مثقفة، ويركض فأر الحقل يسعى إلى طعامه لا يعرف إلا نهم الطعام، فلم يدل بتصريح أنه مكتئب أو متشائم، ويتفرد الإنسان بإعلان الإمساك بمكبح الغرائز فلا يستجيب لندائها، (والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام).

الحرية ليست الإباحية بالاستسلام المطلق بدون قيد أو شرط أمام اجتياح الغريزة، والحرية الفعلية هي عتق الإرادة بالتخلص من إسار الضرورات، فالهبوط  لا يحتاج إلى طاقة، ولكن الصعود يحتاج إلى كل الطاقة، والطائرة عندما تنزل تستهلك أقل قدر من الوقود، وهي عند صعودها تستهلك أكبر قدر منه، والحضارة عندما تقلع تصعد على أجنحة الروح أمام لجم قيود الغرائز؛ لذا كانت الحضارات دوما ذات بعد أخلاقي، وعندما تتحرر الغرائز يبدأ حديث الروح بالانكفاء والذبول، وتبدأ رحلة السقوط بالانكباب على الملذات، في مؤشر أخلاقي على تردي الحضارة،  سنة الله في خلقه وهلك هنالك المبطلون.

من يملك نفسه يملك العالم، والغنى ليس ما نملك، بل بما نستغني عنه؛ فهذه قواعد فلسفية هامة، وكان سقراط عندما يمر في السوق ويرى الناس يتدافعون تحت حمى الاستهلاك، يصيح متعجبا: يا إلهي ما أكثر الأشياء التي لست في حاجة إليها!

في يوم تقدم الكتبة (من يشبهون السلفيين في أيامنا) إلى يسوع المسيح، ومعهم زانية يدفعونها أمامهم، وهو يشرح أفكاره لتلاميذ متحلقين حوله بخطوط يخطها على الأرض، صرخوا بأعلى صوتهم: يا معلم هذه زانية فتقدم فارجمها. كانوا خبثاء يريدون إيقاعه في أمرين أحلاهما مر، فإن قال بالرجم سقط في مصيدة مخالفة القوانين الرومانية بالتحريض على القتل، وإن امتنع خالف الشريعة الموسوية فكان هرطيقا. تابع يسوع يخط على الأرض، ثم التفت إليهم ببراءة ونطق بجملة على الطريقة الإبراهيمية بُهِت من سمعها فلم يحر جوابا: من كان منكم بلا خطيئة فليتقدم فليرمها بحجر. فالتفت إلى الفتاة التي كان قدرها أن تعيش في مجتمع بلا ضمانات، لا تجد طريقة للعيش إلا بالتكسب بجسمها: اذهبي فلا تخطئي ثانية…

إن القرآن يلتقي مع الإنجيل كما لم يفعل وعاظ الأديان عندما يختصمون؛ فالقرآن اعتبر أن الفتيات اللواتي أُكْرِهْنَ على البغاء ذنبهن مغفور، خلاف من يدفعهن إلى حفرة الرذيلة؛ فمع الإكراه لا يبقى الإيمان إيمانا ولا الكفر كفرا ولا الزنى زنا، (ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم).

وينقل عن فيلسوف التنوير لسينغ قوله: لو أخذ الله الحقيقة المطلقة بيمناه والبحث عن الحقيقة بيده اليسرى ومعها الخطأ لزاما لي، ثم قال لي اختر، إذاً لجثوت على ركبتي ذليلا ضارعا، وقلت له: يا رب بل أعطني ما في يسراك، لأن الحقيقة المطلقة لك وحدك.

خالص جلبي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى